الرئيسية

تحقيق : مجموعة “BMW” و”رونو” تتورطان مع شركة “مناجم” في فضيحة بيئية بالمغرب

إنتاج سيارات كهربائية ببطاريات مصنوعة من الكوبالت المستخرج من "مناجم مسؤولة"، ذلك ما شكل نواة استراتيجية التسويق التي اعتمدتها شركتا "رونو" الفرنسية و"بي إم دوبلفي" لصنع السيارات لسنوات. يكشف تحقيق "هوامش" التالي، بالشراكة مع موقع "روبورتير" Reporterre الفرنسي ويومية زود دويتشه تسايتونج Süddeutsche Zeitung ومحطتي الإذاعة والتلفزيون الألمانيتين NDR وWDR، عن وضع بيئي وصحي واجتماعي كارثي. تقرؤون الجزء الأول من  تحقيق "كيف يجفف الاستغلال المنجمي البلدان الفقيرة". 

هوامش I سيليا إزوار وصور بنجامان بيرني

 ذات يوم من ماي 2022، قدِم قادة شركة “رونو” الفرنسية المصنعة للسيارات لمنجم “بوازار” بمدينة ورزازات للاحتفاء بتوقيع اتفاقية شراء “الكوبالت” الموجه لبطاريات سياراتها الكهربائية. “نُصِبت خيمة بيضاء زُيّنت خصيصًا لهذه المناسبة لتستقبل حفلة كبيرة أقيمت بهذه المناسبة لاستقبال المسؤولين الفرنسيين”، يتذكر  منجمي شاب من “بوازار”.

على بعد  أمتار من مكان الاستقبال هذا، تقع قرية  بوازار العتيقة. يبدو المكان، الذي تملؤه أكوام الأنقاض والنفايات، أشبه ما يكون إلى ساحة حرب. بالقرب من بيوت الساكنة، تمتد واحدة من أكبر مكبّات النفايات السامة في المغرب، والتي لا يفصلها عن القرية سوى أسلاك شائكة. تتشكل هذه النفايات، التي تحوي مخلفات معدنية مشبعة بالزرنيخ، على شكل قشرة جافة تجرفها رياح الصحراء حتى تصل إلى المنازل. وأمام هذه الأكوام الرمادية من النفايات، أقام أطفال القرية ملعبا لكرة القدم.

هل شاهد وفد رونو هذا المنظر؟ إذا حصل ذلك، فإن هذا لم يؤثر على ما يبدو في قرارات الشركة التي أعلنت، بضعة أيام فقط من الحفل المذكور، عن توقيع اتفاقية مع شركة “مناجم” (Managem). بل وتباهت في عمليتها التواصلية حول الحدث عبر التركيز على “”توريدها المستدام” لـ”كوبالت مسؤول” من المغرب. 

بهذا تكون رونو ( Renault)  قد سلكت نفس مسار مجموعة “بي إم دابليو” (BMW) الألمانية، التي تستورد سنوياً حوالي 1500 طن من الكوبالت لإنتاج سيارات “سيدان” (“برلين”) وسياراتها “الرياضية المتعددة الأغراض” (Sport utility vehicle) وهي عادةً من نوع سيارات الدفع الرباعي تزن أكثر من 2 طن. بل إن المجموعة الألمانية تجرأت في حملتها الاشهارية الرسمية على اختيار شعار مثير لها :  “BMW، السيارة الأكثر صداقة للبيئة”، بحجة أن كوبالتها تم استيراده من “مناجم مسؤولة” بالمغرب. وتضيف الشركة أن “سلسلة الإنتاج لا تبدأ من مصانع BMW، وإنما مع استخراج المواد الخام، كـ”الكوبالت” الذي يكتسي أهمية كبيرة في إنتاج البطاريات، والذي يصلح كنموذج”.

ويا له من نموذج! بالشراكة مع موقع “روبورتير” Reporterre الفرنسي ويومية  زود دويتشه تسايتونج Süddeutsche Zeitung ومحطتي الإذاعة والتلفزيون الألمانيتين NDR وWDR، حقّقت “هوامش” في أنشطة مناجم “بوازار” والاتهامات الخطيرة التي يوجهها العمال المنجميون والنقابيون والساكنة المحلية لسنوات ضد تعدين الكوبالت من قبل مجموعة “مناجم”  Managem، التابعة للهولدينغ الملكي.

سم الزرنيخ يفتك بعمال المنجم

المنجم “المسؤول” الذي تتحدث عنه شركة “بي إم دوبلفي” ليس منجما للكوبالت فحسب، بل أيضاً وخصوصاً منجم للزرنيخ، وهي مادة مُسرطنة قوية تستخدم في صناعة المبيدات الحشرية. يُنتج المنجم حوالي 7000 طن سنويًا، مقابل 2000 طن من الكوبالت..

يؤكد عمال المناجم المتعاقدون في إطار مناولات (sous-traitance) إنهم يعملون دون وسائل حماية للجهاز التنفسي، ويتعرضون لغبار المعادن والمتفجرات. يعاني البعض منهم من أمراض جلدية يتسبب فيه التسمم بالزرنيخ، والبعض الآخر يعاني من “السحار السيليسي” (السليولوز) دون أن يتم الاعتراف بدائهم كمرض مهني. جواباً على سؤال فريق التحقيق حول وسائل حماية عمالها في هذا المنجم، أكّدت شركة “مناجم” اتخاذها جميع الاحتياطات اللازمة في هذا الصدد، من سحب الهواء في الأنفاق «إلى ارتداء وسائل الحماية التنفسية الفردية». تأكيداتٌ تنفيها حتى الصور التي تؤثت تقارير الشركة إذ يظهر فيها العمال بدون أقنعة.

ووفقًا لشركة مناجم، “فإن الخطر محدود”، فقد أكدت لنا أن “معدن زرنيخ الكوبالت لا يمثل في شكله المستقر أي خطر للتعرض للزرنيخ أو الكوبالت”. المشكلة أن أعمال التعدين تتمثل بالتحديد في عدم ترك المركبات المعدنية في شكلها المستقر. عندما يتم تحويلها إلى مسحوق بواسطة المطارق الثاقبة، ويتم سحقها وتكسيرها، تصبح جزيئات الزرنيخ والكوبالت، سامة للغاية عند ملامستها للأكسجين أو الماء.

 يرى الدكتور “آلان كاري” Alain Carré، في تصريح لنا، وهو طبيب ومختص في صحة عمال المناجم، أنه “إذا كانت الحالة التي وصفها عمال المنجم صحيحة، فإنها تندرج ضمن “إنكار مفهوم الصحة المهنية نفسها” d’un déni de la notion même de santé au travail. . إن طبيعة هذا الخام السّام بالزرنيخ مقلقة، وهي تضاف إلى السيليكا وغبار المتفجرات التي يتعرض لها عمال المناجم بشكل يومي. في مثل هذا المنجم، يضيف المتحدث، ستكون هناك حاجة إلى سحب الغبار بشكل فعال للغاية وإدخال هواء جديد والتزود بأجهزة شفط وأقنعة مهنية، بالإضافة إلى ضرورة اعتماد ساعات عمل محدودة حتى يكون كل هذا الوضع قابلاً للتحمل من طرف  المنجميين. ليس من المؤكد أن يكون هذا عمليًا أو مربحًا، مما قد يبرر التخلي عن الاستغلال بشكل نهائي في هذا المنجم” يقول ”ألان كاري” .

وتعتقد عالمة الاجتماع ومديرة أبحاث في المعهد الوطني للصحة والبحث الطبي (Inserm)  “أني تيبو-موني” Annie Thébaud-Mony، و هي مختصة في سرطانات العمل، أن هذا المنجم خطير للغاية وتضيف “في مثل هذه الحالة، يتطلب الاستغلال المسؤول للمناجم أن يكون هناك احتواء منهجي للغبار في كل مرحلة من مراحل الاستغلال وتحويل الخام. ويجب أيضًا احتواء المخلفات المشحونة بالزرنيخ والمعادن السامة الأخرى بشكل منهجي والحيلولة دون تسربها إلى التربة أو مياه الجريان السطحي”.

“تلوث خطير في الوادي”

في الجانب الآخر من هذه الفضيحة الصحية، تبدو الصورة قاتمة في وادي “ألوڭوم” وواحاته الملوثة بالزرنيخ والمعادن السّامة. لقد تم إلقاء النفايات المنجمية في النهر لعقود طويلة – منذ  استغلال المنجم تحت الاحتلال الفرنسي في ثلاثينيات القرن الماضي. وفي عام 1999، كشفت أطروحة نشرت في مدرسة الجيولوجيا في مدينة “نانسي” أن المنجم استمر في تلويث حوض  وادي “ألوڭوم” بشكل كبير على مسافة أربعين كيلومترًا. 

ووفقًا للسكان، تستمر أحواض المخلفات في التسرب إلى  يومنا هذا، خاصةً أثناء هطول الأمطار الغزيرة. وتنفي شركة “مناجم” أي “تصريف صناعي في البيئة”  من منجم  بوازار. ومع ذلك، وجدنا في الموقع العديد من المؤشرات على هذه التسريبات. والمثير للدهشة أنه عندما سأل  معدو هذا التحقيق عن التلوث الناجم عن مخلفات المنجم، ردت مناجم أن “وجود الزرنيخ طبيعي في المنطقة ولا  يتعلق بالنشاط المنجمي”.

إن الوضع في واحة الوادي، التي يبلغ عدد سكانها حوالي 47 ألف نسمة، أكثر خطورة مما تدعي الشركة. ففي إطار هذه التحقيق، قمنا بقياس التلوث، الذي ندد به السكان، من خلال تحليل عينات من المياه والتربة. وقمنا بتحليل بعض العينات بمختبر تحليل المياه “Lab’Eau” في فرنسا والبعض الآخر بمركز Helmholtz لأبحاث البيئة في ألمانيا.

أخذنا العينات من واحة يقطنها 1400 نسمة على بعد 7 كيلومترات أسفل المنجم، وكشفت هذه التحاليل أن تربة بستان يقع على ضفاف الوادي في سيدي بلال، تحتوي على سبعة أضعاف القيمة القصوى التي حددتها الهيئة العليا للصحة (25 ملغ/كغ من التربة). في هذه المنطقة، يلعب الأطفال ويذهبون إلى المدرسة على أرض تحتوي على ستة أضعاف من عتبة الزرنيخ.

البستان الذي أخذت منه العينة

ومع كل فيضان، تحمل مياه الوادي مواد رملية إلى حوض السقي الذي تستغله ساكنة واحة سيدي بلال. ويا ليتها طميًا خصبًا، فالبقايا ليست سوى مخلفات التعدين التي قطعت عدة كيلومترات، لتحمل معها مستويات عالية من الكروم والكوبالت، وكلاهما مواد مسرطنة، والأخطر 1300 ميلغراماً من الزرنيخ في كل كيلوغرام، أي نسبة أعلى 52 مرة من العتبة ! [1]

نتائج التحليلات

بالنسبة إلى أخصائي علم السموم “جيليس مانكانتي” الذي تحدثنا إليه، فإن “هذه المستويات من الزرنيخ هائلة ومثيرة للقلق”، مضيفا “إني أقوم بإجراء تحليلات بانتظام على مواقع صناعية ملوثة لتأمين عمليات التنظيف، لكنني شخصيًا لم أر مثل هذه التركيزات من قبل. عندما تكون التربة ملوثة بهذا المستوى، فإن خطر التسمم عن طريق الاستنشاق  يكون واردا بشكل كبير. ويمكن للأشخاص الذين يتنفسون هذه الجسيمات تطوير أعراض التسمم المزمن بالزرنيخ (أمراض الجلد، السرطانات …) أو التسمم الكوبالت (أمراض الكبد) “.

إن نتائج تحليلات المياه لا تقل عن النتائج التي أظهرتها تحليلات التربة. فقد أظهرت النتائج أن العديد من الآبار في سيدي بلال تحتوي على تركيزات من الزرنيخ السام، تزيد عن 0.4 ملغ/لتر، أي أكثر من 40 مرة القيمة القصوى المسموح بها في المياه الصالحة للشرب. وتستخدم هذه الآبار لري النخيل والبساتين، كما أنها توفر مياه الشرب للسكان الأكثر فقرًا في المنطقة.

نتائج التحليلات

في المقابل، فإن المياه الجوفية التي تم أخذ عينات منها على بعد 20 كيلومترًا من هناك، خارج نطاق المنجم، تحتوي على تركيز أقل من العتبة، مما يخالف ادعاءات شركة مناجم بشأن ما قالت عنه بأن “الزرنيخ طبيعي في هذه المنطقة”.

ويؤكد الرابط بين هذا التلوث والنشاط المنجمي تحليل المياه التي تم جمعها في نفس الوادي بالقرب من المنجم. فهي تحتوي على 18.9 ملغ من الزرنيخ، أي 1890 مرة أعلى من العتبة! ولا يتذكر البروفيسور الكيميائي “وولف فون تيمبلينغ”، الذي يدير تحليل المياه في مركز “هيلمهولتز لأبحاث البيئة” منذ عشرين عامًا، “أنه وجد من قبل مثل هذه التركيز من الزرنيخ في عينة سابقة”.

وولف فون تيمبلينغ

“رونو” و “بي إم دبليو”  لم تدققا 

يُفترض أن تحدد الشركات الكبرى المخاطر المرتبطة بالتوريد في فرنسا وألمانيا، مثل تلك المتعلقة بانتهاكات حقوق الإنسان والصحة والبيئة. ويجب عليها اتخاذ إجراءات للحد من العواقب  الخطيرة الناجمة عنها. ويلزمها القانون الفرنسي لعام 2017 بوضع وتنفيذ خطة تهدف إلى منع الأضرار الجسيمة المرتبطة بممارسات مورديها ومقاوليها، ويجب أن يقوم بها طرف ثالث من بداية سلسلة التوريد إلى نهايته. وإذا كانت “رونو” و”بي إم دبليو” قد  قادتا حملة تواصلية كبيرة بشأن توريدها “للكوبالت المسؤول”، فماذا فعلتا للتأكد من أن هذا المفهوم واقعي فعلا؟

سافرت “رونو” إلى بوازار في عام 2022 لحضور حفل استقبال، لكنها لا تبدو أنها أجرت تدقيقًا على الموقع. وعندما سألتها خمس صحف معًا، ردت المجموعة بنسخ ولصق من بيانها الصحفي قائلة إنها تؤكد أن “إنتاج الكوبالت الخاص بمجموعة مناجم تم اعتماده وفقًا لمعايير ما يسمى بـ”مبادرة المعادن المسؤولة”، من خلال “تقييم قامت به مجموعة “إيكوفاديس” Ecovadis، مضيفة أن “شركة مناجم عضو في تحالف الكوبالت العادل”.

ماذا تعني هذه الشعارات الرنانة؟ “مبادرة المعادن المسؤولة” لا تقوم بأي تدقيقات في المواقع المنجمية لكنها تقتصر فقط على المصانع، ولهذا السبب، تؤكد لفريق هذا التحقيق أنها لم تجمع “أي عناصر عن منجم بوازار”. 

وإن “تحالف الكوبالت العادل” هو منظمة يدفع أعضاؤها مساهمة صغيرة لتحسين مناجم الكوبالت في جمهورية الكونغو الديمقراطية: أي أنها لا علاقة لها بمنجم بوازار. 

ولا تقوم شركة Ecovadis الفرنسية المتخصصة في تقييم الشركات بعمليات تدقيق في الموقع المنجمي أبدًا، بل توظف فريقًا من الخبراء الذين يجمعون المعطيات لتقييم الشركات. وعندما سألها فريقنا، أوضحت أن هذه التقييمات “ليست شهادات ولكنها مجرد مستويات أولية من المعلومات عن الموردين”.

« كان على رونو أن تكون حذرة »

في جميع الأحوال لا يمكن للشركات أن تتخلى تمامًا عن التزاماتها بموجب واجب اليقظة من خلال تسليط الضوء فقط على الشهادات التي أجراها طرف ثالث، كما تقول المحامية المتخصصة في قانون البيئة “كليمنتين بالديون”، خاصة إذا كانت هذه الشهادات مشكوك في أمرها، أو إذا كان هناك خطر مؤكد، أو إذا كان الأمر يتعلق بشراكة استراتيجية. في مثل هذه الحالة، يبدو من المعقول أن نطلب تضمين تدابير اليقظة للشركات وإجراء تدقيق في الموقع”. 

ماذا عن BMW، التي تشتري الكوبالت من المغرب منذ عام 2020، وتعتمد استراتيجية التسويق الخاصة بها إلى حد كبير على المواد الخام المستدامة وتوريد الكوبالت “المثالي”؟ “في يونيو 2022، قام ممثلو مجموعة BMW بزيارة منجم بوازار، وردت الشركة المصنعة على فريقنا أن ” الأمر  لم يكن يتعلق بفحص مفصل للمعايير البيئية والاجتماعية في بوازار. مضيفة “بشكل عام، كان لدى زملائنا  في BMW انطباعًا إيجابيًا عن المنجم ولم يتمكنوا من تحديد أي مشاكل بارزة”.  

لقد دحض تحقيقنا هذا “الانطباع الإيجابي” الذي قالت عنه BMW  بمعدلات الزرنيخ التي تم رصدها في المنطقة، في التربة والمياه، والتي أبلغنا عنها BMW. 

وقالت لنا شركة BMW أنها “طلب فحصًا كاملاً من موردها” وأنها مستعد “لمطالبة تدابير مضادة فورية” لتحسين الوضع البيئي والاجتماعي في  بوزار.”

تطّلعون على الجزء الثاني غداً.

إقرأوا أيضاً:

من نفس المنطقة:

magnifiercrosschevron-down linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram