الرئيسية

رسالة يأس أخيرة| القصة الكاملة لأحمد جواد الفنان الذي “أشعل جسده” بدل الشموع

يوم الإثنين 27 مارس 2023، على التاسعة والنصف صباحا، وقعت حادثة موجعة في زنقة غاندي بالرباط أمام قاعة باحنيني التابعة لوزارة الثقافة والشباب والتواصل، التي لا تبعد سوى ببضع عشرات الأمتار عن المسرح الوطني محمد الخامس، وعن ولاية العاصمة الرباط. في المشهد رجل ستيني أنيق خدم المسرح والتنشيط الثقافي في عاصمة "الأنوار" لسنوات طويلة، يترجل في اتجاه القاعة، يقف أمامها لبرهة، ليصبّ على نفسه، في مشهد تراجيدي،  مادة حارقة، وسرعان ما انتشر لهيب النار ليلتهم سائر جسده النحيف، وقبل أن يتدخل المارة لإطفائها، كان قد حرك مياها راكدة رافقت معاناته منذ سنوات طوال. يتعلق الأمر بالفنان المسرحي أحمد جواد الذي نقل على وجه السرعة إلى مستشفى ابن سينا في حالة خطيرة، بعد إصابته بحروق من الدرجة الثالثة غيرت ملامح وجهه بالكامل وأثرت على معظم أجزاء جسده.

هوامش |  محمد تغروت

“أحمد جواد لا تحرق نفسك يا رجل”، كان هذا عنوان مقال للشاعر والصحافي الراحل حكيم عنكر، في عموده “على الحائط”، والذي نشر في جريدة المساء، يوم 19 يونيو من سنة 2013.

المقال تطرق فيه عنكر لنداء وجهه المسرحي والفنان والمنشط في مسرح محمد الخامس أحمد جواد إلى المسؤولين في وزارة الثقافة وفي الحكومة، ثم إلى الوسط الثقافي المغربي، يشير فيه إلى عزمه على إحراق نفسه أمام مقر وزارة الثقافة يوم فاتح يوليوز من تلك السنة. اعتبر عنكر أن الأمر لا يتعلق بتهديد “أبيض”، بل “هي رسالة يأس أخيرة، لا تحتاج إلا إلى عود ثقاب كي تشعل النار في الجسد النحيل”.

“النقطة” التي ألهبت الجسد 

نشر أحمد جواد قبل أيام، على صفحته على فيسبوك، رسالة مفتوحة إلى وزير الثقافة والشباب مهدي بنسعيد، جاء فيها “ما هذا يا معالي وزير الثقافة، حتى دعوة لحضور فعاليات المهرجان الوطني للمسرح الإحترافي أبقى محروما منها كما في الدورات السالفة؟“، مستغربا استمرار حضور نفس الوجوه “التي تتحكم في كثير من المهرجانات التي تشرف عليها الوزارة” حسب تعبيره.

 وطالب المنشط والفنان المسرحي أحمد جواد، بـ ”رفع الحصار والمنع والظلم عنه”، معرّفا بمساره الذي دام “26 سنة في خدمة المسرح الوطني والأدب والفنون المغربية”. واستحضرت الرسالة الأخيرة لجواد تجربة ”نادي الأسرة” التي استقبل فيها العديد من الأدباء والفنانين، سواء لتوقيع إصداراتهم، أو لقاءات مفتوحة أو تكريمات، وضمت لائحة الذين مروا بنادي الأسرة عبد الحميد جماهري، محمد بنيس، خناتة بنونة، حسن نجمي، محمد الأشعري، محمد زفزاف وغيرهم.

وتساءل أحمد في ذات الرسالة “هل في بلد ما أو عاصمة ما يجد فنان مسرحي ومنشط ثقافي خدم بكل تفان مؤسسة وطنية اسمها “المسرح الوطني محمد الخامس”  ( هل يجد) نفسه متسولا قوته وقوت عياله، في الوقت الذي توزع وزارتكم الدعم بكل أنواعه؟ “. 

وأعقب الفنان تساؤلاته بالتذكير بواقعة اعتقاله سنة 1994، متسائلا : “هل تعلم أني جراء هذا الظلم الذي طالني خارج القانون، قد أنصفتني هيئة الإنصاف والمصالحة بحكم لصالحي بالتعويض وجبر الضرر، وقد حصلت على التعويض في حينه، أما جبر الضرر فللأسف لم احظ به، علما أن وزارتكم هي المسؤولة عن تفعيله“.

وختم أحمد جواد رسالته قائلا: “ها أنا مجبر على التسول من الأصدقاء الميسورين وحتى غير الميسورين في الرباط ومدن أخرى.. أتمنى أن تقرؤوا ندائي هذا بعيدا عن محيطكم وتستفسروا لماذا أحمد جواد يتعرض لكل هذا الظلم، ولماذا يعيش هذا الوضع“.

من هو أحمد جواد؟ 

هو القادم من دكالة التاريخ والحضارة والمحن التي لا تنتهي، وهو الذي لن يكون إلا عاشقا للشغب والإبداع، فأحمد جواد لا يمنع نفسه من التواطؤ مع كل المبدعين، وفي نادي الأسرة كان ينكشف هذا التواطؤ الجميل“. هكذا تحدث، عن سابق معرفة، السوسيولوجي عبد الرحيم العطري عن أحمد جواد في مقال له تحت عنوان: “الفنان أحمد جواد صانع الفرح الثقافي“، (نشر على موقع ديوان العرب، بتاريخ 11 مارس 2006). 

ولد أحمد جواد بجماعة أولاد حسين التابعة لإقليم الجديدة، يوم 9 أكتوبر 1961، لأب كان يزاول مهنتي الخياطة والفلاحة ليعيل أسرة تشكلت من أحمد وأربعة إخوة وأربع أخوات. ترعرع ما بين الجديدة وقريته الأم، لكون المسافة بينهما يمكن قطعها في 20 دقيقة. 

غادر أحمد مقاعد الدراسة وهو في سن الرابعة عشرة، وتوقفت مسيرته في مستوى الثانية إعدادي ليلتحق بدار الشباب بالجديدة، حيث استفاد من خزانة الكتب التي كانت تتواجد بها. وهناك انفتح على كتابات موليير وشكسبير وسعد الله ونوس. 

غير أن أبرز ما ميز تلك الفترة هو ظهور سلسلة المسرح العالمي، التي فتحت عينيه على هذا الفن، فانخرط في العمل الجمعوي واهتم بالمسرح.  وبالموازاة مع ذلك اشتغل في العديد من الحرف لإعالة نفسه ولإرضاء والده، كما قال قبل بضعة أشهر، في لقاء مصور على قناة إشراقات لأمين بلحاج.

أحمد جواد زوج الفنانة علية جبور، الممثلة وخريجة محترف المسرح، يقول عنها “ليست ورائي امرأة بل بجانبي امرأة“، لديهما ابنان هما مهدي (22 سنة) ومنال (10 سنوات). 

التحق جواد بالمسرح الوطني محمد الخامس في الرباط، موظفا، في عهد مديره عزيز السغروشني، حيث اشتغل كمدير منشط لنادي الأسرة بمسرح محمد الخامس، الذي كانت تحتضنه البناية الخلفية قبل أن يتم تحويلها إلى “مقهى أدبي”. وكان السغروشني قد استقدمه للإشتغال في مسرح محمد الخامس بالقول “سنخصص لك راتبا شهريا يتيح لك أداء مبلغ الكراء والماء والكهرباء، لتتفرغ للعمل المسرحي“، حسب تصريح جواد، وأكد في ذات اللقاء رفضه الاشتغال كموظف شبح، مصرا على أن يشتغل فعلا، قبل أن يحصل على التقاعد في أكتوبر من سنة 2021، بمعاش لا يتجاوز 1800 درهم.

“أجمل مهنة هي العمل لصالح الإنسانية

سُئِل أحمد جواد عن المسرح فقال “هو فن إنساني”  واستشهد بمقولة لفولتير يقول فيها: “إن أجمل مهنة يمكن للإنسان أن يمارسها هي العمل لصالح الإنسانية”، وأضاف “هو ما نصل إليه بالمسرح“، وأوضح أنه لإنتاج عمل مسرحي جيد يتطلب الأمر 15 حِرَفِّيٍ بارع.

شكلت سنة 1976 نقطة التحول البارزة في مساره، حيث وقف على الركح لأول مرة، في الجديدة، المدينة التي كانت تضم آنذاك ثلاث قاعات سينما ومسرحا في مساحة لا تتجاوز 600 متر، وهي التي تحتضن المسرح البلدي الذي تأسس منذ عشرينات القرن الماضي، قبل أن يسمى مسرح “عفيفي” نسبة إلى الراحل محمد سعيد عفيفي مدير فرقة المسرح البلدي بالجديدة.

بعد ذلك، شارك جواد في العديد من الأعمال المسرحية بالجديدة مع جمعية “عروس الشواطئ”، وهي إحدى أقدم الجمعيات المسرحية بالمدينة من بينها مسرحية “الله يرحم مي طامو” لأحمد الطيب لعلج، ومسرحية “العين والخلخال” لعبد الكريم برشيد،  ومسرحية “البوهالي” للفقيد عبد الله النظام، الذي خبر الاعتقال والسجون بسبب نصوصه المسرحية أكثر من مرة.

كما شارك في مسرحية “حلاق درب الفقراء” ليوسف فاضل وشخص فيها دور ميلود، وأنجز ديكورها الذي كان من القصب، ليس بسبب الاجتهاد أو – التجريب – كما يقول – ولكن بسبب قلة ذات اليد ومن باب التقشف.

من أبرز أعماله المسرحية “ورقة وقلم”، من تشخيصه إلى جانب زوجته علية جبور،  التي كانت بمثابة احتفاء بـ”الكْتَابَة” التي هي “بَلِيَّة كلّ هاوٍ لها”، بالإضافة إلى مسرحية “هو” التي تناقش سنوات الجمر والرصاص، ومسرحية ” درس في الحب”.

الوزارة تأسف وتتمنى الشفاء “لهذا المواطن”

بعد الواقعة، أصدرت وزارة الثقافة والشباب والتواصل بلاغا عبرت فيه “عن أسفها العميق لهذا الحادث المأساوي“، وتمنت الشفاء العاجل “لهذا المواطن“، وأعربت عن تضامنها الكامل مع المواطن وأسرته، جراء ما حدث، مهما كانت الظروف والخلفيات والدوافع وراء الحادث. 

وأوضحت الوزارة أن الأمر يتعلق بموظف متعاقد بمسرح محمد الخامس بالرباط، أحيل على التقاعد في أكتوبر 2021، و”يتمتع بجميع حقوقه المكفولة له بحكم القانون، ويشتغل في نفس الوقت، في الفن المسرحي“.


وأضاف بلاغ الوزارة أنه “سبق للشخص المذكور، أن تقدم بطلب شراء عروض مسرحية، وهو ما تمت الموافقة على طلبه، حيث قامت الوزارة بشراء عرضين مسرحيين سنة 2022 كما وافقت على شراء عرض مسرحي برسم 2023، وسبق أن قدم هذه العروض بكل من مدينتي مشرع بلقصيري وسلا“، حسب نص البلاغ.


وأكدت الوزارة، أنها “تتابع حالة الشخص المذكور، لحظة بلحظة، حيث تم إيفاد مسؤول بقطاع الثقافة لتتبع حالته الصحية بالمستشفى، وتتمنى له الشفاء العاجل“.

الوزارة في بلاغها لم تمنح للمعني بالأمر صفة فنان بل اكتفت بوصفه بـ “المواطن” و في فقرة أخرى ذكرت أنه سبق “للشخص” أن تقدم بطلب شراء عروض مسرحية. 

وفيما يشبه الاستدراك أشار وزير الثقافة المهدي بنسعيد خلال مشاركته، مساء يوم الحادثة، في ندوة لمؤسسة الفقيه التطواني بسلا، أن مشروع قانون مؤسسة الرعاية الاجتماعية للفنانين المحال على الأمانة العامة للحكومة، سيعمل على مواكبة الفنانين اجتماعياً وتجنب مثل هذه الماَسي مستقبلا، مشددا على ضرورة الحفاظ على كرامة الفنانين “الذين كبرنا معهم على شاشة التلفاز وأصبحوا جزءا منا، ومواكبتهم اجتماعياً حتى لا نقع في مثل هذه المأساة”.

عبد الرحيم الخصار: “ما أثارني هو تبخيس الوزارة للرجل

وفي تعليق على الحادثة، استغرب الشاعر عبد الرحيم الخصار وصف الوزارة للفنان أحمد جواد بالمواطن وبالشخص. وقال الخصار في تصريح خص به “هوامش” “ما أثارني هو تبخيس الوزارة في بيانها للرجل، فهو فنان في نهاية المطاف، أن يكون فنانا كبيرا أو صغيرا، مشهورا أو مغمورا أمر لا يهم“. 

وأضاف الخصار “هو فنان يشتغل ضمن مسرح الهواة منذ سبيعنيات القرن الماضي، وقدم أعمالا مع رموز المسرح المغربي في مرحلة ما، وبالتالي فالرجل ليس نكرة حتى تصفه الوزارة في بيانها بالشخص والمواطن، وهاته العبارات التي تهدف إلى تغييبه وتهميشه وتقزيمه وتحجيمه“.

كما استغرب المتحدث ما أثير بعد الحادثة عن أحمد جواد، وقال “هذا الخطاب غريب حقيقة، لأنه لا يمكن لأي شخص أن يقدم على إضرام النار في جسده من أجل حب الظهور أو الابتزاز لأنه في النهاية مهدد بالموت ونحن إلى الآن لا نعرف الوضع الصحي للرجل. إنه لم يضرم النار في نفسه ويضع مادة حارقة ومسرعة للاشتعال إلا وقد وصل به الأمر إلى ذروة التحمل“.

وأشار الخصار إلى أن الرجل يعيش ضغوطا اجتماعية ونفسية خطيرة، فقد تقاعد من وزارة الثقافة بمعاش هزيل لا يتعدى 1800 درهم، “وهو مبلغ لا يتيح حياة كريمة في هذا الزمن، زمن غلاء المعيشة، وهو رب أسرة ولديه أبناء وتلزمه مصاريف، وهذا بحد ذاته سبب مقنع لأن يفعل المرء أي شيء في هاته اللحظة الضاغطة.فالدعم المادي كان بالنسبة إليه حلا لمشاكله الاجتماعية قبل مشاكله الفنية، فالرجل في حاجة إلى أي دعم مادي في هذه اللحظة“.

ما لم تقله الوزارة

قبل إقدام  الفنان المسرحي أحمد جواد على خطوته يوم 27 مارس، كان يخوض اعتصاما أمام مقر الوزارة منذ 9 فبراير الماضي، وكشف لجريدة الاتحاد الاشتراكي، حسب مقال نشر في نسختها الالكترونية، بتاريخ 28 مارس 2023، عن منعه، أسبوعا قبل إقدامه على إحراق نفسه، من دخول وزارة الثقافة، إذ كان يعتصم أمام باب الوزارة الاثنين والثلاثاء من كل أسبوع، قبل أن تستدعى سيارة المصالح الإجتماعية، التي تنقل في العادة المشردين والمتخلى عنهم، لنقله من المقر.

وقال أحمد جواد “رفضت الذهاب معهم بعد أن سلمت أحدهم البطاقة الوطنية وبطاقة الفنان، وقلت له أفضل سيارة الأمن على هذه السيارة، فعلمت حينها، أن مسؤولا من الوزارة قد كذب على السلطات، وادعى بأني لا أنتسب للميدان الفني، وعندما تأمل رجل السلطة في بطاقة الفنان، نظر بارتياب إلى مسؤول وزارة الثقافة، فلجأوا للهدنة” وفق تصريحه، بإرسال موظفة بالوزارة وهي نقابية، حيث طلبت “أن أنهي الاعتصام، وجلسنا في إحدى المقاهي لمناقشة هذا الموضوع“.

وأوضح الفنان المسرحي أحمد جواد، كما أوردت ذلك جريدة الاتحاد الاشتراكي، أنه وضع هذه الموظفة في الصورة، مؤكدا أنه تقدم للوزارة بطلبين “وضعتهما لدى السيد الوزير، يتعلق الأول بطلب مقابلة مع السيد الوزير، وطلب ثان يهم دعم عرضنا المسرحي الحكواتي “درس في الحب”، فطلبت مني إنجاز ملف عن الموضوع“.

ويضيف أحمد جواد، “لقد اتصل بي أحد الموظفين من مديرية الفنون ليخبرني بأن عملي استفاد بعرضين، فرفضت (…)، وقلت لهذا الموظف، لا يمكن أن أتعامل مع وزارة منعت من دخولها، وإذا ما استمروا في ركوب رؤوسهم، فأنا سأركب رأسي، وأُصعّد من الاحتجاج بحرق نفسي أمام مقر الوزارة”

جدير بالذكر أن أحمد جواد سبق أن هدد بإحراق جسده قبل عشر سنوات، بسبب شعوره بعدم الإنصاف، إذ ظل في السلم (05) دون أن يغادره منذ أن تم تعيينه كموظف في مسرح محمد الخامس. وكان الرجل الذي يشرف على عدد من الأنشطة، لفترة طويلة من مساره المهني لا يتقاضى إلا 1800 درهم في الشهر، وهو الحد الأدنى للأجور آنذاك، الذي لا يمكن لأحد أن يعيش به في سلا حيث يقيم.

إقرأوا أيضاً:

من نفس المنطقة:

magnifiercrosschevron-down linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram