الرئيسية

“أنا ريحانة، ولدت ونجوت من الحرب.. أناشد من أجل ترحيلي إلى المغرب”

أمر طبيعي أن تنفرج أساريرك وتبتسم حين تشاهد طفلا مغربيا في الغربة يتحدث عن شوقه للمغرب، ولو بدارجة مغربية "مكسّرة"، لكن من المؤكد أن قلبك سينفطر حتى أن عيناك ستدمعان، حين تشاهد فيديو ريحانة، وهي طفلة مغربية عالقة في تركيا، لا تملك أوراقا ثبوتية، لكنها تحمل شوقا مغربيا قد يهدّئ الجبال التي اهتزت ذات مساء في الحوز، عليك أن تتمالك نفسك قبل أن تسمعها وشقيقتيها يرددن ببراءة "بغينا نمشيو للمغرب"، دون أن يدركن أن المغرب لحسابات لا يفهمنها لا يرحب بهن إلى حدود الآن.

محمد تغروت

ببراءة وأمل تحمل ريحانة الهاتف، تصور نفسها وشقيقتيها، وتقدمهما للمشاهدين بفرح طفولي لا تكدره تعقيدات الإجراءات الإدارية، “ها هي أريج، ها هي زينب، احنايا محرومين من المدرسة، عافاك ساعدنا يا جلالة الملك، اشنو هي أمنيتكم؟”، تسأل ريحانة شقيقتيها اللَّتانِ تلقيان الجواب في قلوب من يشاهد  الفيديو “نمشيو للمغرب، نمشيو للمغرب”.

هذا ما نشاهده في المقطع القصير الذي شاركه الزبير الحسناوي، والد ريحانة وأريج وزينب، على منصات التواصل الاجتماعي، مناشدة للجميع من أجل ترحيل بناته إلى المغرب واستعداده لدفع أي ثمن كان، مقابل أن ينعمن بدفء الوطن.

 الطفلة تتحدث كما يتحدث جميع أبنائنا، بلهجة مغربية تناسب سنها، إنها تشبههم تماما، لكن ربما تدرك أن عليها أن تثبت الشبه والانتماء وتبصمه بمشاعر لا تشوبها شائبة، تفعل ذلك بابتسامة وهي تلون علم المغرب في بداية المقطع، قائلةً “كنلون علم المغرب، بغيت نمشي للمغرب عمري ما شفتو”. يسألها والدها “لماذا؟”، فتجيب بعفوية “باش ندرس مع صحاباتي”.

ريحانة.. زهرة ولدت في أتون الحرب

ولدت ريحانة بعملية قيصرية، في يونيو 2015، بعد مرحلة حمل صعبة، وفي سياق أصعب، فحينها بدأت الجماعات المسلحة التي كانت تقاتل قوات بشار الأسد تخسر مناطق سيطرتها، بعد امتصاص النظام السوري للصدمة من جهة، وتكثيف غاراته الجوية على المناطق التي فقدها خلال السنوات الماضية، ومن جهة ثانية انتصرت وحدات “حماية الشعب” (الكردية) في معركة تحرير كوباني، وبدأت تبسط سيطرتها على مناطق واسعة في الشمال والشمال الغربي السوريين.

“لك أن تتخيل المستشفى الذي أُجريت فيه العملية القيصرية، في بلد يعيش حربا طاحنة”، يقول الزبير الحسناوي لمنصة “هوامش”، ورغم الظروف المؤلمة حسب وصفه، نجت الأم من العملية وولدت ريحانة، وبعدها كان عليها أن تعبر اختبارات نجاة عديدة.

يتذكر الزبير أن تلك الفترة كانت تشهد تصاعدا في القصف الجوي لقوات بشار الأسد، وهي الفترة التي عرفت بغارات “البراميل المتفجرة”، ويذكر الزبير أنه بعد أسابيع قليلة من ولادة ريحانة، “تعرض محيط المنزل الذي كنا نقطنه للقصف”.

“كنت خارج البيت وبلغني أن الطائرات استهدفت الحي الذي نسكنه، عدت مسرعا والوساوس تنهشني، كان البرميل المتفجر قد دمر البيوت المجاورة، لكن بيتنا نجا بأعجوبة ونجت معه ريحانه وأمها”، يقول الزبير، مضيفًا، “كان صوت الانفجار مرعبا، وجدت زوجتي في حالة هلع، وريحانة لم تتوقف عن الصراخ والبكاء”.

البراميل المتفجرة

أطلقت ريحانة صرختها الأولى في إحدى قرى محافظة إدلب، كان والداها قد عادا قبل فترة من تركيا، فقد عانت الأم مشاكل صحية، ولم يكن هناك مجال لعلاجها في سوريا، فضلا عن أن الزبير كان قد اصطدم بواقع مختلف عن الذي تصوره.

في نهاية سنة 2013، وصل الزبير -الذي لم تكن له علاقة بأي تنظيم في المغرب حسب قوله- إلى اللاذقية، شمال غرب سوريا، “لم أكن أنتمي إلى أي تنظيم، ولم تكن لي أية علاقة بالفكر الإسلامي عموما، وفي تلك الفترة أخذني الحماس بفعل الشحن والدعاية الإعلامية للقضية السورية”، يؤكد في حديثه لـ”هوامش”.

في الجامعة اختار الزبير التخصص في الدراسات الإنجليزية، أما زوجته، التي التحقت به في سوريا، والتي تعرف عليها في فترة دراستهما، فقد كانت تدرس علم النفس، هي بدورها لم تكن لديها علاقة بالفكر الإسلامي، بل إنها “حين ذهبت إلى سوريا لم تكن ترتدي الحجاب أصلا” يقول الزبير.

حين وصل الزبير إلى سوريا، انضم بشكل تلقائي كحال معظم الشباب المغاربة إلى فصيل “شام الإسلام” الذي أسسه إبراهيم بنشقرون، “لم أكن أعرف إلى أين أذهب، كنت أتواصل مع صديق يتواجد معهم وحين ذهبت التحقت بهم”، يسرد الزبير الذي قضى قرابة سنة في صفوف التنظيم ثم “أيقنت أنني اكتفيت”.

إبراهيم بنشقرون مؤسس فصيل “شام الإسلام”

كان مرض الزوجة عذرا مناسبا ليبتعد الزبير عن “شام الإسلام“، بعدما اكتشف الشاب “ممارسات لا علاقة لها بالأخلاق والإنسانية، كنت أبحث فقط عن فرصة للخروج من هناك”. قضى شهرين في تركيا، وحين عودته قرر البقاء قريبا من الحدود، فقد بدأ التفكير في مغادرة سوريا يشغل باله، لذلك استقر في إحدى قرى إدلب.

في منتصف سنة 2015، انضم إلى فصيل “أبناء القادسية“، أحد فصائل “الجيش السوري الحر”، وانتقل حينها إلى قرية “القنية” ذات الأغلبية المسيحية، في منطقة جسر الشغور بمحافظة إدلب، والتي تبعد حوالي 50 كيلومترا عن الحدود التركية، “فضلت في تلك الفترة أن أتواجد مع السوريين الذين يحركهم دافع وطني، لكن حينها بدأت أعين الجماعات الإسلامية تتعقبني وعلى رأسها جبهة النصرة”، يشرح محدثنا، “لكنني قضيت بضعة شهور فقط وقررت الانتقال من تلك المنطقة بسبب مضايقات جبهة النصرة، التي آخذتني على انضمامي لفصيل تختلف معه، ومكوثي بين المسيحيين، في ذلك الوقت كنت قد رزقت بريحانة وبدأت أفكر في العودة إلى المغرب”.

قرية القنية حيث كان يسكن الزبير (خريطة سنة 2015)

حين بدأ محدثنا يفكر في العودة إلى الوطن، كان المغرب قد أقر تعديلا على قانون المسطرة الجنائية المتعلقة بمكافحة الإرهاب، في ماي 2015، والذي يجرم الالتحاق أو محاولة الالتحاق “بكيانات أو تنظيمات أو عصابات أو جماعات، إرهابية”، ويعاقب على ذلك “بالسجن من خمس إلى عشر سنوات وبغرامة تتراوح بين 5.000 ‏و10.000 ‏درهم”.

في تلك الظروف أتت ريحانة إلى العالم، وبدا للزبير أن يهرب بنفسه وبأسرته الصغيرة، من مضايقات جبهة النصرة، ومن أتون حرب بات يدرك أنها لا تعنيه، ومن أجل ذلك انتقل في يونيو 2016 إلى تركيا، ولكن الخوف من السجن في المغرب منعه من العودة لبلده، “اشتغلت لفترة هناك وتعسرت أحوالي، وكنت خائفا من العودة إلى المغرب، ولم يبق لي سوى العودة إلى سوريا، حينها عدت إلى إدلب وانضممت إلى فصيل سوري من فصائل الجيش الحر اسمه أجناد الشام“.

امتحانات البقاء

كان على ريحانة أن تجتاز كل اختبارات النجاة، فبعد البراميل المتفجرة، أصيبت بمرض يبدو أنه كان بسبب سوء التغذية، “لم تكن قد بلغت السنتين من العمر حين مرضت، كانت عيناها غائرتين، وشفتاها كأنهما صُبِغتا باللون الأزرق، وأصبحت شاحبة”، يحكي الأب.

رفض المستشفى في البداية استقبال الطفلة، وبعد إلحاح واستجداء تمكن الأب من الحصول على سرير لها ” كانت تعاني من جفاف حاد، قضيت معها أسبوعين في المستشفى، بعدها طلبوا منا المغادرة، أخذتها إلى البيت مصحوبا بمحلول التغذية (السيروم)، لكن حالتها تدهورت مرة أخرى، فأخذتها إلى مستشفى ميداني، لكنه لم يكن يتوفر على أي شيء، بعد ذلك أخذتها إلى مستشفى يبعد عنا بمائة كيلومتر لكنه لم يكن أفضل حالا”، يشرح الزبير.

خريطة السيطرة في سوريا في 2015

ثلاثة أشهر بعد ولادة ريحانة، دخلت القوات الروسية الحرب، كان ذلك في شتنبر 2015، في نفس الوقت تشكلت قوات “سوريا الديمقراطية”، الفصيل العسكري الكردي الذي شكلت وحدات “حماية الشعب” عموده الفقري، وتوالت هزائم التنظيمات الإسلامية وعلى رأسها تنظيم “داعش”.

معاناة ريحانة مع المرض كانت تسير بالتوازي مع اشتداد القصف والمعارك، في ظل افتقار المستشفيات للوسائل الكفيلة بضمان العلاج، في هذا السياق خضعت لعملية جراحية لاستئصال اللوزتين، “كان المستشفى يفتقر إلى أدوات التعقيم والمقومات الضرورية، فضلا عن النقص في الأطر الصحية، لكن لم يكن لدينا بديل آخر”. يواصل المتحدث.

أريج طفلة استقبلتها البراميل المتفجرة

عندما بدأت قوات “سوريا الديمقراطية” معركة استعادة الرقة من “داعش”، خريف سنة 2016، وبدأ الجيش النظامي يخطط لمعارك استعادة دير الزور، كان الزبير وزوجته يبحثان عن سبيل لإِجهاض حملها الثاني، الذي فاجأ الزوجين بينما هما يبحثان عن سبيل للهروب، فقد شخصت طبيبة نساء الحمل أنه خطير على حياتها، لكنها لم تجرؤ على إجهاضها خوفا من انتقام تنظيم “جبهة النصرة” الذي يسيطر على المنطقة، فَعملية كهذه قد تُودِي بحياة الأبوين والطبيبة أيضا.

وفي مارس سنة 2017، أتت أريج، البنت الثانية للزبير، واستقبلتها القذائف والبراميل المتفجرة بدورها كريحانة، يسرد الأب بعضا من تلك اللحظات “كانت أريج تحبو وسط البيت، فجأة بدأ القصف، التقطت أريج وحملت زوجتي ريحانة وهربنا من البيت، في تلك اللحظات عليك أن تهرب بعيدا عن المباني حتى لا تقضي تحت الأنقاض”، وفي الخارج وضع الوالدان البنتين تحت جسديهما لحمايتهما من الشظايا، “حين يبدأ القصف كنا نَحْضُنهما كما تحضن الدجاجة كتاكيتها، بعد ذلك أصبحت الطفلتان كلما سَمِعتا صوت انفجار أو طائرة أو حتى سيارة عابرة، تَهْرعان إلينا للاختباء”، يقول الزبير.

ريحانة وأريج

لم يطل بقاء الزبير في صفوف “أجناد الشام”، ففي يونيو 2017 قرر ترك الفصيل، ومغادرة المدينة والانتقال إلى بلدة كفر روحين، التي لم تكن تحت سيطرة جبهة النصرة، لكن حينها بدأت الخريطة العسكرية في المنطقة تتغير بشكل سريع، وبعد أقل من شهرين وقعت محافظة إدلب بكاملها تحت سيطرة “هيئة تحرير الشام” التي هي نفسها “جبهة النصرة” بعد إعلان فك ارتباطها بـ”تنظيم القاعدة”.

انتهت سيطرة “جبهة النصرة” (هيئة تحرير الشام)، إلى اتفاق يقضي برحيل خصومها عن المحافظة، وتسليم معبر تل الهوى مع تركيا لإدارة مدنية، لكن جميع الطرق المؤدية إليه ظلت تحت سيطرة الهيئة، وبتغيّر الخريطة العسكرية وتغيّر الولاءات “لم يعد الخروج إلى تركيا بالسهولة التي كان عليها في السابق” يقول الزبير.

ويوضح “حينها كنت أتوفر على سيارة، وكنت أقود ليلاً إلى المناطق المحاذية للحدود لمقابلة المهربين برفقة ابنتيّ وزوجتي، في محاولة للعبور، حاولنا تسع مرات دون جدوى، كان علي حين تفشل المحاولة أن أعود دون أن يدرك أحد أين كنا”.

دخان البراميل المتفجرة

زينب.. ولادة ضد الاجهاض

في مارس 2019، حين أعلنت “قوات سوريا الديمقراطية” استعادة قرية الباغوز، آخر معاقل تنظيم “داعش” شرق سوريا، كانت “جبهة النصرة” (هيئة تحرير الشام) تواصل تصفية من تبقى من خصومها غربا في إدلب، بينما كان الزبير وزوجته يواجهان معضلة أخرى، فقد كانا يحاولان إسقاط جنين ثالث، “هذه المرة تفادينا الذهاب إلى الطبيبة أو إخبار أي أحد، بدأت زوجتي تتناول أعشابا ومواد يفترض أن تجهضها، كان الحمل عسيرا عليها، ولم نرغب أن نخبر أحدا حتى لا ينتقم منا تنظيم جبهة النصرة” يقول الزبير. ورغم مُحاولاتهما لإسقاط الجنين بالطرق التقليدية، شاء القدر أن تولد زينب شهر أكتوبر 2019.

كان على الزبير أن يدبر شروط الولادة وفي نفس الوقت أن يحضر ظروف الهروب، فالشاب أصبح هدفا لتنظيم “جبهة النصرة”، الذي غادر سجنه قبل شهور بعد اعتقاله لأكثر من ثلاثة أسابيع، تعرض خلالها لتعذيب شديد بعد اتهامه بالتجسس لصالح المخابرات المغربية. 

من اليسار إلى اليمين: ريحانة – أريج – زينب

اعتقل الزبير مرتين من طرف جبهة النصرة، بنفس التهمة، آخرها كان نهاية سنة 2019، وتعرض لتعذيب شديد في المرتين، بينما ظلت زوجته وبناته بمفردهن، “ما كان يؤلمني أكثر هو مصير زوجتي وبناتي، رغم شدة التعذيب لم أنقطع عن التفكير بِهِن وبِمصيرهن، إن لم يطلقوا سراحي” يتذكر الزبير.

“في المرة الثانية اعتقلوني لمدة شهرين، تعرضت خِلالهما لأشد أنواع التعذيب، تعرضت للضرب والكيّ بالنار، كانوا يطلبون مني أن أعترف، وحيث أنه لا يوجد ما أعترف به، كان التعذيب يشتد، معتقدين أنني فقط أكابر” يحكي الزبير لـ”هوامش”.

تطلبَ إطلاق سراحه تدخل وسطاء، كان أبرزهم الوجه السلفي المعروف حسن الكتاني، بعدها أصبح الزبير أكثر عزما على الهروب، “أيقنت أن جبهة النصرة تضعني نصب أعينها، وأنني إن اعتقلت مرة أخرى فلن أعود إلى أسرتي، بدأت أبحث عن سبيل للهروب وهو بدوره مخاطرة كبرى، فإن ضبطوني سيثبتون عليّ تهمة التجسس، وإن أفلتت منهم قد أقع بين أيدي جيش النظام، أو قوات الأكراد، أو الجماعات المدعومة من تركيا التي تحاربهم، من أجل الوصول إلى تركيا يجب عبور مناطق نفوذ كل من ذكرت” يشرح الزبير حجم المغامرة.

رحلة المغامرة والأمل 

تشبثت ريحانة بظهر والدها، بينما التصقت أريج بصدره، أما زينب فقد “ربطتها” أمها إلى صدرها، أوثق الأبوان بجسديهما حمالات أطفال، ليحملا البنات الثلاث من أجل خوض مغامرة هروب جديدة، هي العاشرة على مدى سنتين. 

عبور الحدود مخاطرة ليست محمودة العواقب، فقد جرب الزوجان ذلك في السابق، ففي إحدى المرات نجوا من رصاص الجيش التركي؛ كانا يتقدمان وسط جمع من الهاربين يقودهم مهرّب، حينها كانوا يتسلقون مرتفعا صخريا، ولم تنتبه الأم فارتطم رأس الرضيعة بصخرة فصرخت، وفجأة سلطت القوات التركية الأضواء الكاشفة عليهم وبدأ إطلاق الرصاص، “نجونا بأعجوبة بعد أن ركز الجيش على مجموعة كانت معنا هربت في منحى غير الذي سلكناه”.

الوصول إلى الحدود ليس نهاية المطاف، فهناك سيقابلون مهربين أتراكا إذا لم يقعوا في أيدي الجماعات الموالية لتركيا، “إن عرفوا أنك أجنبي فأنت بالتأكيد تنتمي إلى داعش، لا يهم مع من كنت، كل الأجانب بالنسبة إليهم من داعش”، يقول الزبير.

كان على الأبوين أن يُتقنا اللهجة السورية، وفي نفس الوقت التشديد على ريحانة التي لم يتجاوز عمرها أربع سنوات، بعدم الحديث، فالطفلة لا تتحدث إلا بالدارجة المغربية، وإن سمعها أحد ستكون نهاية المغامرة مؤلمة وربما دامية، فضلا عن ذلك على الطفلات الثلاث كتم أنفاسِهن فمجرد صرخة أو بكاء قد تلفت انتباه حرس الحدود.

الجدار الفاصل بين سوريا وتركيا

يقتضي بلوغ السياج الحدودي عبور أحراش ومسالك وعرة، مشيا على الأقدام وسط ظلام حالك، بعد أن وصلوا “نصب المهرب سلّما وصعد لقطع الأسلاك، ثم بدأ التهافت على العبور، كان يمسك الأطفال من ملابسهم كما يمسك الخرفان ويرمي بهم خلف السياج، كنت أنظر ولم أجرؤ على المطالبة بمعاملة بناتي برفق، كنا بين أيدي عصابة تركية وأي كلمة قد تنتهي بما لا يحمد عقباه” يروي الزبير.

بعد عبور السياج، تم شحن الحمولة البشرية على سيارة وانطلقت بسرعة غير عابئة بمن على متنها، ولم تكن تلك نهاية الرحلة، فداخل تركيا يتم تسليم الهاربين من عصابة إلى أخرى، وتتكفل العصابات بفرز الهاربين والتعرف على غير السوريين، يحكي محدثنا “نبه أحد المهربين زميله بشأن غير السوريين لتسليمهم عند أول حاجز للشرطة التركية، من حسن حظي أنني تعلمت اللغة التركية وخاطبته بها مطمئنا إياه أن الجميع سوريين”، ليصلوا أخيرا إلى تركيا ويبدأ فصل جديد.

أزهار في الجحيم

في تركيا، حيث يقطن الحسناوي وأسرته حاليا، يبدأ سن التمدرس بين سنتين إلى 6 سنوات، وهي مرحلة ما قبل مدرسية اختيارية، في حين يبدأ الأطفال التعليم النظامي عندما يبلغون ست سنوات. غير أن بنات الزبير محرومات من هذا الحق، رغم أن أكبرهن تبلغ من العمر 9 سنوات، وذلك لأنهن لا يتوفرن على وثائق ثبوتية، ولا وثائق إقامة تخولهن التمتع بنفس الحقوق التي يستفيد منها أقرانهن، كما أنهن لا يتوفرن على جواز سفر يُمَكِّنهُن من العودة إلى المغرب.

عدم توفر بنات الحسناوي على وثائق ثبوتية يحرمهن أيضا من الحق في العناية الصحية، كما كشف الزبير في فيديو نشر على صفحة شقيقه الصحافي مصطفى الحسناوي، على منصة “فيسبوك”، موضحًا أن ابنته البكر ريحانة، “سقطت ذات يوم، وتعرضت لإصابة خطيرة في جبهتها”، وأمام الوضع غير القانوني لبناته، انتحلت سيدة أخرى صفة الأم لتتمكن من  نقلها للمستشفى لتلقي العلاج، وهو ما اعتبره الزبير “أمرا لا ينبغي أن يتم”،  لكن “لو لم تقم تلك السيدة بذلك، لبقي الجرح في جبهة ابنتي مفتوحا”.

ترحيل مهاجرين بدون وثائق من قبل السلطات التركية

من أجل الحصول على الرعاية الصحية، يلجأ الزبير وزوجته وبناته إلى ممرضين نازحين من سوريا والعراق، يقيمون عيادات غير قانونية، يتوجه إليها المرء مغامرا، للحصول على العلاج والدواء.

الزبير الذي يعيش هذا الوضع بشكل يومي، يعتبر ذلك خطرا “عند وقوع أخطاء طبية، لن يكون هناك أي سبيل للمحاسبة، فضلا عن أنهم يبيعون الأدوية بأضعاف السعر الأصلي، ويستغلون النازحين في وضعية غير نظامية، لأنهم لا يمكنهم الحصول على أدوية بشكل قانوني”. 

غياب وثائق ثبوتية يحرم الطفلات أيضا حتى من أبسط الحقوق كالخروج للفسحة والحق في اللعب، إذ يشير الزبير، في ذات الفيديو، إلى أن اشتداد الحملات الأمنية يجعل هذا الحق البسيط مغامرة غير محمودة العواقب، حيث يظل هاجس الاعتقال والترحيل حاضرا في كل خطوة يخطوها هو أو زوجته خارج المنزل.

فشل مساعي العودة.. نداء للملك 

قبل أربع سنوات قام الزبير الحسناوي بمحاولات للعودة مع بناته إلى المغرب، غير أنه لم يجد سبيلا إلى ذلك، حيث أبلغته القنصلية المغربية في تركيا بإمكانية عودته هو وزوجته إلى المغرب، دون أن تتاح نفس الإمكانية لبناته، نظرا لعدم تَوفرهن على شهادات ميلاد تثبت نَسبهن، وهي الشهادات التي لم تتمكن الأسرة من استصدارها بعد الولادة.

وذكر الزبير أنه سبق أن عرض ملفه بناته على أعضاء المهمة الاستطلاعية حول المغاربة العالقين ببعض بؤر التوتر، كسوريا والعراق، التي شكلها البرلمان المغربي في وقت سابق، من أجل الوساطة لدى السلطات المغربية، لإيجاد منفذ يمكنه من العودة مع بناته إلى المغرب، وكان ينسق أشغال المهمة عبد اللطيف وهبي، وزير العدل الحالي، بصفته، حينها، برلمانيا عن حزب الأصالة والمعاصرة، غير أن الموضوع ظل معلقا.

من اليمين إلى اليسار: أريج – ريحانة – زينب

وعلى غرار الزبير أوضح شقيقه مصطفى الحسناوي، في رسالة وجهها عبر فيديو إلى وزير الداخلية، أنه “مستعد لدفع أي ثمن مهما كان قاسيا، في حالة ما إذا كانت الطفلات تدفعن ثمن أخطاء مفترضة لعمهن”، بما في ذلك العودة من السويد حيث يتواجد مع أسرته الصغيرة، مضيفا أن “كل شيء يهون في سبيل تغليب مصلحة الطفلات، وحاجتهن إلى الدراسة وصحتهن الجسدية والنفسية وأمنهن وأمانهن”.

جدير بالذكر أن مصطفى الحسناوي كان قد حصل على اللجوء السياسي في دولة السويد، بعد أن قضى ثلاث سنوات سجنا في المغرب، ويوضح في حوار مع منصة mupresse حيثيات الاعتقال والمحاكمة “بدون أي إثبات أو دليل أو اعتراف أو شهود”، وقضى عقوبته السجنية في ظروف سيئة، تعرض فيها لممارسات لا إنسانية حاطة من الكرامة، وبعد خروجه من السجن ظل يحس بالخطر والخوف الدائم من الاعتقال وتلفيق تهم الإرهاب والخيانة.

عودة الأمهات وأطفالهن من بؤر التوتر: خطوات حذرة نحو إعادة التأهيل

بعد انهيار تنظيم “داعش” عام 2019، واجهت العديد من الحكومات، ومن بينها فرنسا وكندا، تحديًا صعبًا يتمثل في إعادة مواطنيها الذين انضموا إلى هذا التنظيم في سوريا والعراق، إذ كانت المخاوف الأمنية هي العائق الرئيسي أمام عودة هؤلاء، خاصةً النساء وأطفالهن، الذين عاشوا في بيئة متطرفة لسنوات.

فرنسا رفضت في البداية عودتهن، حيث فضلت محاكمتهن في البلدان التي يتواجدن فيها، لكن مع مرور الوقت، وتحت ضغط المنظمات الدولية، اتخذت خطوات نحو إعادة رعاياها، بدءًا من الأطفال، الذين تم النظر في عودتهم بشكل دقيق.

وفي عام 2022، اتخذت فرنسا منعطفًا استراتيجيًا بإعادة 32 طفلاً و 15 امرأة من مخيمات شمال شرق سوريا، تبع ذلك إعلان آخر في شهر يوليو 2023، يفيد بإعادة 25 طفلاً و10 نساء كانوا محتجزين في نفس المنطقة، وتهدف هذه الخطوات إلى إعطاء فرصة لإعادة تأهيل هؤلاء النساء وأطفالهن، مع ضمان أمن البلاد، وتم تسليم القاصرين إلى خدمات رعاية الطفولة، بينما تمت إحالة البالغين إلى “السلطات القضائية المختصة”.

واختارت كندا نهجًا مشابهًا، حيث أمرت محكمة فدرالية في يناير 2023 بإعادة 23 كنديًا، ست نساء و13 طفلاً و4 رجال، كانوا محتجزين في ظروف قاسية بمخيمات شمال شرق سوريا، وظل التحدي الأكبر هو كيفية إدماج هؤلاء الأفراد في مجتمعاتهم بعد تجاربهم القاسية، وهو ما يتطلب جهدًا جماعيًا من قبل الحكومات والمنظمات المدنية والعائلات.

قصص ملهمة لإعادة دمج أطفال أعيدوا من بؤر التوتر

أصدرت منظمة “هيومن رايتس ووتش” تقريرًا بعنوان “إبني مثل باقي الأطفال” يسلط الضوء على تجارب أكثر من 100 طفل عادوا من مخيمات “داعش” في شمال شرق سوريا إلى بلدانهم بين عامي 2019  و2022.

وكشف التقرير عن نجاحات ملحوظة في إعادة إدماج هؤلاء الأطفال في مجتمعاتهم، حيث أظهرت الدراسات أن غالبيتهم “يعتبرون ناجحين في المدرسة وفي تكوين صداقات” ويتمتعون بحياة اجتماعية طبيعية.

وخلص التقرير إلى أن عملية إعادة الإدماج تُواجه بعض التحديات، خاصةً بسبب قرارات سياسية خاطئة تتخذها بعض الحكومات، أبرزها فصل بعض الأطفال عن أمهاتهم فور عودتهم، مما يُسبب لهم ضائقة عاطفية ونفسية كبيرة، وهو ما أكده أخصائيو الصحة النفسية، إضافة إلى صعوبات في إعادة إدماج بعض الأطفال بسبب نقص الدعم والخدمات المتاحة لهم.

وأوصت المنظمة غير الحكومية بضمان عودة جميع المحتجزين تعسفياً في شمال شرق سوريا والعراق، مع الأولوية للأطفال وأمهاتهم، والسماح بعودة جميع الأمهات أو الأوصياء البالغين مع أطفالهم، دون فصل، وكذا توفير الدعم والخدمات اللازمة لإعادة دمج الأطفال بشكل كامل في مجتمعاتهم.

إقرأوا أيضاً:

من نفس المنطقة:

magnifiercrosschevron-down linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram