الرئيسية

“طالب معاشو” .. على متن كل عربة قصة

"بالاك.. بالاك…" هي أول عبارة تسمعها قبل أن تلمحه يشق طريقه بمرونة بين الحشود، وأحيانا لا ترى سوى عربته، المحملة بالسلع والأمتعة، تعبر وسط الجموع، وكأنها تسير لوحدها في أحياء و"حومات" المدينة القديمة بمراكش وأسواقها. إنه الحمّال أو كما يطلق عليه بالدارجة "طالب معاشو".

سامي صبير

العزوني عبد المالك، “طالب معاشو” سبعيني، عاصر ثلاثة ملوك، وكان خياطا في بداية طلبه للرزق، قبل أن يصاب بمرض في إحدى عينيه أفقده البصر، وخضع إثر الإصابة لعملية جراحية تبرع بتكاليفها أحد المحسنين، ورغم ذلك أضحى من الصعب عليه الاستمرار في حرفة الخياطة بسبب الإصابة من جهة، ومن جهة أخرى بسبب انتشار آلات الخياطة وتراجع الطلب على اليد العاملة، فانتقل إلى مدينة الرباط حيث تعلم إصلاح الدراجات وامتهن حرفة جديدة، قبل أن تتقاذفه الحياة ويعود أدراجه إلى “مدينة البهجة”، ولم يبق أمامه سوى مهنة الحمّال.

يقول عبد المالك في تصريح لمنصة هوامش، “قضيت في هذه الحرفة 25 سنة، ولدت في عهد الملك الراحل محمد الخامس، معظم حياتي أمضيتها في مدينة الرباط بين حرفة الخياطة باليد وإصلاح الدراجات (سيكليس)”.

“طالب معاشو” .. عمل شاق

صارت مهنة “طالب معاشو”، بالنسبة لعبد الكريم، ملاذا من أجل ضمان رغيف العيش، وإن كان مبللا بعرق أحيانا لا يعادله الأجر الضئيل الذي يحصل عليه، يقول، “كنت أحيانا أبيت في الشارع داخل العربة، هذا العمل شاق، وفي بعض الأحيان أصادف زبائن يطلبون نقل أحمال ثقيلة، ثم يدفعون بعد إيصالها عشرة أو عشرين درهما، كما أن عدد ممتهني هذا العمل تزايد، والأفضلية فيه لمن يمتلك بنية جسدية قوية تعينه على الشقاء”.

تلعب العضلات دورا أساسيا في هذا العمل، وذلك لما يتطلبه دفع العربة المحملة لمسافات طيلة اليوم من جهد، فالمعادلة في هذا العمل تقول: نقل أمتعة أكثر يساوي مدخولا أكبر، ويتراوح الأجر اليومي بين 50 و 200 درهم أي حوالي (5 و19 دولارا)، وهي بحسب عبد المالك أجر غير ثابت، وتتحكم فيه عدة عوامل مثل الوقت والجهد الذي تستطيع أن تنفقه، وحالة الطقس، والرواج الاقتصادي والسياحي الذي يتحكم في تزايد الحاجة إلى خدمات “طالب معاشو”، لنقل أمتعة السفر والبضائع، كما أن شكل وحجم العربة مهم بما يسمح بالتنقل بين دروب المدينة القديمة الضيقة، حيث الفنادق ودور الإقامة والمطاعم.

إبراهيم، أب لأربعة أطفال، أمضى 48 عاما يلاحق رزقه، بعربة يدفعها في الشوارع، ومحيط ساحة جامع الفنا بالمدينة الحمراء، يقول “في الأيام العادية أبدأ يومي من الساعة التاسعة صباحا، أشتغل مع زبائن محلات بيع السلع بالجملة، والسياح وأصحاب البازارات، في الصيف نضطر إلى التوقف عند منتصف النهار حين تشتد الحرارة، والانتظار في الظل إلى حين انخفاض درجاتها، لكي نستطيع استئناف العمل”. ويضيف “أحيانا نلتقي زبائن كراما وتكون الأمتعة خفيفة، وأحيانا أخرى تتراوح الأوزان التي ننقلها بالعربة بين 100 و300 كيلوغرام”.

ينفق إبراهيم يومه متنقلا من محل إلى أخر، ومن زقاق إلى شارع، ومن رحبة إلى موقف للسيارات، وكلما دخل بين حشد من الناس راح يردد والعربة تسبقه “بالاك.. بالاك…”، وما أن تغيب الشمس، وتبدأ المحلات والمتاجر في إغلاق أبوابها، وتشرع حياة الليل في الكشف عن وجهها، حتى يكون العياء قد انهك إبراهيم وعبد المالك، فيعودان أدراجهما في انتظار يوم آخر لا أحد يعلم قدر ما يحمل لهما من أثقال.

وراء كل عربة قصة

عندما تتجول في محيط أسواق الزرابي والجلد والمجسمات النحاسية والحديدية، لا بد أن تصادف العربات الحديدية يجري خلفها “طالب معاشو”، وهو يصرخ لتنبيه المارة من أجل إفساح الطريق “بالاك.. بالاك…”. وتعد هذه الوسيلة عملية بما يسهل التوغل في شبكة الأزقة الضيقة داخل أسوار المدينة العتيقة، ووراء كل عربة توجد قصة، تختلف فيها الشخوص والأوزان وبعض التفاصيل، وتتقاطع أخرى.

أحمد الباز، أب لطفلين، صرف خمسين سنة خلف عربة كتبت فصول واحدة من القصص، التي بدأت بلحم وانتهت بعظم، وواحد ممن تذوقوا مرارة عرق العمل صيفا وشتاء، ينقل الأثقال بعربة بسيطة.

“إذا أردت أن أسرد عليك كل الحكاية ستكون التفاصيل كثيرة، وتعود إلى سنة 1973″، كانت هذه العبارة أول شيء ينطق به أحمد الباز، في حديثه لمنصة هوامش.

في تلك السنة، كان أول يوم يبدأ فيه مسيرته كـ”طالب معاشو”، يقول “الأمر مبني أساسا على القوة البدنية، إن لم تمتلك قوة جسدية لن تتمكن من دفع العربة المحملة بالأوزان، وستتوقف عن العمل، مما يعني توقف مدخولك اليومي، ولن تجد ما تأكل أو تشرب”، وأضاف “بالنسبة لنا لا يختلف الوضع، سواء كانت تمطر أو كانت الحرارة مرتفعة، لا يمكنك أن تغيب عن العمل ولو ليوم واحد، غير مسموح لك بالمرض، عليك الحفاظ على الروتين اليومي، تبدأ العمل صباحا وتنتظر الذي يحمله لك اليوم”.

ويسترسل بعد تنهد عميق “بلغت من العمر 65 سنة، لم يعد بالإمكان التجول والصراخ (بلاك … بلاك..)، الأشخاص مثلي من المفترض أن يكونوا قد حصلوا على التقاعد”، مضيفا “في هذا العمل بمجرد أن تتوقف عن دفع العربة ينتهي أمرك”.

تبدو حياة كل من إبراهيم وعبد المالك إلى جانب أحمد الباز، مثل حلقة مفرغة يدورون في حوافها، يدفعون عربات تحمل رغيف عيشهم دون توقف، وما أن تسكن عجلات العربة حتى يتوقف المدخول. 

إقرأوا أيضاً:

من نفس المنطقة:

magnifiercrosschevron-down linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram