الرئيسية

وفاة غامضة..القصة الكاملة للطبيب العسكري مراد الصغير

"الجمعة يوم مناسب للشهادة. لقد انتهيت يا إخوتي المغاربة". كانت هذه الكلمات آخر ما سمعه رواد مواقع التواصل الاجتماعي، من فم الناشط الفايسبوكي مراد الصغير، المعروف بلقب "الطبيب العسكري"، قبل أن يتوارى عن الأنظار، وتعلن ولاية أمن طنجة وفاته، يوم السبت 02 دجنبر، عبر بلاغ رسمي، لتغلق بذلك باب الأسئلة حول انقطاع فيديوهاته المنتقدة للسياسات والأجهزة والشخصيات الأمنية في المغرب، وتفتح في نفس الوقت باب أسئلة أخرى حول ما وراء هذه الوفاة، وقصة مغادرته إلى أوروبا قبل سنوات، ثم عودته إلى المغرب. 

خاص| هوامش:

في البدء كان بلاغ أمن طنجة

حسب بلاغ ولاية أمن طنجة، فإن السلطات المعنية علمت من مستشفى محمد الخامس في مدينة البوغاز، بوفاة مراد الصغير منذ الثاني عشر من الشهر الماضي.  وذلك إثر تعرضه لأزمة صحية، ناجمة عن أعراض صحية شديدة، حالت دون تحقق إدارة المستشفى المذكور من  هويته وبياناته التعريفية. 

ووفقا لشخص قدم نفسه للصحافي حميد المهداوي على أنه صهر مراد الصغير، فقد عثر على الأخير في حالة غيبوبة، في الشارع الرئيسي لمدار “رياض تطوان” في طنجة، في الحادي عشر نونبر. حيث نُقل مباشرة إلى قسم المستعجلات بالمستشفى، في تمام الساعة  الثانية عشرة إلا ربع، بواسطة سيارة إسعاف، وتم تقييده إثر ذلك في سجلات المستشفى تحت اسم “مجهول”. 

وأفاد البلاغ الصادر عن ولاية أمن طنجة، أن الدائرة الخامسة للشرطة بالمدينة التي باشرت بحثا في الموضوع تحت إشراف النيابة العامة المختصة، تعذر عليها هي الأخرى، التعرف على مراد الصغير؛ ما استدعى قيامها بمطابقات تعربفية آلية لتشخيص بصمات المتوفى، انتهت إلى تحديد هويته‘ على أنه  “مستخدم مقيم بفرنسا”، بناء على معطيات أدلى بها للحصول على شهادة التسجيل القنصلي من قنصلية الرباط ببوردو الفرنسية.

وأضاف البلاغ أن تحريات الدائرة، مكنت من الاهتداء إلى شقيق مراد الصغير، الذي تعذر عليه معرفة محل سكناه، قبل أن يرشد الأمن إلى شقيقتيه اللتين تمكنتا من التعرف على جثة “الطبيب العسكري”. 

“الطبيب الذي أجرى التشريح الطبي بناء على ملتمس من الدائرة الأمنية، أكد لي شخصيا، أن وفاة مراد الصغير ناجمة عن نزيف معوي حاد، ربما يكون ناتجا عن تعرضه لضغوط نفسية”، قال الشخص الذي يقدم نفسه على أنه صهر الطبيب العسكري، مرجحا أن تلك الضغوط، ربما تكون “ناجمة عن عدم قدرة مراد الصغير على الالتحاق بمهمة طبية في إحدى الجزر الفرنسية، بعد منعه من مغادرة التراب الوطني”. 

وأضاف المتحدث، في تصريحات لوسائل إعلام، أنه فور انتهاء التشريح الطبي وصدور تقريره، سُلمت جثة الهالك إلى عائلته، التي قامت بدفنه في إحدى مقابر طنجة.

وفاة “الطبيب العسكري”.. “نزيف حقوقي”؟

في السادس من دجنبر، أكد الوكيل العام للملك ما ورد في بلاغ ولاية أمن طنجة عن وفاة “الطبيب العسكري”، وطمأن إلى كون البحث مازال جاريا في الموضوع. ومع ذلك، لم تتوقف مواقع التواصل الاجتماعي، عن تداول تساؤلات متتبعي مراد الصغير، وعدد من المهتمين بحقوق الرأي والتعبير في المغرب، والتي تركزت حول ما إذا كانت وفاة مراد الصغير “نزيفا” حقوقيا جديدا في البلد؛ وما إذا كان المعني “أدى حياته ثمنا لانتقاداته للشخصيات والأجهزة الأمنية والحكومية المغربية”.

وتداول رواد مواقع التواصل الاجتماعي آخر فيديو للطبيب من شقته بطنجة، والذي رجحت مصادر متطابقة أنه نشر في نفس يوم اختفائه والعثور عليه فاقدا للوعي، أي في 11 نونبر 2023 . وفي الفيديو يتحدث مراد الصغير عن “وجود شرطيين متسمرين أمام باب شقته، ويتذرعان برغبتهما في الحديث معه لاعتقاله”، مشيرا إلى أن “نافذة الشقة ستكون ملجأه الأخير، في حال قررا كسر الباب”.   

ويُسمع في الفيديو، الذي اطلعت عليه “هوامش”، صوت شخص عرف نفسه بأنه شرطي، يتوجه إلى جار لمراد الصغير،  بالسؤال “هل يسكن هنا؟”. 

ومن خلال حديث  الجار في الفيديو، يظهر أن الشخصين الذين عرفا عن نفسيها بأنهما شرطيين لم يأتيا بزيهما الرسمي؛ فقد طلب منهما الرجل مرارا وتكرارا “تقديم ما يثبت كونهما شرطيين”. لكنهما امتنعا. ما دفعه إلى اتهامها بأنهما “لصين، أتيا رغبة في السرقة”.

وختم مراد الصغير الفيديو المذكور، بالقول بنبرة تفوح منها رائحة “الخوف”، إنه  “انتهى..وإن الجمعة يوم مناسب للشهادة”.

هذا الفيديو، حسب متتبعي الصغير وناشطين، هو مؤشر على “ثغرة” في الرواية الرسمية، تنضاف إلى عدم تمكن كل من المستشفى ودائرة الشرطة من معرفة هويته، وهو الوجه “المألوف” لدى المغاربة؛ إذ يتساءلون “كيف يعقل أن الشرطة أرسلت فردين من عناصرها إلى  شقة الطبيب العسكري، ثم يدعي بلاغها أنها لم تكن على علم بمحل سكناه؟”

وعدا عن ذلك، أعلن مراد الصغير أنه اعتقل في شهر ماي 2023، من طرف أربعة عناصر أمن بزي مدني، حينما  كان برفقة أمه في أحد مقاهي طنجة. والسبب حسب الصغير: “شكاية مغربي ينحدر من وجدة، ومقيم بإسبانبا، (..) إلى فرقة مكافحة الجرائم الإلكترونية بوجدة، بدعوى إرسال صفحة فيسبوكية تحمل اسمي  وصورتي، رسالة تنطوي على التشجيع على الإطاحة بالملك”.

ومُنع مراد الصغير بسبب هذه الشكاية، من مغادرة التراب الوطني من أجل استكمال التحقيق. كما تلقى في شقته، خلال الفترة ما بين شهر ماي وشهر شتنبر 2023،  استدعاءات  للمثول  أمام المصلحة الولائية للشرطة القضائية بوجدة مرتين، وثالثة للمثول أمام ذات المصلحة بالدار البيضاء، بسبب نفس الشكاية.

واعتبر وحيد بوحميدي الأخ غير الشقيق لمراد الصغير والمحامي بهيأة طنجة، في تسجيل مصور بثه عبر مواقع التواصل الاجتماعي، أن الحديث عن وفاة “الطبيب العسكري”، يجب أن يبتعد عن منطق “الشائعات”؛ حيث أن “ما يتداول إعلاميا كلام في الهواء، وأن العائلة دفنت فقيدها بعدما تأكد لها أن وفاته عادية ناجمة عن الاضطرابات النفسية والعقلية التي كان يتعرض لها بين الفينة والأخرى” يؤكد بوحميدي.

لكن على النقيض من ذلك قالت الجمعية المغربية لحقوق الإنسان- فرع طنجة، في بلاغ صدر الجمعة  15 دجنبر إنها تلقت شكاية مدفوعة بوثائق، من عائلة مراد الصغير، اقتنعت بأن”وفاته تحتمل شبهة الوفاة غير الطبيعية”.

وسجلت الجمعية، أن ما شكل لديها تلك القناعة، هو طول المدة الفاصلة بين وفاته وإخبار العائلة، والتي بلغت 19 يوما، إضافة إلى تقييده في سجلات مستشفى محمد الخامس على أنه “مجهول”، وهو المعروف بكونه طبيب عسكري سابق في طنجة، ب”اعتراف من مدير المستشفى نفسه”.

وأكدت الجمعية، أن عائلة مراد الصغير، تسلمت شهادة وفاة تحمل “إشارة إلى وجود عقبة طبية وقانونية، مرتبطة بحالة الوفاة ما يؤكد شبهة الوفاة غير الطبيعية”، مستغربة “حث الأسرة على الإسراع بتسلم الجثة والترخيص لها بالدفن حتى قبل انتهاء التحقيق”.

ومما يعزز شبهة الوفاة غير الطبيعية، حسب الجمعية، تصريح أحد أفراد عائلة الفقيد، تسجيلهم عند تسلم الجثة اختفاء كل وثائقه وحاجياته الخاصة؛ بما فيها البطاقة الوطنية وجواز السفر والهاتف المحمول، إضافة إلى “إتلاف ملابسه الخاصة بمستشفى الدوق دو طوفار”.

وإلى كل هذه”الأدلة”، ينضاف حسب بلاغ الجمعية ما تعرض له الراحل من “مضايقات واستفزازات وصلت حد تهديد سلامته البدنية، بحسب ما يستشف من “فيديوهاته المنشورة قبيل وفاته”.

في أوروبا تحدث الصغير عن القوة الموازية الحاكمة 

ومراد الصغير الذي أعلن عن وفاته في الخامسة والخمسين من العمر، ينحدر من حي المصلى بمدينة البوغاز، عمل طبيبا برتبة ضابط  في المستشفى العسكري بالرباط، قبل أن يطرد قبل أكثر من عشر سنوات، من صفوف  القوات المسلحة الملكية، ويحكم عليه بالسجن سنتين حبسا، إثر “حادث سير خلال أوقات العمل، ناجم عن سياقة مراد الصغير في حالة سكر، ما أدى إلى قضاء زميل له نحبه”. وهي التهمة التي تبرأ منها الصغير، وعلى إثرها قرر مغادرة التراب الوطني. 

“أنا طبيب عسكري (حراك)..سأجوب ببذلتي العسكرية كل العالم، تضامنا مع المهاجرين غير الشرعيين المغاربة. وآخذ على عاتقي، كما ينبغي أن نفعل جميعا، مهمة الدفاع عن أنفسنا، (في مواجهة)، الذين يحكمون نيابة عن الملك”، عرف مراد الصغير، نفسه في فيديو، بثه على قناته في يوتيوب (Mourad Seghir MD)، ويتجاوز عدد مشتركيها 73 ألف شخص. 

وطوال فترة تواجده خارج المغرب، وتحديدا بكل من فرنسا وألمانيا والسويد، عمل الطبيب العسكري، على الالتحاق بمهمات إنسانية لمنظمة “أطباء بلا حدود” غير الحكومية، في عدة دول كفرنسا وإندونيسيا، فضلا عن إبرام عقود عمل، آخرها كانت ستمكنه من الالتحاق كطبيب بجزيرة “غويانا”، وهي إحدى الولايات الفرنسية ما وراء البحار، قبل أن يتعذر عليه ذلك بسبب منعه من السفر خارج المغرب. 

مع ذلك، لم يتوان مراد الصغير، الذي اشتهر عند المغاربة بلقب “الطبيب العسكري”، عن نشر فيديوهات عبر قناته على منصة يوتوب، يتناول من خلالها المنظومة الأمنية والسياسية المغربية. ويكشف حسب رأيه الأشخاص الذين يشكلون “قوة موازية داخل هذه المنظومة، تجعل من الصحيح القول بأن الملك لا يحكم”، وقس على ذلك عددا من “الأسرار” و”الخبايا” داخل الجسم الأمني، التي تفرض حسب الصغير، “إحجام” من يتوجه إليهم في الغالب، وهم الشباب والطلبة، عن “ارتداء السمطة”؛ أي الانخراط في المهن العسكرية  وشبه العسكرية.

عودة غير متوقعة 

في سنة 2022، وبعد عشرات الفيديوهات، التي لا تخرج محتوياتها عما نذر “الطبيب العسكري” المهاجر نفسه من أجله؛ أي “تقديم نتائج فحص علل الجسم العسكري والأمني المغربي”، عاد مراد الصغير، إلى المغرب، في ما بدا كأنه “هجرة” معاكسة، لطائر من أوربا بلاد “الخصب الحقوقي” نسبيا، إلى أرض المغرب الإفريقية، التي شهدت باعتراف منظمات حقوقية وطنية ودولية، خلال ذات السنة “جفافا” حقوقيا، انعكس في محاكمة الناشطين الحقوقيين  والمدونين على مواقع التواصل الاجتماعي، كسعيدة العلمي ورضا بنعثمان وغيرهما، وهو الأمر الذي أدى في حينه، إلى طرح سؤال :”هل كان قرار مراد الصغير العودة إلى المغرب صادرا عن انتحارية أو بلادة منه؟”.

ويبدو أن عددا ممن طرحوا علامات استفهام حول الرواية التي قدمتها الشرطة والنيابة العامة بخصوص وفاة مراد الصغير، وطالبوا الأخيرة بتعميق البحث في الموضوع، يجيبون عن هذا السؤال بالنفي.  

ومن بينهم  الصحافي محمد رضا الطاوجني، الذي يذهب الى احتمال أن اتخاذ مراد الصغير قرار العودة، ربما يكون “صادرا عن تلقيه ضمانات من ضباط المخابرات الخارجية المغربية، أي المديرية العامة للدراسات والمستندات (لادجيد)، بإمكانية استمراره في بث فيديوهاته المنتقدة من المغرب، دون احتمال تعرضه لأي مكروه، شرط “عدم التحدث عن الملك”. 

ويشير الطاوجني، إلى أن العرض إن صح، ربما يكون قد حفز الهالك، خاصة أمام كبر والدته في السن، وحنينه إليها، وإلى أمه الأكبر: الوطن.

ومن المؤكد حتى كتابة هذا البورتريه، أن لا أحد من متتبعي مراد الصغير يجزم بمعرفة سر عودته “بشكل طوعي” إلى المغرب؛ إذ بقي طي صدره حتى رحل يوم 12 نونبر. لكن، يحدوهم الأمل أن تنتهي التحقيقات التي فتحتها النيابة في الموضوع، بكشف سر وفاته، وألا يذهب معه هو أيضا.

إقرأوا أيضاً:

من نفس المنطقة:

magnifiercrosschevron-down linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram