يحن أبناء العرائش إلى عهد العرائش القديم، ويتمنون لو استمر على أن يشاهدوا مدينتهم وهي تتحول إلى مدينة بلا روح، شوارعها متسخة، وشبابها غارق في بيع وتعاطي المخدرات ومحاولات الهجرة السرية، ومآثرها آيلة للسقوط، وبنيتها التحتية شبه منعدمة.
لا يفهم أبناء مدينة العرائش، لماذا ضلت مدينتهم مهمشة لعقود، رغم أن أغلب مدن الشمال شهدت تطورا على مستوى البنيات التحتية والخدمات الاجتماعية والاستثمار وخلق الفرص، إذ أنه لازال يحتاج السكان إلى التنقل مستشفيات طنجة أو الرباط لتلقى العلاج، كما أن التعليم العمومي يعرف تدهورا كبيرا عكس ما كان سابقا، حين كانت المدرسة العمومية لعقد مضى ملجأً لأغلب تلاميذ المدينة الميسورين منهم والفقراء.
ورغم أن المدينة كانت تزخر بالعشرات من الفضاءات الثقافية، إلا أنها بدأت تقل إلى أن أصبحت معدودة على رؤوس الأصابع. ويشتكي المؤطرون من قلة الدعم والموارد المالية من أجل العمل المدني وتأطير الشباب، كما تم إغلاق كل قاعات السينما الموجودة في المدينة دون إنشاء واحدة جديدة.
البطالة والركود الاقتصادي
بنبرة موحدة يؤكد كل من تحدثنا إليهم من أبناء مدينة العرائش، أن المدينة تسير من سيئ لأسوء كل يوم، متحسرين على عقود “الاستعمار الإسباني”، ويعتبرون أن المدينة إلى حدود ثمانينيات القرن الماضي، كانت مدينة حية، بالثقافة والموسيقى والفن، وأخرجت فنانين ومفكرين ومثقفين، لكن اليوم يزورها عدد قليل من السياح خصوصا منهم الإسبان من يقصدون المدينة لاسترجاع ذكرياتهم فيها.
يقول محمد الأمين وهو فاعل جمعوي في حديثه لـ”هوامش” إنه “عند ناصية كل دروب المدينة ستجد الشباب يقضون نهارهم في تعاطي المخدرات وتبادل أطراف الحديث دون أن يكون لهم عمل أو مكان ليمارسوا فيه نشاط آخر غير الضياع الذي يعيشون فيه”، موضحا أن “الفضاءات الثقافية والرياضية شبه منعدمة، ولا توجد وحدات صناعية في المدينة تتيح فرص الشغل لهؤلاء الشباب”.
ويضيف “للعرائش كل المقومات أن تكون مدينة متقدمة، إذ لها مآثر تاريخية كانت تجذب السياح سابقا قبل أن يطالها النسيان، وحوض اللوكوس الذي كان يقال عنه كاليفورنيا المغرب بسبب حجم الإنتاج الفلاحي، ناهيك عن الصيد البحري الذي لا تستفيد منه الساكنة وأغلب منتجاته تصدر إلى الخارج”.
يسرى وهي ابنة مدينة العرائش، تعتبر أن الفرص الشغل نادرة في المدينة، رغم تشييد جامعة، إلا أن الخريجين لا يجدون مكان للتدريب ناهيك عن فرص العمل، مسترسلة “أن أغلب أبناء المدينة يسعون للهجرة خارج المدينة من خلال قوارب الموت أو ينتقلون لمدينة طنجة القطب الاقتصادي الثاني للملكة حيث يمكن أن يجدوا فرصة عمل”.
وترى يسرى وهي طالبة جامعية في تخصص العلوم الإلكترونية أنها متيقنة من كونها لن تجد عملا عند تخرجها، وأنها ستضطر لمغادرة مدينتها لتبحث عن فرصة، وإذا فضلت الجلوس بالقرب من أسرتها فلن تجد إلا عمل بـ 1500 درهم كأقصى تقدير في محل ملابس أو سكرتيرة في مكتب ما”.
وتعمل شريحة كبيرة من أبناء المدينة على مراكب صيد السمك، غير أن مدخولهم بسيط لا يكفي لتلبية حاجياتهم اليومية خصوصا بعد غلاء الأسعار، فضلا عن أن عملهم مرهون بحالة هيجان البحر وأيام محددة بالأسبوع، ومن الصعب على الصيادين فتح بيت وتكوين أسرة في هذه الظروف.
وأد الذاكرة التاريخية
تزخر العرائش بعدد كبير من المآثر التاريخية تشهد على حضارات متنوعة مرت على المدينة، كما يتواجد فيها أقدم حي تاريخي في المغرب يعود لعهد الفنيقين “مدينة لكسوس”، غير أن حالة هذه المآثر تعرف إهمالا كبيرا، فبعضها آيل للسقوط والآخر يسكنه المشردون أو أصبح مكان لتجميع النفايات.
ورغم أن وزارة الثقافة كانت قد أطلقت برامج لترميم عدد من المواقع الأثرية منها تهيئة المرر السياحي ومتحف داخل مدينة لكسوس الذي انطلق عام 2010، وترميم المتحف اليهودي، غير أن هذه المشاريع لازالت متعثرة، ولم تنتهي الأشغال بها بعد، وهو ما أكده وزير الثقافة محمد المهدي بنسعيد في زيارة له لهذا الموقع شهر مارس الماضي و”حث على استكمال ترميم أقدم مدينة في المغرب، لجعلها قبلة وطنية ودولية للسياح”.
وإذا كانت مندوبية الثقافة في العرائش قد فتحت “لكسوس” في وجه السياح، غير أن المدينة لاتزال تعيش في واقع التهميش بسبب غياب وسائل نقل من وسط المدينة، فضلا عن غياب ولوجيات خاصة بذوي الاحتياجات الخاصة إلى جانب بطاقات تعريفية للمرافق التاريخية، وفقا لما أكده أبناء المدينة في حديثهم لـ”هوامش أنفو”.
في نفس الصدد تعيش عدد من المآثر التاريخية داخل المدينة القديمة وضعية مزرية، وباتت أغلبها آلية للسقوط مما يهدد حياة الساكنة ويهدد باندثار تاريخ صمد لقرون، وفي هذا الشأن يقول أمين إن “المسؤولين في المدينة لا يحركون ساكنا لإنقاذ تاريخ المدينة من الضياع، بحيث أن صفقات الترميم تبقى حبيسة المكاتب، وحتى عندما يتقرر التدخل يكون هناك جزء كبير من هذه المباني قد سقط فعلا”، داعيا إلى “التدخل الآني لصيانة المباني التي يعيش في السكان على الأقل”.
ويعود الفاعل الجمعوي إلى سنين خلت، حيث يحكي أنه “كان للمدينة معلمة ثقافية كبيرة “المسرح الملكي، يتوفر على قاعات سينما وقاعة كبيرة خاصة بالمسرح فضلا عن عدد من الفضاءات، غير أنه تم إغلاقه، وعوض ترميمه هدم وانتصبت مكانه عمارة سكنية”.
وخلال السنة الماضية فقط، كان سيتم الإجهاز على أكبر بناية موريسكية تعود إلى العهد الكولونيالي تتموقع وسط المدينة وأريد تحويلها إلى مقر لمؤسسة بنكية، غير أن المجتمع المدني في المدينة قاد حملة من أجل ترميمها وعدم هدم ما تبقى من الذاكرة، بحيث دعت جمعية اللوكوس للسياحة المستدامة بالمدينة ذاتها، في رسالة موجهة إلى عامل الإقليم، إلى “التدخل لإيقاف هذا النزيف التاريخي، من خلال الحفاظ على الواجهة المعمارية والتاريخية للبناية التي يتربص بها الهدم، وإعادة الاعتبار إليها وإلى باقي المعالم التاريخية بالمدينة”.