الرئيسية

جرادة.. مأساة المنسيين داخل آبار الموت (صور وفيديوهات)

لن تستشعر الخطورة التي يمارس في ظلها المنقبون عن الفحم الحجري بمدينة جرادة عملهم، إلا إذا ذهبت إلى المنطقة، واستمعت لقصص عمال أضحى الموت رفيقهم، في سبيل لقمة عيش لا يمكن أن تتوفر إلا بعد ساعات من الحفر داخل غياهب الآبار. "هوامش" قضت يوم عمل كامل برفقة المنقبين عن الفحم الحجري في "ساندريات" (آبار تقليدية) جرادة، شرق المغرب، التي تبعد عن مدينة وجدة بنحو ستين كيلومترا.

حسناء عتيب

على عتبة الموت

رفقة اثنين أو ثلاثة من رفاقه، ينزل محمد (30 سنة) إلى عمق ” الساندرية” بواسطة سلك معدني (كابل) مسلحين بمصابيح مثبتة على الخوَذ التي يضعونها على رؤوسهم. ومع نزولهم الى القاع، ينقطع ضوء أشعة الشمس، ولا يسمع بعدها سوى صوت زميلهم الذي يرابط بجانب “الساندرية”ّ، وهو يناديهم بين الفينة والأخرى للاطمئنان أن كل شيء على ما يرام.

محمد الحاصل على إجازة في القانون، لم يتوقف عن البحث عن عمل يناسب شهادته دون جدوى. لذلك لجأ إلى هذه المهنة التي كان يزاولها والده.

استخراج الفحم من البئر أو “الحاسي” أو “الساندرية” (كلها أسماء لنفس المسمى) مغامرة مكلفة جدا، صحيا وماديا؛ وهي أيضا مقامرة، يراهن فيها المنقبون بأرواحهم، فـ”الداخل مفقود والخارج مولود”.

ينقسم المنقبون إلى مجموعات من ثلاثة أو أربعة أشخاص، بالإضافة إلى صاحب البئر، الذي يكون قد حصل على رخصة الاستغلال مسبقا. يقتصر دور الأخير على المراقبة من بعيد، بينما  ينزل  حفار أو اثنان إلى البئر لاستخراج الفحم. 

يراقب شخصان على الأقل الأشغال من فوهة البئر، لضمان التوصل بالكميات المستخرجة والتواصل مع من هم في الأسفل. ينطلق  الحفر على السابعة صباحا ويتواصل إلى غاية ما بعد الظهر. ويستخرج العمال ما معدله 2.5 طن من الفحم يوميا، بيد أن الحصيلة ليست دائما مضمونة. وغالبا ما تباع لأصحاب الرخص الذين يملكون بمقتضاها حق التصرف المطلق في بقع أرضية تمتد إلى ما يفوق  16 كلم مربع.

يبلغ ثمن الكيس الواحد من التراب الفحمي (مسحوق الفحم) ما بين 15 و20 درهما للكيس، فيما يرتفع ثمن الكيس الواحد من الفحم الحجري ليصل إلى ما بين  55 و70 درهما. 

رخص مع وقف التنفيذ

يكتسي الحصول على رخص التنقيب عن الفحم صعوبة بالغة، وغالبا ما تمنح الرخص لبعض “الشركات” القليلة، والتي تشتري المحاصيل المستخرجة من بعض المنقبين الصغار بأثمنة بخسة، وتتعامل معها على أنها استخرجت من قبل شركاتهم المرخصة. 

التقينا هشام (40 سنة)، الذي يواجه الرفض المستمر لطلبات رخص التنقيب/الحفر التي يتقدم بها للمديرية الجهوية للطاقة والمعادن بمدينة وجدة. قال بغضب واستنكار “لم يعد خافيا على أحد لمن يباع الفحم، فالأسماء معروفة، لكن الأمر الذي يستفزنا هو أننا حين نتقدم بطلب رخصة الحفر/التنقيب عن الفحم في المكان الذي نحدده مسبقا، نفاجأ بأنه ‘محجوز’، وحين نسأل لمن يقال لنا: ‘الله أعلم’ وهكذا دواليك”. 

بنفس الغضب يسترسل محدثنا قائلاً إن “الأمور كانت ميسرة بعد حراك دجنبر 2017. كنا نحصل على الرخص في غضون أٍسبوع  ودونما أي تعقيدات. لكن اليوم بعد 5 سنوات، أصبحنا ننتظر أكثر من شهر، في الوقت الذي نكون فيه قد استقدمنا عمالا واستأجرنا آلات الحفر، وصرفنا الكثير من الأموال”. 

بيد أن هشام لا يُنكر أن “ظروف الاشتغال تحسّنت نوعا ما، فالعمال ـ على الأقل ممن يشتغلون معي ـ يزاولون عملهم في ظروف قانونية، ومصرح بهم لدى الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، ويتلقون أجورهم بشكل منتظم خلال نهاية كل أسبوع (يوم الجمعة)”، لافتا إلى أن الأجر يختلف من عامل إلى آخر حسب كمية الفحم المستخرجة. 

محمد (55 سنة) الذي علت التجاعيد وجهه، يحكي بنبرة حزينة كيف أنه وعلى الرغم من استمرار خطر الموت، إلا أنه لا يملك بديلا آخر. يتجه كل صباح منذ ما يزيد عن عشرين سنة إلى البئر/ الحاسي، وهو الذي يعاني من مرض “السيليكوز”(تحجر الرئة)، يحمل كيسا بلاستيكيا يحتوي على قليل من زيت الزيتون وبعض الخبز، وفي أحسن الأحوال يضيف إلى الوجبة المعتادة علبة سمك مصبر. 

اعتاد أن يغادر بيته مودعا زوجته وأبناءه وهو لا يدري إن كان في العمر بقية. “أحمد الله، لأن النزول إلى “الحاسي” يمكنني من كسب لقمة عيش حلال، و يمنحني الفرصة للحصول على مقابل مادي يعفيني من ذل السؤال” يقول محمد.

القاتل المتسلسل

لا توجد أرقام رسمية بشأن عدد المصابين بمرض الرئة الانسدادي المزمن “السيليكوز” في جرادة، لكن أغلب من تحدثنا إليهم يقولون إن معظم من عملوا في مناجم الفحم مصابون به بنسب مختلفة. و السيليكوز “هو ثالث سبب مؤدّ إلى الوفاة في العالم، حيث تسبب في 3.23 مليون حالة وفاة في عام 2019″، وأكثر من 90% من الوفيات في صفوف الأشخاص الذين تقل أعمارهم عن 70 عاماً تحدث في البلدان المنخفضة الدخل والمتوسطة الدخل” حسب منظمة الصحة العالمية  .

وبالرغم من وجود مستشفى خاص بتشخيص مرضى “السيليكوز” بالمدينة، والذي يتوافد عليه عشرات المرضى يوميا، إلا أن قلة الأدوية، وانعدامها في أحايين كثيرة، تساهم في تسريع وفاة العديد منهم، ما أدى إلى اندلاع الاحتجاجات التي شهدتها المنطقة في السنوات الأخيرة، طلبا لعناية أكبر من الدولة، لتخفيف الآلام وشبح الموت عنهم.

ويعتبر “السيليكوز” مرضا مزمنا ومهنيا وفق ظهير 13 ماي 1943 المطبق في التشريعات المتعلقة بحوادث الشغل على الأمراض المهنية. وتمت مراجعته بمراسيم وقرارات، آخرها القرار الوزاري 1972.09.19 الذي حدد لائحة الأمراض المهنية التي يجب التعويض عنها.

مأساة بعد إغلاق “مفاحم المغرب” 

قبل اكتشاف الفحم الحجري، اعتمدت القبائل القاطنة بمنطقة جرادة على النشاط الرعوي، وبسبب ضعف/ تدهور التربة، وعدم انتظام سقوط الأمطار، اضطرت القبائل التي تسكن مدينة جرادة إلى الرحيل، بحثا عن الكلأ للماشية.

ومع اكتشاف الفحم الحجري في ضواحي جرادة، بعهد الاستعمار الفرنسي، عام 1927 واستغلاله سنة 1936، تحوّلت المدينة المنسية إلى مركز جذب اقتصادي، وتشكل فيها مجتمع لا تربط بين أفراده اية روابط قبلية أو جغرافية.

 في هذه الظروف ترعرع أبناء جرادة بحسهم العمالي النضالي، ورغم سواد الفحم لمعت جوهرة سوداء في جغرافية المغرب الشرقي. 

منذ  توقف “شركة مفاحم المغرب”، سنة 1998 وإغلاقها نهائيا سنة 2001، بات من المؤكد أن انقلاباً مريعاً لا محالة سيقع، وأن ذلك الرخاء الذي كان يعيشه السكان بفضل استخراج الفحم يحمل في طياته بذور الفناء، بعدما عجزت الشركة عن دفع أجور العمال بسبب ارتفاع كلفة الإنتاج.

وقتها فسرت السلطات المغربية إغلاق الشركة بسبب “نفاد مخزون الفحم في المنطقة”، ثم عادت لتوزيعه على فئة قليلة من المستفيدين عبر رخص استغلال الآبار. غير أن سبب الإغلاق كان في الحقيقة فشل المشروع الذي حصلت بموجبه شركة مفاحم المغرب على قرض من البنك الدولي. 

لقد تم التخلي حينها عن الآلاف من العمال وهجر قرابة 12 ألف شخص المدينة التي نشأت على آبار الفحم. وحمل بعض النقابيين الدولة مسؤولية عدم تهيئ المدينة لمرحلة ما بعد الإغلاق، واعتبروها مساهمة مباشرة في الوضع المتردي الذي تعيشه المدينة منذ سنوات عدة.

بدائل وهمية

يشتغل حسن في” الساندريات” منذ أزيد من 40 سنة، مصاب بمرض “السيليكوز” بنسبة تتجاوز 50 بالمئة، لكنه لم يتوصل، إلى حدود اليوم، بأي تعويض أو جبر للضرر أو بديل حقيقي له ولمجموعة من العمال الذين أفنوا حياتهم داخل آبار المدينة “المبعدة”، اللهم إلا مصنع معالجة السمك الذي افتتح قبل عام، و”الذي لا تشتغل فيه سوى النساء، من السابعة صباحا إلى السابعة مساء بأجر زهيد لا يتعدى 40 درهم، بالإضافة إلى المركب السوسيو ـ رياضي وكأن جميع مشاكل المنطقة قد حُلت” يقول بتهكم في حديثه لهوامش. 

ويضيف محدثنا بنبرة ساخرة: ” الدولة لا تمتلك وسائل حقيقية وجدية لمواجهة لوبيات الفساد، التي تستغل المقالع وتملك نفوذا سياسيا وماليا يجعلها بعيدة عن المحاسبة، ولا أظن أن المدينة سينزاح عنها الإقصاء والتهميش كما هو الحال في العديد من مناطق المغرب”.

وحول هذه النقطة أكد الناشط الحقوقي رشيد السلطاني في تصريح لمنصة هوامش بأن “الحديث عن بديل اقتصادي بمدينة جرادة، خلال سنتي 2017 و2018، عقب زيارات لمسؤولين بالحكومة السابقة، وعلى رأسهم عزيز الرباح، الوزير السابق للطاقة والمعادن، كانت مجرد زيارات لذرّ الرماد في العيون وتهدئة الأوضاع، أكثر منها وجود برنامج حقيقي لانتشال جرادة من العزلة الاقتصادية، والهشاشة التي تعيشها منطقة المغرب الشرقي كاملة، منذ إغلاق الحدود وتراجع التهريب”.

حقوق مؤجلة

بينما كانت شركة مفاحم المغرب تحرص فيه على تأدية المستحقات المادية للعمال وتواكبها بالتعويضات الاجتماعية، لم يعد أحد اليوم يكترث لصحة المنقبين عن الفحم قبل ملء الأكياس وإعدادها للبيع.

منذ توقيع الاتفاقية الاجتماعية 17 فبراير 1998 الموقعة بين إدارة مفاحم المغرب، ووزارة الطاقة والمعادن، وممثلي العمال النقابات الثلاث، ك د ش، و ام ش، وا ع ش م. وعمال الشركة يطرقون أبواب المسؤولين، لكن دون جدوى، رغم الوعود. آخرهم وزير الطاقة والمعادن السابق عزيز رباح، الذي تعهد في جرادة، بتاريخ 13 يناير 2018، بحل ملف العمال المرتبطين بالاتفاقية.

ومن بين مطالبهم والتي تحققت حتى الآن، الاستفادة من تكملة الأيام المتبقية عن نصاب 3240 يوم عمل للعمال الذين استوفوا 1080 يوم عمل وما فوق، وصرف راتب التقاعد.

في المقابل لا زال النضال متواصلا من أجل التخفيض عن استهلاك الكهرباء للعمال المصابين بمرض السيليكوز، وإرجاع مخيم المفاحم بالسعيدية لأبناء عمال مفاحم المغرب سابقا، وإلغاء التقادم عن مرضى السيليكوز للملفات التي لم ينجم عنها التفاقم، احتساب الصوائر القضائية ومصاريف المساعدة القضائية، ومصاريف تنقل مرضى السيليكوز من أجل تلقي العلاج، أو إجراء الفحوصات الطبية التي يتحملها المؤمن. 

أزمة بيئية

لن تحتاج في نقل حقيقة الوضع البيئي الذي تعاني منه المدينة، إلى شهادات أو تصريحات، فمجرد جولة سريعة في المدينة كافية لملامسة حجم الضرر البيئي الذي تعاني منه الساكنة. مخلفات الفحم تنتشر في كل مكان، وعلى أطراف المدينة تتربع هضاب ضخمة سوداء تكاد تخنق كل الفضاءات. هي ليست هضابا طبيعيةً، إذ أن طابعها المصطنع باد للعيان.

تراكمت نفايات الفحم الحجري على مر السنين، حتى أصبحت عبئا حقيقيا على المجال البيئي الذي تعيشه المدينة. وإلى جانب كل الأمراض الصحية والاجتماعية والاقتصادية، تتحمل الساكنة تبعات غياب تصور حقيقي للتعامل مع المشكل البيئي. خصوصا بعد الالتزامات السابقة للدولة في الموضوع حين تم إغلاق مفاحم جرادة.  

منذ ما يقارب العشرين سنة، تم الاتفاق أن يتم تخليص المدينة من النفايات، وتوفير ميزانية كافية متحصلة من بيع عقارات ومعدات وآلات الشركة المنتهية مهمتها؛ غير أن هذه القرارات بقيت حبرا على ورق، وبقيت النفايات في مكانها إلى اليوم.

وأشار تقرير للجمعية المغربية لحقوق الإنسان، إلى أن “الاستغلال المنجمي أدى إلى اختلالات بيئية، من ذلك أن الفحم الحجري، الذي هو من نوع الأنتريست الذي يتميز بارتفاع نسبة الكاربون وكمية الرماد عند الاحتراق، يؤدي إلى ارتفاع نسبة الغازات الدفينة في الجو وخاصة ثاني أكسيد الكاربون، الذي يساهم بنسبة 55% في ظاهرة الاحتباس الحراري، كما أن الفحم الحجري عند احتراقه يساهم في ارتفاع نسبة أوكسيد النتروجين، إضافة إلى أن استعمال المحطة الحرارية لحاسي بلال لمادة البيديوك أدى إلى ارتفاع نسبة الكبريت في الجو، الشيء الذي يتسبب في أمراض لها انعكاسات مباشرة على صحة المواطن”.

احتجاجات مجهضة وعودة الاستدعاءات

 لم تتوقف شرارة الاحتجاجات التي اندلعت في فترات متفرقة بجرادة خلال 20 سنة الماضية، والتي طالبت بتنمية المدينة وتوفير بديل اقتصادي، خاصة بعدما توفي اثنان من عمال المناجم في 22 من دجنبر 2017، حين كانا يشتغلان في ظروف خطيرة في واحد من مناجم الفحم المهجورة. اعتقلت السلطات حينها عددا من النشطاء على خلفية الاحتجاج. 

ونحن بصدد نشر هذا الروبورتاج عن المنطقة، شاركت آمال عياد، فتاة قاصر تبلغ من العمر 17 سنة، تدوينة لها على تطبيق الفيسبوك، تخبر فيها أنها توصلت باستدعاء من أجل المثول أمام المحكمة الابتدائية بوجدة، يوم 31 أكتوبر الجاري على خلفية تهم جديدة، تتمثل في “التحريض على تنظيم مظاهرة غير مرخص لها، إهانة موظفين عموميين، إهانة هيئة منظمة”. وهي التهم التي وصفها حقوقيون بغير المنطقية، إذ لا يعقل أن تقوم فتاة تبلغ من العمر 17 سنة بتنظيم مظاهرة.

وبحسب الأمر القضائي المنشور، فقد عين قاضي التحقيق بالمحكمة الابتدائية بجرادة مرشدة اجتماعية للقيام ببحث اجتماعي بخصوص الحدث أمال عيادي، وذلك قبل 31 أكتوبر 2022.

وعلقت أمال عيادي على الاستدعاء قائلة في تدوينة منشورة بذات الموقع “فايسبوك”: “أسبوع الاستدعاءات في الأول أمي واليوم أنا..”، وتابعت: “التحريض وإهانة موظفين تهمة لمن لا تهم له”.

وشهدت مدينة جرادة اعتقال عشرات المحتجين على خلفية الحراك الذي اندلع سنة 2017، وتراوحت الأحكام في حق النشطاء بين سنة وأربع سنوات سجنا نافذا، وهو ما خلف استياء كبيرا وسط الساكنة، واحتجاجات تضامنية إضافة إلى استنكار هيآت حقوقية وسياسية للتعاطي الأمني مع ملف اجتماعي يقتضي حلولا ترفع البؤس وتبعد خطر الموت عن الساكنة.

وبعد سنتين من الاعتقالات وصدور الأحكام، أصدر الملك عفوا عن 47 معتقلا على خلفية الحراك، فيما قدمت الحكومة، حينها، عددا من الوعود؛ لكن أغلب تلك الوعود لم ينفذ؛ ولازال واقع المدينة وسكانها يراوح مكانه، بينما لازال شبابها ينزلون إلى “آبار الموت” مقامرين بأرواحهم من أجل لقمة تسد رمقهم.

إقرأوا أيضاً:

من نفس المنطقة:

magnifiercrosschevron-down linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram