الرئيسية

رحلة ”بوبول”..  زجال زاوية الشيخ بين العزلة الثقافية ومقاومة النسيان

هو زجال الهامش الذي كان يحلق بكلماته فوق سماء ''زاوية الشيخ'' بني ملال، والتي تلقى صداها بين رفاق الأمس وشباب اليوم. غير أن إبداعاته تعيش اليوم تجربة العزلة القاسية، بين ولادة عسيرة لديوانه، ورائحة بعض "المحتويات النتنة" التي تفوح من مواقع التواصل الإجتماعي والتي تلقى "نجاحا مزيفا".

أسامة باجي

إنه ”عبد القادر بوبول” زجال الفقراء الذي يقاوم النسيان ويواجه عزلة ثقافية منذ 20 سنة من الإبداع ويتطلع لإصدار ديوانه الأول وسط زحمة من الصعوبات. 

“منذ الوهلة الأولى يبدو من زمرة الفقراء والدراويش، بيد أن فقره يصبح غنى في عالم الزجل. إننا بصدد حكاية رجل يعيش في الهامش، صاحب فكر وموقف وكلمة وفن. هو عقا صديقي  فقط، ويكفي أن أقول إن معرفتي به تمتد لحوالي 35 سنة”. هكذا تحدث سعيد الدليمي، رئيس الجمعية الثقافية لزاوية الشيخ، عن الزجال عبد القادر بوبول” الملقب بـ “عقَّا”. الصداقة المتينة التي تجمع الاثنين تتيح للدليمي أن يكون من أكثر المطلعين على مسار الرجل. 

هوامش التقت “عقا” بزاوية الشيخ، وخلال جولة وسط أشجار الزيتون، وعلى إيقاع خرير مياه ”عين تامدة”. صمت قليلاً ثم قال بصوت مرتفع متجردا من كل شيء:

 “اْرْحْلْ، اْرْحْلْ ديرْ نْوَالَا فْلْعْلَالِي، 

دُوبْ فْلْحْضْرَا حْتَّى تْصِيرْ حْرُوفْكْ حْدِيدْ، 

عْكزْ عْلَى هْمُومْ خْضْرَا

 وْرْحْلْ لْثْلْثْ فِيكْ خَالِي، 

عْزمْ دْبحْ لْعْقْلْ وْلُوحْ بْلْكِيدْ”.

 بهذه الكلمات أراد عقا أن يفتح قلبه ووجدانه لمنصة هوامش. 

طفولة المُعذَّبين في الأرض 

وُلد زجال الدراويش عبد القادر بوبول سنة 1965 في مدينة زاوية الشيخ بإقليم بني ملال،  وترعرع في وسط فقير يكاد يكون مُعدما. عاشَ عبد القادر طفولةً  يصفها “بطفولةُ المعذبين في الأرض”. وكان للأم دور أساسي في رعايته، إلى أن اشتدَّ عوده لمواجهة الحياة. 

يشهد من عاشره أن عبد القادر كان طفلا ذكيا، رغم ضيق ذات اليد. وانخراطه المبكر في أنشطة “دار الشباب” دفعه إلى المواظبة على دراسته في المراحل الأولى من حياته. وفي بداية الثمانينات، التحق في سن مبكرة بالجمعية الثقافية مع جيل من الطلبة الجامعيين والأساتذة. فنما حسُّه الفني والأدبي والمسرحي. أدى بوبول وهو في سن 15 أولَ عملٍ مسرحي له سنة 1980 بثانوية ”أم الرمان التأهيلية”. 

رفقة عوده الخشبي العتيق، حدثنا عبد القادر عن معاناته الثقافية التي يعيشها بشكل يومي. عاش سنوات عديدة دون عمل، حيث كرس حياته  لهواياته الفنية، دون أن يلتفت القائمون على الشأن المحلي الثقافي لموهبته الزجلية.

الأم والزَّاوية : حضن دافئ 

أخذنا عقا إلى بيته المتواضع؛  بعض جدرانه طينية، ونوعية الأفرشة تحاكي ضيق يد الأسرة، وخلال جلسة شاي من إعداد أمه قال “إنها المشكِّل الأول للهوية والذات”. تنهد، نفثَ سيجارتهُ، ثم قال بحسرة لم “أكن ذلك الرجل الذي أرادته أن يكون، وأنا أطلب منها السماح في كل مرة”. حاول عبد القادر تخليد والدته بقصيدة “الميمة يا تاج راسي” أمله الوحيد أن يجسدها في أغاني أو قصائد زجلية اخرى إكراما لها. ولِعقا “أم ثانية، هي “زاوية الشيخ العُّش، الدفء، التراب” حسب تعبيره.  فهو لم ينسَ مدينته الحاضرة في وجدانه؛ خرج من أجلها للاحتجاج في الشارع في حراكات عِدَّة (خلال 20 فبراير وبعدها في حراك زاوية الشيخ سنة 2017 و2019) خلَّدها في أغنية زاَوِيَّةْ الشيخْ يَا لْخْضْرة أنَا يَا شُوقِي كْبْرْ، فكانت الأغنية احتفاء بالمدينة وبالطبيعة المحلية، وبثرات المنطقة.

الزَّجل: حلم الديوان الأول

بدأت تجربة عقا الزجلية منذ 20 سنة إلا أن إكراهات مرتبطة بما يصفه بـ”الزبونية” التي يعرفها ميدان النشر ووضعه المادي وكذا غياب الاهتمام بالقصيدة الزجلية حال دون أن يصل إلى مبتغاه. بيد أن أملُ عقَّا كبير في أن يُتم ديوانه الزجلي العامَ المقبل ليخرج مولوده الأول لعشاق الزجل والفن.  

غنى عقا أغاني زجلية ملتزمة كـ “المحاكمة” للفنان سعيد المغربي كما أدى أغنية البنك الدولي للفنان صلاح الطويل فضلا عن أغاني الشيخ إمام ومارسيل خليفة وأحمد قعبور وأغاني القضية الفلسطينية. أدى أغنية من كتابته وتلحينه سماها “البارصا والريال”  كما لم ينسى الأغاني الأمازيغية التي يؤديها من حين لآخر. 

بأسى كبير وتذمر يقول عقا “هناك نوع من الزبونية في التعامل مع الأصوات المبدعة في الهامش”. يرى عقا أنه يعاني “الإقصاءَ” في إقليم بني ملال وزاوية الشيخ وسوق السبت، “على غرار أصوات وأقلام أخرى”.

الصوفية والحلقة 

لم يكن عبد القادر بعيدا أيضا عن التجربة الصوفية، فهي مرحلة يتعبرها مُهِمَّة في مساره، منحوتة في ذاكرته، “كانت مرتبطة بأبي الذي كان عُضوا في الفرقة العيساوية المسماة (صْحَابْ الشِيخْ) وكنت أرافقه أحيانا لإحياء ليالي صوفية” يقول عقّا في حديثه لـ”هوامش”. وتعلق حينها بوبول بالطريقة العيساوية منذ صغره، وبعدها انفتح على الأدب الماركسي والرواية والقصة القصيرة والفكر والفلسفة والأغنية الملتزمة ومسرح الهواة.

وشكلت الحْلْقة أيضا مكونا أساسيا في تنمية الجانب الإبداعي والشعبي لديه.  فبعد خروجه من المدرسة كان يهرول مباشرة إلى ساحة الحلقة الشعبية لسماع قصص “حمزة البهلوان” (قصة عربية تخيلية قديمة) وكذا “سيف ذو اليزن”، فضلا عن حلقات “عبد الكريم الفيلالي” و”محمد ولد آسفي” في “فن المداح” التي تعرض “سير الأنبياء” بشكل فني. وكان هذا محفزا انخراطه في الميدان الفني والاهتمام بالمسرح الشعبي.

خطوات الوعي الأولى

تأثر عبد القادر صغيرا بالفكر الماركسي وعدد من الكتابات التي شكلَّت شخصيته وأفكاره. و”من مناقب الجمعية الثقافية التي انخرطت فيها، أنها تفتح حلقات نقاش حول ما يقع في الساحة السياسية وغيرها، وكانت مكتبها فريدة، كنت أطلع فيها على كتابات “ماو تسي تونغ” فضلا عن اكتشافي لكتاب “الثالوث المحرم” لياسين بوعلي، وكتب أخرى في الثراث وكراسات يسارية وغيرها، شكلت لديَّ وعيا بأننا نعيش داخل نظام فيودالي تقليداني تغيب فيه الحريات” يقول عقا.

هكذا بدأت التجربة وبدأت حكاية عقا ليعبُر إلى مرحلة ثانية بعد اعتقاله سنة 1984 والتي يعتبرها مرحلة  لـ”التفكير ضد السائد “، فقد تم توقيفه خلال إضرابات 1984 والمعروفة بانتفاضة التلاميذ بمدينة قصبة تادلة والتي نحت فيها جزءا من تجربته السياسية. 

تجربة الاعتقال 

قبل الاعتقال لم يكن عقا البالغ من العمر 17 سنة يفهم جيدا طبيعة المشهد السياسي المغربي، ولكن تجربته السجنية القصيرة على خلفية نشاطه الحقوقي والنقابي، وبضعة أيام من التعذيب في “الكوميسارية” واحتكاكه بمن سبقوه، كانت فارقة ليفتح عينيه على ما يقع من أحداث سياسية آنذاك. 

يقول عقا “أخذوني من داخلية مولاي اسماعيل بقصبة تادلة، وقال لي  أحد رجال الشرطة حينها لبس قدما لقيتي” استعدادا لما ينتظره في المعتقل. وفور إدخاله الكوميسارية انهالت عليه العِصي، قبل أن يزج به وسط حوالي 40 معتقلا في زنزانة صغيرة جدا. ويضيف ”اتهموني حينها بالانتماء لمنظمة سياسية سرية. لم تكن حينها أي منظمة كنا فقط نشطاء يخوضون إضرابا في الداخلية لتحسين أوضاع التلاميذ”.

الجامعة .. الحلم المجهض

انفتح عقا على اليسار والنقاشات التي كانت آنذاك في الحركة اليسارية وبدأ يتشكل وعيه ليبلغ مستواه الجذري بعد دخوله الجامعة في تجربة “القاعديين”. لم يستغرق المسار الجامعي لعقا سوى سنتين بعد أن اضطرته ظروف صعبة لمغادرة مدرجات كلية الآداب بجامعة القاضي عياض بمراكش حيث كان يتابع دراسته في  شعبة اللغة العربية. بيد أن هذه التجربة، رغم قصرها، تركت أثراً في مساره الثقافي والفني والسياسي. 

عاد عبد القادر إلى قريته، وأدى أغاني عديدة ضمن المجموعة الصوتية للجمعية الثقافية بزاوية الشيخ، التي كانت حينها ذات صيت على المستويين الجهوي والمحلي، إلا أن التجربة ستُجهض كما أُجهضت أحلامه الكبيرة. “الخطيئة التي ظلت تلاحقني هي مغادرة أسوار الجامعة في وقت مبكر”، قال عقا متنهداً، قبل أن ينشد قطعة زجلية مما خطت يده. 

إقرأوا أيضاً:

من نفس المنطقة:

magnifiercrosschevron-down linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram