الرئيسية

على وشك العبور.. قصة النقل القاسي لمهاجرين من سياج سبتة إلى الرشيدية

مهاجرون أفارقة من جنوب الصحراء ينتشرون في محيط المحطة الطرقية بالرشيدية، أو يستظلون بنخيل الحديقة الموجودة أمامها، أو يتسولون عند أحد مفترقات طرق المدينة. ماذا يفعلون هنا ؟ هل تتم عمليات نقلهم في ظروف إنسانية؟ هل تنجح في "زرع" المهاجرين، في المدينة الواحية ونسف أحلامهم بالعبور إلى الضفة الأخرى من المتوسط؟ لماذا انتشرت ظاهرة تسول المهاجرين في هذه المنطقة الفقيرة؟..أسئلة من بين أخرى، انتقلت "هوامش" إلى الرشيدية؛ والتقت بمهاجرين نقلتهم السلطات إلى هذه المدينة، بغية الإجابة عنها.

محمد حميدي- الرشيدية:


ماذا يفعلون هنا ؟ هل تتم عمليات نقلهم في ظروف إنسانية؟ هل تنجح في “زرع” المهاجرين، في المدينة الواحية ونسف أحلامهم بالعبور إلى الضفة الأخرى من المتوسط؟ لماذا انتشرت ظاهرة تسول المهاجرين في هذه المنطقة الفقيرة؟..أسئلة من بين أخرى، انتقلت “هوامش” إلى الرشيدية؛ والتقت بمهاجرين نقلتهم السلطات إلى هذه المدينة، بغية الإجابة عنها

خبزة وقطعة جبن..عشاء الرحلة

“وصلنا إلى الرشيدية يوم الاثنين 23 أكتوبر على الساعة الثالثة صباحا، بعد سفر شاق على متن حافلة انطلقت بنا من الدار البيضاء. لم تمدنا السلطات خلاله سوى بخبزة صغيرة وقطعة جبن (فروماج)، وعصير لا يتجاوز ثمنه ثلاثة دراهم” يقول المهاجر السينغالي أميد علي، الذي التقته “هوامش” ورفاقه الذين نقلتهم السلطات إلى الرشيدية، مضطجعين، في ظل نخيل الحديقة الموجودة أمام المحطة الطرقية للمدينة.

ويضيف أميد علي، 22 سنة، بصوت متعب: “قلة من الذين نقلتهم السلطات المغربية إلى هنا، استطاعت شراء ما يخفف عنها الجوع. أما الأغلبية فقد اكتفت بما قدمته السلطات، وبما فضل عن مشتريات من معهم”. فيما لم يتم منح المهاجرين، حسب المتحدث، الكمية الكافية من الماء.

يصمت محدثنا قليلا، ثم يقول ل”هوامش” وقد اختلط اليأس بالتعب في صوته، “فشلت مرتين. الأولى حينما تمت إعادتي إلى الدار البيضاء…والثانية، عندما  جرى نقلي ثانية (من سياج سبتة) إلى هذه المدينة البعيدة (الرشيدية) التي لا نعلم كيف نتدبر فيها أمرنا كما كنا نفعل في الدار البيضاء”. 

وأميد علي واحد من المهاجرين الأفارقة جنوب الصحراء، الذين تم إجلاؤهم من الغابات المحاذية لسياج سبتة، قبل أن يتم تسليمهم للسلطات، التي قامت بنقلهم ليلة الأحد إلى الاثنين، إلى مدينة الرشيدية. ويتحدث هذا المهاجر، عن أن هذه المرة هي الثانية التي يتم نقله فيها من غابات سبتة، بعد أن جرى ذلك من قبل، من ذات المكان، إلى  مدينة الدار البيضاء. 

أما عبد الكريم بالدي، وهو مهاجر سينغالي، حلّ بالمغرب قبل ثلاث سنوات، فيقول لـ”هوامش” إن السلطات عبر قرارها نقلنا، قد فرضت علينا البقاء هنا، وبددت حلمنا  في العبور إلى أوربا لتغيير مشاهد البؤس التي كنا نراها في وجوه آبائنا وإخوتنا”، خاصة وأن عبور سياج سبتة كانت بمثابة الملاذ الوحيد لتحقيق حلم المهاجرين “الذين لا يملكون المال الكافي للهجرة عبر البحر”.

ويلقي المتحدث باللوم أيضا، على مستخدمي المحطة، قائلا “طلبوا منا مغادرتها منذ وصولنا، ولا يريدون حتى أن يتفاوضوا معنا على تخفيض أثمنة التذاكر إلى الدار البيضاء، أو الرباط التي يرغب بعضنا في العودة إليها..لقد اقترحنا عليهم أن يمدهم كل مهاجر بخمسين درهما، وهي أقصى ما تبقى لدى الكثير منا، لكنهم طلبوا منا 150 درهما للتذكرة”.

أمام قطع المتحدث الأمل في الحصول على تذكرة للعودة، يستذكر بحسرة أنه “في الدار البيضاء، على الأقل، كنت أكسب في بعض الأيام خمسين درهما من أعمال مختلفة (حمل البضائع، تنقية الحدائق..)، وإن كانت أيام العمل غير متصلة؛ حيث كنت أشتغل أحيانا ثلاثة أيام، ثم أظل عاطلا لمدة أسبوع”، ثم يبدي بالدي هو الآخر تخوفه على مصيرهم في هذه المدينة التي يطؤونها لأول مرة، متسائلا، باستغراب “بأي معيار ينقلوننا إلى هنا؟”. 

عمليات الترحيل.. انتهاك للقانون؟

في تصريح ل”هوامش” يعتبر الناشط الحقوقي و المختص في قضايا الهجرة، شكيب الخياري، أن إبعاد المهاجرين غير النظاميين وبعض النظاميين، من المناطق المحيطة بكل من مليلية وسبتة،  ينطلق من رغبة الدولة في “منع تجمعهم ومحاولاتهم اختراق الحواجز السلكية المحيطة بالثغرين المحتلين؛ ومن ثم “ضمان احترام الاتفاقيات الدولية التي أبرمتها الدولة في هذا الصدد”.

وعن مدى تلاؤم عمليات النقل مع الاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان، يلفت الخياري إلى  أن تمتع المهاجر بحرية التنقل، المنصوص عليها في المادة 12 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، مشروط بكون تواجده في البلد نظاميا. عدا عن أن هذا الحق حسب المتحدث، قابل للتقييد المتناسب  بموجب الفقرة الثالثة من ذات المادة، إذا كان (التقييد) ضروريا “لحماية الأمن القومي أو النظام العام أو الصحة العامة أو الآداب العامة أو حقوق الآخرين وحرياتهم”، ولا يخالف “الحقوق الأخرى المعترف بها في هذا العهد”.

ويضيف الخياري أن “المادة 41 من القانون رقم 02.03 المتعلق بدخول وإقامة الأجانب بالمملكة المغربية وبالهجرة غير النظامية نصت على الحق في إخضاع الأجنبي غير الحاصل على بطاقة الإقامة لمراقبة خاصة، بسبب تصرفه أو سوابقه، وبالإضافة إلى ذلك فيمكنها أن تقرر منعه من الإقامة بإقليم أو عمالة أو أكثر، أو أن تحدد له داخل هذه الأخيرة المناطق التي يمكنه أن يقيم بها بحيث لا يمكنه الخروج منها دون التوفر على جواز مرور مسلم من قبل مصالح الشرطة أو من قبل مصالح الدرك الملكي”.

“لم نأت هنا (المغرب) للقيام بشيء سلبي، أو مناف للقانون، حتى التصرفات العنصرية التي تلقيناها من بعض من مستخدمي المحطة، والتي توحي على أنهم يعتبروننا كالحيوانات، قابلناها بالهدوء وتأكيد حسن نيتنا”. هذا ما قاله المهاجر السينغالي عبد الكريم بالدي، في ما يبدو ردا على المواد القانونية المذكورة، التي “تبرر” بها السلطات المغربية عمليات النقل. بينما  يذهب نشطاء حقوقيون ومهاجرون آخرون، إلى أن تلك المواد “لا تشفع” لها، لنقل المهاجرين “كيفما اتفق إلى وجهات لا فرص فيها حتى لبعض قاطنيها”.

جولة “يائسة” للبحث عن تذكرة العودة

بجانب مقهى في المنعطف المحاذي للحديقة، صادفنا مهاجرَين آخرين نُقلا في الحافلة، التي قدمت إلى الراشيدية، هذا الصباح. بعينين سيجتهما الهالات السوداء، يقول أحدهما، وهو مهاجر سينغالي، إسمه داوود كيغيتي، “منذ شروق الشمس ونحن نذرع الراشيدية، حيا حيا، ولم نجد حتى الآن من يوفر لنا فرصة عمل”.

ويسترسل العشريني، كيغيتي، “جميع من استفسرناهم عن عمل من البقالين وأصحاب المحلات التجارية والمقاهي والمطاعم… كانوا يلقون في وجهنا عبارة “الخدمة والو””.

“لا يمنحوننا عملا، لأننا مهاجرون”. هكذا، وبنبرة توحي باليقين، ينخرط في الحديث، رفيق داوود، المالي أبو بكر ديار،  مفسرا عدم تمكنهما من إيجاد فرصة عمل في عاصمة درعة تافيلالت.

وخلافا لما يذهب إليه ديار، ذو التسع عشرة سنة، يعتقد ناشطون حقوقيون بالراشيدية، أن “هشاشة” الوضع الاقتصادي  بالمدينة، تساهم بدورها، في عدم تمكن المهاجرين الذين تم نقلهما  إليها من إيجاد شغل؛ إذ أن أغلب السكان النشيطين في جهة درعة- تافيلالت، عموما، “إما هاجروا إلى مدن مغربية أخرى، أو هاجروا إلى الخارج. ومرد ذلك إلى السياسة الاقتصادية والاجتماعية الفاشلة التي أدت إلى الفقر والبطالة واليأس” يقول الناشط الحقوقي، يونس قادري. 

ويعتبر قادري، وهو عضو الجمعية المغربية لحقوق الإنسان- فرع الراشيدية، في تصريح لـ”هوامش” أن كون عمليات نقل المهاجرين تتم إلى “مدن يهاجر شبابها نحو مناطق اخرى، وتعاني من الإقصاء والتهميش، يجعلها تنطوي على إعادتهم إلى نفس الأوضاع التي دفعتهم إلى هجر أوطانهم”. 

هذا المعطى، أي كون الراشيدية وجهة “خاطئة” لعمليات نقل المهاجرين، هو ما يدفع المتحدث إلى اعتبارها “خرقا غير منطقي للقانون”، ومؤشرا على “فشل السياسات المتخذة من قبل الدولة في ما يخص ملف الهجرة”. 

التسول..رهان خاسر؟

على بعد 15 دقيقة عن المحطة الطرقية، يشكل مفترق الطرق، أمام محكمة الاستئناف بالراشيدية، “محجا”  يتردد عليه بشكل يومي، المهاجرون الذين طال مقامهم، نسبيا، في هذه المدينة، ورأوا في التسول خلاصا، لتأمين تذكرة العودة إلى إحدى مدن الشمال.  

يجلس المهاجر المالي إبراهيم كيتا (28 سنة)، وشقيقته عائشة (26 سنة)، تحت شجرة على الرصيف، ويعدان الدراهم التي حصلا عليها من التسول. إنها لا تتجاوز العشرة؛ كانت الخيبة بادية على محياهما، خيبة دفعت بعائشة إلى وسط الشارع من جديد.

“نحصل يوميا ما بين عشرين وثلاثين درهما. لقد نُقلنا إلى الراشيدية منذ شهر. لكن لم نتمكن حتى الآن من جمع 540 درهما اللازمة للعودة إلى طنجة” يقول إبراهيم لـ”هوامش”، بينما عيناه مركزتان على الشارع، تترقبان بأمل، أي قطعة نقدية قد تعبر نوافذ إحدى السيارات إلى يد عائشة. 

ثمة ما قد يجعل رهان المهاجرين الشقيقين على التسول، غير خاسر دائما؛ إذ يضيف المتحدث: “يحالفنا الحظ أحيانا، فيتكلف أحد المارة بوجبة غذاء في مطعم. وبالتالي ندخر الدراهم التي خصصناها لها”.

البرد والأمطار يفاقمان المعاناة

معاناة الشقيقين الماليين هي نفس معاناة باقي المهاجرين الأفارقة جنوب الصحراء في الرشيدية، الذين لا يتمكنون سريعا من تأمين تذكرة العودة، هي معاناة مزدوجة؛ إذ في غياب مراكز الاستقبال، لا يجدون مكانا للمبيت  فيه غير الشوارع، أو الحديقة المحاذية للمحطة الطرقية.

ولذلك فإن الرضا الذي يبدو على إبراهيم كيتا، حينما يثني على ساكنة الرشيدية “التي لا تعمد إلى إزعاج المهاجرين، حين مبيتهم في الحديقة أو أحد شوارع المدينة،” يتبدد حينما يبدي ل”هوامش” عدم قدرته ورفاقه، على مواجهة البرد القارس وتساقط الأمطار خلال فصل الشتاء الذي يتهددهم في تلك الأماكن؛ “إذ لم توفر السلطات لهم لا أفرشة ولا أغطية”.

بينما كنا في انتظار الحافلة لمغادرة الراشيدية، بدأت أولى نذر ما يتخوف منه إبراهيم: أخذت الأمطار تتساقط  بغزارة. فابتل عشب وكراسي الحديقة، بينما هرع أميد وعبد الكريم ورفاقهما إلى داخل المحطة الطرقية، واستندوا إلى أحد حيطانها، رافعين إلى مستخدمي المحطة، عيونا تتساءل، ربما: “هل سنترك لبرد الحديقة، مجددا، إذا توقفت الأمطار؟”

إقرأوا أيضاً:

من نفس المنطقة:

magnifiercrosschevron-down linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram