الرئيسية

رحلة الموت ..  هوامش تلتقي قاصرين سودانيين وصلوا إلى وجدة

"لولا الإصرار لما وصلت إلى وجدة. اعتقلت في الجزائر وتم إيداعي السجن حيث قضيت أربعة أيام، وجدت هناك من قضى أسابيع، رُحِّلنا بعدها إلى النيجر، لأشُدَّ الرحال مرة أخرى عبر الصحراء، إصراري كان أقوى، وبقيت صامداً حتى قطعت الحدود مرة أخرى إلى أن بلغت وجدة، وأنا الآن أبحث عن عمل لأستقر قليلاً"، هكذا تحدث إلينا محمد وهو نازح سوداني حلَّ قبل أسبوع بمدينة وجدة.

أسامة باجي

وانت تعبر أزِقَّة المدينة القديمة لوجدة (شرق) الحدودية مع الجزائر، وخلف باب الغربي عبر الزُّقاق المؤدي إلى مدرسة “أم البنين” ستصادف سياجاً حديديا أمام بُقعة أرضية مُحاطةٍ بالمنازل، ستجد بعض الألبسة وبقايا الطعام وبعض الأغطية المتلاشية، سرعان ما قد تعتقد أنها لأطفال متخلى عنهم، وإذا ما اقتربت قليلاً وَولجت المكان، ستجد نفسك أمام قاصرين  قدموا في رحلة مميتة من السودان، ليستقر بهم المقام بمدينة وجدة، لكل منهم اسم يحمل حُلُماً ولكل منهم قصة قادته إلى هنا. 

هوامش وصلت إلى هذا المكان، وحاولت نقل جانب من وضعهم، على الرغم من عدم رغبة البعض في الحديث وصغر سن البعض الآخر وهو ما صعَّب علينا نقل أنينهم صوتاً وصورةً أو حتى أخذ صورِ لأماكن عيشهم.

وأنت تتأمل وجوههم تجد بينهم قاسما مشتركا؛ الاضطهاد، الخوف الذي حملوه من قراهم في السودان، الخوف من خوض غمار الرحلة، والخوف من الوصول إلى المجهول، وأنت تُحدث أصغرهم سنا، تشعر في لحظة أنك أمام طفل بملامح رجل والعكس صحيح.

رحلة 3 آلاف ميل 

يقول الشاعر محمود درويش “وأنت في طريقك بحثا عن الحياة لا تنس أن تعيش، ولا سبيل للعيش هنا إلا مغادرة الأوطان”. محمد، 32 سنة وهو الأكبر سناً داخل هاته المجموعة، يتحدث أخيرا بعد صعوبة لمنصة ”هوامش”، شكا منه في كوننا فعلا صحافيين وظنَّا منه أننا نعمل لحساب السلطة المحلية، فرحلته علّمته أن يكون حذرا.

انطلق محمد، من قرية بضواحي مدينة “أم درمان”، فيما يسميها رحلة الموت، “كانت الرحلة مشياً على الأقدام، وقطعنا مسافة تزيد عن 4342 كيلومترا على مدى أزيد من ثلاثة أشهر”، يحكي محمد بعينين ذابلتين ويدين ترتجفان فتكشفان توتره، “خلال هاته الرحلة رأيت الموت مرات عدة، عشت عذابا نفسيا وعانيت مرضا عضويا على الطريق بسبب السير المتواصل والهروب أحيانا من الدوريات في الحدود، اعتقلت وتعرضت للتعذيب في الجزائر”، يصمت قليلا ثم يضيف “بعد أن تاهت بنا السبل في السودان وعشنا التضييق في الجزائر عبرنا إلى المغرب بحثا عن لقمة عيش”.

لكنَّ الأصعب أن يخرج النازحون فراراً عبر الحدود، مصطفى، 18 سنة، هو الآخر قطع آلاف الأميال رفقة أصدقائه الحالمين بغد أفضل، يتذكر تفاصيل الرحلة الشاقة التي كان زادها القليل من الماء والرغيف والكثير من الخوف، “كان الخطر محيطا بنا من كل جانب لأنها طريق الموت، كنت أحمل حقيبة بها مصحف وسبحة وماء ورغيف وزيتون اقتسمه مع رفيقي في الرحلة، كنا نأكل القليل كلما أشتد جوعنا لندّخر للأيام التالية، فلا أحد يدري متى وأين وكيف سنحصل على الطعام، تطلب عبور الحدود السودانية التشادية أسبوعاً كاملاً (يبلغ طولها حوالي 1403 كم) وهذه المنطقة تعرف توترات عديدة”. 

آخر التوترات سجّلت نهاية يوليوز الماضي، حيث شهدت ولاية النيل الأزرق اشتباكات عنيفة بين قبيلتي الفونج والهوسا، فضلا عن اشتباكات بين موالين للرئيس المخلوع عمر حسن البشير وقوات الأمن تشهدها مجموعة من الأقاليم.

يقول مصطفى كنا ثلاثة قطعنا من “الجنينة” (منطقة سودانية حدودية) “إلى إدريمي” (منطقة تشادية في الحدود السودانية) يصمت قليلاً ثم يسترسل “أن تخرج من السودان فهو أولُ نصر على الرغم من أن المسافة أطول بكثير، وتلزمنا أشهر طويلة للوصول إلى المغرب الذي كنا نسمع من السودانيين الذين سبقونا أن الحياة فيه أفضل بكثير”.

عبد الله الذي يبلغ من العمر 16 سنة، وهو الأصغر سنا ضمن المجموعة الملتحقة حديثاً بوجدة، يقول إنَّ والدي توفي بعد أن جرفته الفياضانات التي شهدتها عدة مناطق في السودان، لقد انهارت منازل عديدة في قريتنا بينها منزلنا فأصبحنا بلا معيل ولا مأوى، مما دفعني للخروج من المدرسة القروية وترك والدتي وأشقائي الأربعة وخوض هذه المغامرة.

يقول عبد الله “هذه هي المرة الأولى التي أغادر فيها القرية، ثم خرجت فارّا من السودان بسبب الفيضانات، قضينا أسبوعا كاملاً على الحدود بين تشاد وليبيا، وبعد أن تمكنّا من الدخول إلى الجزائر تم توقيفنا واقتيادنا إلى السجن وعوملنا بقسوة، تعرض بعضنا للتعذيب أثناء التوقيف، ضربونا بالسياط، تركونا دون طعام ولا ماء، وتم إخلاء سبيل البعض فيما بقيت مجموعة أخرى لا ندري مصيرها، وبعد معاناة دخلنا إلى المغرب”.

نازحون بروح العنقاء

على الرغم من الآمال المحطَّمة إلا أن مصطفى يحلُم بمتابعة دراسته هنا في مدينة وجدة، وربما العودة إلى وطنه في يوم من الأيام، وطن ممزق بين حروب قبلية وأهلية، وصراع على السلطة بعد التفاف العسكر على ثورة السودانين ثم الفيضانات التي أجهزت على ما تبقى من قدرة التحمل “هذا الوضع دفعني للهروب، “لقد رأينا الكثير وعشنا الأهوال وليس أقلها المعاملة القاسية والمطاردة وسلب للزاد خلال رحلتنا وتحديدا في ليبيا”. 

أَمَلُ محمد أن يُتِمَّ دراسته في المغرب، يتلعثم، يصمت قليلاً ويقول “هدفي أن أدرس، أتمنى من المنظمات الحقوقية وجمعيات رعاية اللاجئين الالتفاتة لمطلبنا”،أما  مصطفى فأمله إتمام الدراسة “لست وحدي، ففي محيطي هنا خمسُ شُبان لا تتجاوز أعمارهم 17 سنة حلمهم أن يلجوا حجرات الدرس مطلع الموسم الدراسي”. 

وحده مصطفى استجمع قواه بعد أن ضاعت في الصحراء، وتحدَّث بلسان القاصرين. يجيب محمد على سؤال يُطرح كثيراً. هل المغرب بالنسبة لكم محطةٌ عبور إلى أوروبا؟ “هدفنا ليس العبور، بل نريدُ مأوى ومدرسة، لقد جئنا هربا من الضياع في السودان، نريد أن يتم إدماجُنا في المدرسة والحصول على بطائق الإقامة ومنحٍ لنكمل دراستنا الثانوية وبعدها الجامعية”.

في الجانب المقابل شاب يلاحظُ من بعيد يرفض الكلام يحمل عُكَّازاً كان رفيقه في صحاري التشاد، ربما هو الشيء الوحيد الشاهد على وصوله إلى هنا، تفوه بكلمتين أو ثلاث بلهجة الأرياف السودانية، فهمت من محمد أنه تحدث عن التعذيب في سجن بالجزائر، ثم أسدل الستار سريعا بدخان سيجارة حجبت عنّا وجهه.

من أين جاؤوا؟

“في السودان إما أن تموت بفعل الأزمات الطبيعية المتتالية أو أن تموت جوعا أو رميا  بالرصاص الحي”، هكذا تحدث محمد بنبرة حزينة، وأضاف “الوضع السياسي بعد الثورة لا يبشر بخير، الآن إذا خرجت للتظاهر أو الحديث عن حقك المهضوم ستُقبر في الزنازن أو تموت رميا بالرصاص الحي، في كل مظاهرة يسقط قتلى برصاص وعصي الجيش، هذا ما يدفعنا للهروب، ولو أن مغادرة الأوطان مجازفة”.

عن الوضع في السودان، قالت منظمة العفو الدولية آمنستي إن قوات الأمن استخدامت القوة المُفرطة، والمميتة في بعض الأحيان، ضد المحتجين؛ ففي 11 ماي، أطلقت النيران على محتجيْن على الأقل فأردتهما قتيلين، وأصابت عشرات الآخرين في مظاهرة بالعاصمة الخرطوم؛ ونُظِّمت المظاهرة للمطالبة بتحقيق العدالة، على خلفية هجوم شنَّته قوات الأمن على متظاهرين سلميين في يونيو 2019، أودى بحياة 100 شخص وتسبب في إصابة المئات الآخرين

كما أضافت أمنيستي أن العنف الذي تُمارسه قوات الأمن تضاعف بعد استيلاء الجيش على السلطة في أكتوبر، وخرج مئات الآلاف إلى الشوارع في احتجاجات عديدة. وقد شاركت جميع فروع الجهاز الأمني بما في ذلك الجيش والشرطة وقوات الدعم السريع، في عمليات القمع العنيفة وفض الاحتجاجات وقُتل 53 شخصًا على الأقل، وأُصيب المئات في التظاهرات. 

ووصفت مفوضة الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان، ميشيل باشيليت استيلاء العسكريين على السلطة في السودان بالأمر “المقلق للغاية” مضيفة أنه “خيانة لثورة 2019 الشجاعة والملهمة ويتعارض مع كل قوانين حقوق الإنسان الدولية، وكذلك الوثيقة الدستورية الخاصة بالبلد والوثائق التأسيسية الأخرى للمرحلة الانتقالية.”

كما أشارت باشيليت إلى أن الاحتجاجات الضخمة منذ 25 أكتوبر ووجهت في عدة حالات بالاستخدام المفرط للقوة، بما في ذلك استخدام الذخيرة الحية، كما وثقها مكتب الأمم المتحدة المشترك لحقوق الإنسان في السودان ولا سيّما في الخرطوم وفي أم درمان. 

من جانب آخر أشار مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية في تقريره الأخير عن الأوضاع بالسودان إلى أن التقديرات تشير إلى أن ما يقارب ربع سكان السودان، 11.7 مليون شخص، يواجهون انعدامًا حادًا في الأمن الغذائي منذ يونيو الماضي، فيما تم تسجيل ما يقرب من 35,000 نازح جديد في ماي ويونيو في جميع أنحاء السودان نتيجة للنزاعات المحلية. كما ساهم معدل الانتشار المرتفع لسوء التغذية الحاد في السودان في زيادة مخاطر الإصابة بالأمراض والوفيات بين الأطفال دون سن الخامسة.

وضع فاقمته الفيضانات التي ضربت عدة مناطق في البلاد. وحسب المجلس القومي للدفاع السوداني فإن عدد ضحايا السيول والفيضانات ارتفع إلى 83 قتيلا و36 مصابا منذ يونيو الماضي، مشيرا إلى أن السيول أسفرت عن “انهيار 18 ألفا و235 منزلا بشكل كلي، و25 ألفا و658 بشكل جزئي، وتضرر 57 من المرافق، و69 من المتاجر والمخازن”.

أرواح ذابلة تسقي الأمل

يُجمع محمد وعبد الله، اللذان ينحدران من نفس القرية، على أن سبب النزوح هو القمع والحرب الأهلية بالسودان، ومخلفات الصراع في المنطقة، في هذا الصدد يقول محمد إن السلطات تعمد إلى سجن كل من طالب بأبسط حقوقه وأحيانا يُقتل بوحشية. 

 يقول محمد، ”لقد تغير الوضعبعد حلِّ مجلس الوزراء في 11 أبريل 2019، وفشل كل الجهود الرامية إلى توحيد المبادرات مما أتاح المجال أمام الصراع على السلطة، وإصرار لجان المقاومة على التغيير، وتحالف الجبهة الثورية السودانية (وهو تحالف مشكل من ثلاث حركات مسلحة هي حركة العدل والمساواة وحركة تحرير السودان والحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال- بقيادة مالك عقار) على الرغم من توقيعهم معاهدة السلام”.

ورغم ظروفه الحالية يشعر عبد الله بالأمان منذ وصوله إلى وجدة “الناس هنا يعاملوننا جيدا يجلبون لنا الألبسة والأغطية والخبز وما نحتاج إليه، قبل دخولنا المغرب كنا في الجزائر عندما سمعنا بأحداث الناظور، انتابنا خوف شديد، وتولدت لديَّ رغبة في العودة لكني سرعان ما أكملت السير مع محمد الذي كان يرعاني ويتقاسم معي زاده القليل إلى أن دخلنا وجدة واستقر بنا المقام في هذه الزاوية” يقول محمد.

تركنا محمد ومصطفى وعبد الله محمّلين ببوحهم الذي ظل صداه يتردد في طريق العودة، بينما الأمل لا يفارق الأجساد والأرواح التي أكلها التعب، حين التفتنا كانوا يلوّحون بأياديهم مودّعين وفي الآن نفسه محمّلين إيانا رسالتهم ” انقلوا صوتنا، نريد فقط أن نعيش بسلام ونكسب رزقاً نعيل به أنفسنا وأهلنا العالقين في السودان”.

إقرأوا أيضاً:

من نفس المنطقة:

magnifiercrosschevron-down linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram