هوامش
منذ سنوات، سقط العديد من الصحافيين والحقوقيين والمعارضين، ضحية هذا النمط، والذي لم تسلم منه ايضا شخصيات عمومية ومشاهير، ومسؤولون حزبيون، وهو ما كشف عنه أيضا التناول الإعلامي لملف “اسكوبار الصحراء” الذي يتابع فيه رئيس نادي الوداد الرياضي، سعيد الناصيري، وعضو المكتب السياسي لحزب الأصالة والمعاصرة، عبد النبي بعيوي.
في قضية “اسكوبار الصحراء”، رغم أنها ما تزال في مرحلة التحقيق، ولم يصدر أي حكم قضائي بشأن الاتهامات الموجهة للمتابعين في الملف، إلا أن ما كان يجري في الغرف المغلقة وخلف الجدران وفي مكاتب التحقيق، قد تحول إلى مادة دسمة تتناولها المواقع الإلكترونية، والقنوات على منصة يوتيوب، انطلاقا من نسخ محاضر مسربة.
وتحولت محاضر الاستماع السرية، والمكالمات الهاتفية الخاصة، والصور، إلى سبق صحفي وانفراد، مهما فتح النقاش حول مخالفتها لأخلاقيات المهنة، قبل أن تخالف القانون.
على مدار السنوات الماضية تحول التسامح مع هذا النمط إلى قاعدة لها جمهور واسع. وبغض النظر عن كونه متورطا أم لا، تحولت الاتهامات الموجهة لرئيس نادي الوداد الرياضي، سعيد الناصيري، بعد تسريب محاضر الاستماع، ونشر محتواها في وسائل الإعلام والمنصات الرقمية، إلى “حقائق” في أحاديث المقاهي والقنوات، وتحولت أقوال الشهود والاتهامات المتبادلة بين أطراف القضية إلى صكوك إدانة، وأصبح كل معتقل على خلفية القضية، متورطا في نظر الرأي العام رغم عدم صدور أي حكم قضائي.
وهكذا تحولت العبارة الدارجة “غادي نخرجك في الجورنان”، بما يفيد التشهير، إلى ممارسة “صحافية” رائجة، أصبح معها الاعتقاد بأن “التشهير” في المغرب جنس من أجناس الصحافة، قي تسامح كبير من قبل غالبية المجتمع والسلطة.
خلال سنة 2018، أسالت قضية الصحفي توفيق بوعشرين، الكثير من المداد بعد انطلاق حملة تشهير، قالت عنها النقابة الوطنية للصحافة المغربية، في بلاغ حينها، أنها “فوجئت بنشر عدد من الجرائد الإلكترونية، لصور من التقرير الذي يتضمن الخبرة المنجزة من قبل المختبر الوطني للدرك الملكي، حول الفيديوهات المنسوبة لمدير جريدة (أخبار اليوم)، توفيق بوعشرين، والمتعلقة بتهم الاتجار بالبشر والاستغلال الجنسي”.
وأضاف البلاغ، “إذا كانت المحكمة، وفي إطار سلطتها التقديرية، قررت جعل جلسات عرض الفيديوهات، والتي توثق لصكوك الاتهام، سرية، وذلك صونا لأعراض الناس وأسرهم ومحيطهم، وحماية لكرامة الضحايا المفترضين ولقرينة البراءة بالنسبة للمتهم، فإن نشر هذه الصفحات، المرفقة بصور ممارسات جنسية، يخل بهذا الإجراء الحكيم، ويجهز على الحق في الكرامة وصون الأعراض”.
هذا بالإضافة إلى “التجاوزات الأخلاقية التي طبعت كثيرا من المعالجات الإعلامية واهتمامات شبكات التواصل الاجتماعي، حيث تجلت العديد من مظاهر عدم احترام الحق في الصورة والتشهير والقذف والإهانة في حق أطراف القضية”.
ولم يكن بوعشرين الحالة الوحيدة، ففي نفس السنة وجه الأستاذ الجامعي والناشط الحقوقي المعطي منجب، رسالة مطولة إلى رئيس الحكومة سابقا سعد الدين العثماني، يطالبه فيها التدخل من أجل الحد مما وصفه بتمادي بعض المنابر في التشهير والسب والقذف في حقه “وكأن ليس في البلد قانونا يحمي أعراض الناس وحياتهم من الاغتيال الرمزي”، مشيرا إلى استفادة هذه المنابر من الدعم العمومي واستغلاله في حملات التشهير.
وقالت منظمة هيومن رايتس ووتش في تقرير لها سنة 2022، أن مقالات هذه المنابر، “غالبا ما تتضمن إهانات بذيئة ومعلومات شخصية، بما في ذلك السجلات المصرفية وسجلات الممتلكات، ولقطات من محادثات إلكترونية خاصة، ومزاعم عن علاقات جنسية أو تهديدات بكشفها، إضافة إلى تفاصيل حميمية تتعلق بأهل المستهدفين وأقاربهم ومن يدعمهم”.
تم اعتقال وإدانة الصحافي عمر الراضي، سنة 2020، وحكم عليه بالسجن ستة أعوام على خلفية تهم الاعتداء الجنسي، وتقويض الأمن الداخلي للدولة، وتلقي أموال من الخارج، وهو الحكم الذي أيدته محكمة الاستئناف سنة 2022، كما أكدته محكمة النقض سنة 2023.
خلال فترة التحقيق والمحاكمة، كانت قضية الراضي، واحدة من أبرز القضايا التي وجدت فيها “صحافة التشهير” موضوعا “شيقا”، حيث نشرت صحف إلكترونية مقالات، لكتاب بأسماء مستعارة في غالبها، تتضمن وثائق خاصة، وسرديات حولت الفضاء الرقمي إلى ساحة محاكمة وإدانة قبل حكم المحكمة، وكذلك كان الشأن بالنسبة للصحافي سليمان الريسوني.
سليمان الريسوني صحفي مغربي معتقل، كان قد تعرض لحملة تشهير واسعة قبل اعتقاله، وكانت قناة “شوف تيفي” قد تنبأت بتاريخ اعتقاله، وكانت حاضرة لتصوير عملية اعتقاله، فيما نشرت صور معلومات طبية شخصية ومحتوى مكالمات هاتفية.
وأحصينا في هوامش أكثر من 50 حالة، من الصحافيين والحقوقيين، تعرضوا للتشهير من قبل حوالي 20 منبرا إعلاميا أغلبها يتلقى دعما عموميا.
في شهر يوليوز 2020 صدر بيان (مانفستو) وقعه أزيد من 100 صحافي مهني، يطالبون فيه السلطات العمومية، والوزارة الوصية على قطاع الإعلام والاتصال، والمجلس الوطني للصحافة، بوضع حد لـ “منابر جعلت من خطها التحريري مهاجمة الأصوات التي تزعج بعض الأطراف في السلطة”. واحتج الموقعون على البيان على “تنامي صحافة التشهير والإساءة بشكل كبير، في كل قضايا حرية التعبير والمتابعات التي يتعرض لها الصحافيون والشخصيات المعارضة، حيث كلما قامت السلطات بمتابعة أحد الأصوات المنتقدة حتى تتسابق بعض المواقع والجرائد لكتابة مقالات تشهيرية تفتقد للغة أخلاقيات المهنة وتسقط كذلك في خرق القوانين المنظمة لمهنة الصحافة في المغرب”.
وفي نفس السنة، وتحديدا في شهر نونبر، تداولت منابر إعلامية مقطع فيديو لشخص عار برفقة سيدة داخل غرفة في فندق، وزعمت أن الشخص هو وزير حقوق الإنسان سابقا، النقيب محمد زيان، ما دفع منظمات وجمعيات حقوقية إلى التعبير عن استنكارها لتنامي ظاهرة التشهير، واستغلالها في الاغتيال الرمزي، واستباحة الحياة الخاصة بشكل منظم.
وقالت العصبة المغربية للدفاع عن حقوق الإنسان في بيان، إن هذه الظاهرة قد “تحولت من حالات معزولة إلى كيان منظم محمي من قبل جهات رسمية، وحرفة تمارسها مواقع إلكترونية بعينها، تمدها بعض الأجهزة بالمعلومات وتضمن لها الحماية وعدم المتابعة”.
وفي سنة 2021 أصدر المجلس الوطني للصحافة بلاغ حصيلة سنة، اتخذ فيها 36 قرارا بخصوص شكايات تتعلق بخرق ميثاق أخلاقيات مهنة الصحافة، من خلال نشر مقالات تتضمن الإشاعات والأخبار الكاذبة، والمس بالشرف والكرامة الإنسانية، والدعوة إلى الكراهية، إلى جانب عدد من الشكايات التي توصل بها ولم يتم البت فيها وإصدار قرارات بشأنها.
بمناسبة اليوم العالمي للصحافة، أصدرت النقابة الوطنية للصحافة المغربية التقرير التركيبي حول الحريات والحقوق الصحافية، وسجل التقرير “استمرار خرق ميثاق أخلاقيات مهنة الصحافة، وتتوزع هذه الخروقات بين استهداف الحياة الخاصة للمواطنات والمواطنين، بما فيهم مسؤولين عمومين، ومطاردة الأشخاص وتصويرهم في الأماكن الخاصة المرتبطة بالترفيه. كما تواترت حوادث ادعاء وفبركة وقائع غير صحيحة بغرض التدليس والحصول على المتابعات”.
ودعت النقابة إلى “تعديل القانون المحدث للمجلس الوطني للصحافة، بما يسمح له بنشر العقوبات المتعلقة بانتهاك أخلاقيات المهنة، مع الإعلان عن أسماء المتورطين فيها، والمواقع والمنابر الناشرة لما يعد انتهاكا لها”.
وبحسب التصنيف العالمي لحرية الصحافة 2024، فإن المغرب من البلدان العربية ضمن تصنيف “حالة صعبة”، وذلك رغم تقدمه بـ15 نقطة واحتلاله المرتبة 129، بعدما كان يحتل المرتبة 144 من أصل 180 دولة سنة 2023، وكانت منظمة “مراسلون بلا حدود” التي أعدت التقرير، قد اعتبرت أن التشهير أحد الأدوات التي تستخدم لتحويل الأنظار عن القضية الحقيقية، وتعرقل العمل الصحافي، وبالأخص الاستقصائي، كما تنعكس هذه الظاهرة سلبا على الصحافة وعلى المحتوى فتجعله سطحيا فارغا بعيدا عن إنتاج مواد إعلامية معمقة.