الرئيسية

حوار | “جحيم أبي” رواية تفتح جراح أطفال الأسرة المغربية 

حوار مع ميمون الوليدي كاتب رواية جحيم أبي

حوار مع ميمون الواليدي كاتب رواية جحيم أبي

هوامش | حاوره: سامي صبير

افتتحت روايتك “جحيم أبي” بمقولة لمحمد شكري بخصوص جدوى الكتابة. والتي تتضمن بعضا من الإحالة لطفولة وسيرة شكري، هل ينوي ميمون فتح غرفا لم يفتحها شكري أم استحضره كي يردد صرخاته؟

لا أعرف صراحة إن كان اختيار تلك الجملة موفقا أم لا، لكنه أمر خطر ببالي خلال عملية مراجعة الرواية قبل إرسالها إلى المطبعة. والسبب أن الرواية مأساوية بشكل كبير وتستعرض عددا لا يحصى من صور المعاناة والآلام الانسانية. طبعا، في استعمال العبارة استحضار لصرخات شكري، وإشارة إلى أن القارئ عليه أن يستعد لما ينتظره. لا أستطيع القول أن الرواية تبتغي فتح غرفٍ لم يفتحها شكري، وإذا كان الأمر يبدو كذلك لبعض القراء أو النقاد فهذا شرف لا أدعيه. ولكن الرواية بكل تأكيد كتبت لتُعري واقعا مؤلما وتقدمه للقراء كما هو حتى وإن كان صادما، وهنا في نظري وجه التناص مع مقولة شكري التي أشرت إليها.

بدأت عملك بتقديم مطول للأستاذ منير الحجوجي، يقترح فيه أن نرى لأول مرة العالم من زاوية ذَاتٍ مُنعت من أن نسمعها؛ ذاتٌ اختطفتها السلطة / الأب. من خلال قصة ابنٍ. حُكم عليه بالسكوت أمام تعذيب نفسي وجسدي، وطفل معطوب يتعلم كيف يتكلم عن الذات بكلماته. إلى أي مدى تحدث الطفل بكلماته في روايتك؟

لطالما عُرف جنسا السيرة الذاتية والسيرة الروائية بأنهما اختصاص أنثوي، على اعتبار أن النساء كن الأقل حظا من حيث حرية التعبير، ولكنني أظن، أن السيرة الذاتية يمكن أن تكون أيضا الجنس الأدبي الذي بإمكانه توفير منصة لنقل معاناة الأطفال، لأنني أرى أن الأطفال هم الأكثر تعرضا لكتم الأصوات لاعتبارات كثيرة أهمها أننا كأسر وكآباء نعتبر الأبناء ملكا يمكننا التصرف فيه كما شئنا. الراوي في الرواية هو مراهق في السادسة عشر من عمره ينقل أحداثا من طفولته ومن مراهقته المبكرة، ويمتد سرده ليشمل أحداثا وقعت طيلة عشر سنوات. حتى قبل بداية كتابة الرواية، أي قبل أكثر من ست سنوات، كان همي هو أن أمنح  للطفل الفرصة ليعبر لا أن أعبر عوضا عنه، ولهذا فالراوي هو ميمون المراهق وليس ميمون الراشد. في موقف مثل هذا، قد يصعب على من يكتب سيرته أن يفصل بين ما يجب أن يقوله الراوي وبين ما يفكر فيه هو ككاتب، وهذا تحد كبير يستدعي الكثير من الحيطة والحذر. قارئ الرواية سيتتبع حياة الطفل من خلال خط السرد الذي يسطره الراوي من البداية وإلى النهاية وإن كانت تتخلله بعض التنقلات على طريقة الفلاش باك، لكن الطفل سيظل حاضرا من خلال الأحاسيس والتمثلات وسذاجة الطفولة.

في روايتك “جحيم أبي” نقلت صورة عن طفولة الأبناء ضحايا الطلاق والإهانة وتعذيب الآباء، والتشرد والجوع، وحاولت الكشف عن نفسية الطفل ميمون، وعن حالات عاشت نفس التنشئة الاجتماعية ونفس المآزق. هل تحاكم روايتك جيلا أم تناكف بنية اجتماعية؟

الحقيقة أن الرواية لا تحاكم جيلا ما باعتباره جيلا، لأن أي جيل لا يمكنه التواجد والفعل خارج الواقع الموضوعي الذي أنتجه أولا، وثانيا لأن الأمر لا يتعلق بجيل بعينه لأن الوضع الذي تتناوله الرواية مازال مستمرا وإن بتمظهرات مختلفة. الرواية بالمقابل تفتح نقاشا حول وضع اجتماعي أعطيت فيه للآباء وربما رغما عنهم أو بدون وعي منهم أدوار تسببت في الكثير من المآسي. لا يجب أن نغفل أن الأسرة هي مؤسسة اجتماعية، والمؤسسات الاجتماعية  وجدت لتطويع الأفراد وتعريضهم لأفعال اجتماعية قهرية خدمة لما يعتقد أنه الصالح العام أو صالح المجتمع. ومن هنا فالرواية تحاول نزع القدسية عن الأسرة وتحويلها من طابو إلى شأن عام يجب مناقشته وبكل جرأة وشجاعة وشفافية.

عنوان الرواية يمكن أن يبدو مثيرا وصادما، خصوصا وأن أحداث الرواية تدور في مرحلة تاريخية تتميز بخصوصية العائلة وما تمثله مكانة وسلطة رب الأسرة فيها. هل هي محاولة مداواة جرح في الشخصية أو صرخة ما تزال عالقة داخل شخصية ميمون؟

العنوان قد يبدو فعلا صادما قياسا للتناقض الذي يثيره في ذهن القارئ، لكنه حقيقة ليس حتى محاولة لمداواة جراح ما، لأن العنوان مهما كان عنيفا وصادما لن يستطيع أن يداوي مقدار ذرة مما قد يتعرض له طفل في هذا العالم، لكنه بالمقابل أقرب إلى صرخة، صرخة تقدم الواقع كما هو بنية رج القارئ رجا حتى يخرج عن سكونه وارتكانه ويترك منطقة الراحة التي ينزوي فيها كلما تعلق الأمر بالأسرة.

تضمنت الرواية مجموعة من شخصيات الآباء بمستويات تعليمية متفاوتة وبعضها لا يختلف عن شخصية والد ميمون كنمط لحقبة تاريخية للمجتمع المغربي، هل ترى أنه من الضروري أن يطلع الآباء قبل التفكير في الإنجاب على مناهج التربية؟ وما البديل عن تنشئة الوليدي؟ وكيف يرى ميمون اليوم شكل الأسرة وسلطة الأب، هل نجحت في الابتعاد عن جحيم بطل الرواية؟

أتذكر وحتى قبل كتابة النص، أن أكثر جملة كنت أسمعها في النقاشات العامة أو الخاصة هو أن آباء الحقبة الزمنية المعنية متشابهون وهم نتاج نفس العقلية فلا داعي للشكوى لأن الوضع عام. والحقيقة أن في هذا الكلام بعض الصوابية وكثير من التغليط. صوابيته تكمن في كون أغلبية الآباء أنذاك كانوا حازمين وأحيانا قساة وكثيرا ما لجؤوا للضرب كوسيلة للعقاب في سبيل التربية. لكن وجه التغليط في هذا الكلام يقفز على حقيقة أن العقاب بشكليه النفسي والجسدي لم يكن هو نفسه بالنسبة لكل الآباء، كما أن هناك من الآباء من لم يمارس العنف تجاه أبنائه رغم أنه عاش في نفس الحقبة، لكن الأهم هو أن قيام الأغلبية بنفس الممارسات لا يجعل من تلك الممارسات أمرا مقبولا. نحن لسنا بصدد التنافس للحصول على جائزة أكثر شخص تعرض للعنف في طفولته، لكننا بصدد نقاش الظاهرة ورفضها كلية. للأسف أننا ما نزال نراوح مكاننا فيما يخص التربية، ودور الأسرة في التربية. جيلي ومنهم أكبر مني بقليل، عندما كونا أسرا بحثنا عن الحل الأسهل لتربية أبنائنا، وهو منحهم كل شيء حتى لا يعيشوا كما عشنا، وكان هذا قرارا خاطئا ندفع ثمنه اليوم، ويكفي المرء جولة في محيط المؤسسات التعليمية ليفهم ما أقصده. نحن حاولنا بشكل من الأشكال إنقاذ أبنائنا من الجحيم الذي عشناه لكننا خلقنا جحيما ربما يكون أسوء قياسا لحجم الكوارث التي قد يجلبها على المجتمع. لا أعرف ما إذا كان ضروريا أن يطلع المرء على أساسيات في التربية قبل الإنجاب أم لا، لكنني أجزم ان المنظومة القانونية يجب أن تتغير لتحمي الطرف الأضعف.

ختمت روايتك بعبارة “حصلت على سقف يأويني ومطبخ يطعمني، فوق هذا وذاك ابتعدت عن جحيم أبي، فالأمور أصبحت أفضل بالتأكيد”، هل انتهى الجحيم هنا فعلا وأصبحت الأمور أفضل؟

سيتسبب الجواب عن هذا السؤال في حرماني من عنصر المفاجأة لو أردت كتابة جزء ثان من الرواية، لكن بكل صراحة لم ينتهي الجحيم، والقصة ما زال فيها الشيء الكثير مما يستحق أن يروى.

أليست بنية المجتمع “جحيما” ليس بالمعنى الذي يقصده سارتر لكن بالمفهوم الذي يطرحه ميمون الواليدي عن السلطة؟

بكل تأكيد، سبق وقلت أن المؤسسات الاجتماعية وجدت لقهر الأفراد، وبهذا المعنى يمكن القول أن المؤسسات الاجتماعية جحيم، والمجتمع في المحصلة كمجموع للمؤسسات الاجتماعية هو جحيم بالضرورة. يبقى أن أشير إلى أننا بصدد الحديث عن المجتمع كما هو الآن أي كمجتمع طبقي.

يسير المشرع في المغرب نحو إدخال تعديلات على مدونة الأسرة، ما هي الجوانب التي يمكن من تجربة الطفل ميمون أن تبدوا لكم ضرورة استحضارها من قبل المشرع للحد من الإشكالات التي يعاني منها الأطفال من داخل الأسر المشتتة؟

ما حدث لبطل الرواية وما حدث ويحدث لملايين الأطفال ليس فقط مسألة إرادوية ذاتية مرتبطة بعقلية الآباء، وكأن الآباء منفصلون عن الواقع. الحقيقة أن الترسانة القانونية وفي مقدمتها مدونة الأحوال الشخصية سابقا ومدونة الأسرة لاحقا، هي من أعطت بعلم أو بغير علم للأسرة وبالتالي لأفراد الأسرة الغطاء الشرعي للقيام بما قاموا ويقومون به. وفي نظري أن مدونة الأسرة يجب أن ترقى على الأقل إلى سقف الاتفاقية الدولية لحقوق الطفل وباقي التشريعات الدولية ذات الصلة حتى نتطلع لحماية الأطفال.

أتممت روايتك “جحيم أبي” في أكتوبر 2017، ولكن الطبعة الأولى لم تصدر إلا هذه السنة، ما سبب هذا التأخير؟ وكيف ترى وضعية القراءة والنشر في المغرب بشكل عام؟

التأخير تسببت فيه أسباب ذاتية وأخرى موضوعية، ولكن أهمها هو عدم توفر الإمكانيات المادية لنشر الرواية، كما أن جائحة كورونا عقدت الأمور أكثر. القراءة ليس في المغرب فقط ولكن في العالم أجمع تأثرت بالتحول الرقمي والتكنولوجيات الحديثة ووسائل التواصل الاجتماعي، وتأثرت أيضا بالتغير القيمي الذي تسببت فيه الثورة التكنولوجية، فقد تجد من يملك مكتبة منزلية ضخمة لكنها معدة للتباهي والتقاط الصور وليس للقراءة. أما الحديث عن النشر فهو حديث ذو شجون ولا يكفي جواب عن سؤال صحفي لاستعراض كل جوانبه، يكفي القول أن أغلبية الكتاب الشباب والمبتدئين مجبرون على الاعتماد على إمكانياتهم الذاتية لنشر أعمالهم وهو ما يحرمنا بالتأكيد من كثير من الإبداع لأن هناك من المبدعين من لا يستطيعون نشر أعمالهم وبالتالي يتخلون عن فكرة الكتابة ككل.

كيف يرى ميمون وضع الرواية المغربية وتطورها والسيرة الذاتية كفضاء للبوح؟ وما هي القضايا التي يحاول الواليدي الدفاع عنها في كتاباته؟

في المغرب، راكمنا تجربة لا بأس بها في ما يخص جنس السيرة الذاتية في العشرين سنة الأخيرة، خاصة بفضل أدب السجون بعد الطفرة التي عرفها هذا المجال منذ بداية الألفية، كما أننا نتوفر على عدد كبير من الروائيين قياسا بعقود سابقة، والأسباب معروفة ومفهومة، لكننا في نظري على مستوى الكيف مازلنا في بداية الطريق وأمامنا عمل كبير إن أردنا أن نتحدث فعلا عن رواية مغربية قائمة بذاتها وقادرة على مقارعة المدارس المعروفة. الأمر يتوقف على مشروع مجتمعي شامل يمكن أن يحول وزارة الثقافة إلى حاضنة حقيقية للإبداع ويوفر الظروف لقيام مقاولات نشر تضع الرواية والكتابة بشكل عام على رأس الأولويات، ويسمح بقيام اتحاد كتاب قوي ومتجدد. أعتقد أن روائيينا يجب أن تكون لديهم مشاريع أدبية، أن يلتزموا بقضايا ويخصصوا لها وقتهم وأقلامهم لزمن طويل، وفي هذا الصدد أنا مهتم بالقضايا الاجتماعية  أو أتبنى ما يسميه  صديقي الحجوجي أدب القاع، وسأحاول الالتزام به قدر استطاعتي.

كيف يرى الواليدي العلاقة بين الكاتب والسلطة، هل تشبه العلاقة بين الطفل “مون” ووالده؟

بكل تأكيد أن العلاقتين متشابهتين إلى حد كبير، ولهذا فوالد الراوي في روايتي هو أداة من أدوات السلطة وإن بشكل غير رسمي. وما نأمله دائما، هو أن يتمرد الكاتب كما تمرد الراوي، وألا يسمح الكاتب للسلطة بأن تدجنه كما حاول الأب تدجين الطفل في الرواية، لأنني أظن أن العلاقة بين الكاتب والسلطة يجب أن تكون علاقة تنافر بالضرورة.

إقرأوا أيضاً:

من نفس المنطقة:

magnifiercrosschevron-down linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram