الرئيسية

تحقيق: مآسي مناجم الكوبالت بالمغرب.. أضرار بشرية وبيئية لتزويد أوروبا بالبطاريات

لتسويق سياراتها الكهربائية "الصديقة للبيئة" ومنح صورة إيجابية عن "نظافة" نشاطها الصناعي، تضع شركات تصنيع السيارات الأوروبية بطارياتها المصنوعة من "الكوبالت المسؤول" في عمق استراتيجياتها التواصلية. تعتبر شركة "مناجم" (Managem)، المملوكة للهولدينغ الملكي، أحد أبرز مزودي السوق الأوروبية بالكوبالت. مرفوقة بالمصور الصحافي بنجامان بيرني، انتقلت سيليا إزوار إلى عدد من مناجم الكوبالت جنوب المغرب للتقصي ـ بالأرقام والصورة والتحاليل المخبرية ـ في مدى صحة خطاب مصنعي السيارات الاوروبية  وشركائهم  في المغرب، وكانت النتيجة الكشف عن كوارث بيئية خطيرة ضحاياها الواحات والعمال والساكنة. تحقيق منصة "هوامش" وموقع "لكم" بالشراكة مع مجلة "روبورتير".

ـ “هوامش” و”لكم” بالشراكة مع جريدة “روبوتير

من إعداد سيليا إزوار وصور بنجامان بيرني  I يمكنكم مطالعة التحقيق باللغة الفرنسية هنا : الجزء 1 ـ الجزء 2.

في جبال الأطلس القاحلة، وتحديدا بين مدينتي أكدز وتازناخت، جنوبي ورزازات، يتواجد منجم “بوازار” للكوبالت، الذي بدأ نشاطه سنة 1934 إبان الاستعمار الفرنسي، قبل أن يتحول في بضع سنوات إلى أحد أكبر الرهانات الاستراتيجية لمصنعي السيارات في أوروبا.

فبحلول سنة 2040، لن يكون مسموحا إلا ببيع السيارات الكهربائية دون غيرها في دول الاتحاد الأوروبي، ويعتبر الكوبالت أحد المكونات الرئيسية لبطارياتها. لكن مصنعي السيارات يواجهون مشكلة حقيقية، تتمثل في الخروقات الخطيرة لحقوق الإنسان التي تتهم بها مناجم جمهورية الكونغو الديمقراطية، المزود الرئيسي لهذه الشركات بمعدن الكوبالت.

منجم بوازار

بغرض تحسين صورتها لجأت شركة (بي إم دابليو BMW) الألمانية، المتخصصة في صناعة السيارات الفاخرة، إلى إبرام عقد مع شركة (مناجم Managem) المغربية بقيمة 100 مليون يورو مقابل تزويدها بالكوبالت.

وبدورها أعلنت شركة (رونو) الفرنسية (RENAULT) أنها ستنتج بطاريات سياراتها باستخدام “الكوبالت المسؤول”، المستقدم من المغرب، بدءا من سنة 2025. وبدورها قالت شركة (بي إم دابليو) إن “أولويتنا، الامتثال للمعايير البيئية “، مضيفة أن عملية “استخراج الكوبالت الذي تقوم به مجموعة (مناجم) تستجيب لمعايير الاستدامة الأكثر إلحاحاً”. لكن هل قام أحدهم بالتحقق من هذا الأمر في منجم بوازار ؟

قرية بوزار على بعد أمتار من المنجم

إن لمنجم بوازار خصوصية لا تذكرها أبدا البيانات الصحفية لمصنعي السيارات، فهو أيضاً منجم لـ”الزرنيخ” Arsenic (وهو عنصر كيميائي سام)، حيث ينتج منه 7700 طن مقابل 2000 طن من الكوبالت سنويا. وإذا كان كل من “الكوبالت” و”الزرنيخ” من المواد المسرطنة، فإن الثاني سمٌّ معروف يستخدم في إنتاج المبيدات المحظورة في أوروبا. يمكن أن يتسبب التعرض المستمر “للزرنيخ” في الإصابة بسرطان الجلد، والرئتين، والمثانة، وأمراض الجهاز العصبي، والقلب والأوعية الدموية، والاضطرابات الإنجابية، وبالتالي فإن وجوده في منجم “بوازار” يمكن أن يشكل في حد ذاته سببا معقولا وكافيا للتوقف عن استغلاله، نظرا لصعوبة حماية عمال المناجم والسكان المحليين من غباره، وانتشار النفايات السامة للمنجم. ففي جنوب فرنسا مثلا تم التخلي عن مشروع لاستخراج “التنجستين” Tungstène (عنصر كميائي سام) بسبب وجود مواد مسرطنة في المنجم، لكن يبدو أن الأمر يسير عكس ذلك تماماً في حالة “بوازار”.

حينما نمر على المنجم عبر الطريق الرابطة بين تازناخت وأكدز جنوب ورزازات، فإننا نلمح بلدة بوازار القديمة، بالقرب من معامل استخراج المعادن الواقعة على سفح التل. الهواء مشبع بالأحماض ويُحرق الجلد، والغبار السام الصادر عن المنجم يملأ المكان. للوهلة الأولى، يمكن  للمرء أن يعتقد أن هذه المنازل القديمة، الصامدة وسط الركام على بعد مئات الأمتار فقط من مخلفات المنجم، لم تعد مأهولة بالسكان منذ فترة طويلة، لكنه مجرد انطباع. 

أسفل الطريق، يؤدي ممر غير معبد، مليء بالحفر، إلى منازل وسط أنقاض المساكن السابقة لعمال منجم (بوازار)، الذين قامت شركة (مناجم) بإعادة إيواء بعضهم على بعد 25 كلم من المنجم في مدينة تازناخت، وذلك على خلفية الإضراب الكبير الذي خاضوه سنة 2013. أمّا باقي سكان القرية ـ 13 عائلة تضم 20 طفلًا ـ فلا زالوا هنا. حتى أن وزارة الأوقاف عينت مؤخراً مؤذناً لإمامة الصلاة في مسجد القرية، الذي يحج إليه عمال المنجم وساكنة القرية، والذي لا يفصله عن المشهد الرمادي لمخلفات الزرنيخ سوى سياج بسيط.

حاملاً بين ذراعيه طفله البالغ من العمر سنتين، يصف الفقيه الوضع قائلًا : “أعي جيداً أن العيش هنا ينطوي على خطورة كبيرة، خاصة لطفلي، لكن ليس لي الحق في المغادرة. لقد قاموا بإعادة إيواء عمال المناجم في تازناخت، فلماذا يتم استثناءنا نحن؟ تدفع لي الوزارة 500 درهم شهريا، هذا غير كاف طبعاً لتغطية تكاليف العيش. كان يفترض أن تمنحني (مناجم)  تعويضا تكميلياً مادام الأمر يتعلق بالمسجد الذي يصلي فيه العمال، لكن طلبي ووجه بالرفض”.

إمام مسجد القرية

ويشرح لنا الحاجي حماد، وهو بقال بسيط يبيع الماء والمشروبات الغازية في متجر صغير غطّى سقفه بقطع من الكرتون، ورقّع كراسيه البلاستيكية بأجزاء من “الشامبرير” (الإطار المطاطي الداخلي للعجلات)، “لا نملك أي شيء، لا شيء يُقدَّم للسكان هنا. في الماضي، إلى حدود سنوات التسعينات، كانت هناك على الأقل حفلات للعمال. كانوا يذبحون عجلا ويقدمون لنا نصيباً منه. حتى هذا انتهى اليوم، ومستوصف المنجم ممنوع علينا، كما تتحمّل الأسر تكاليف تنقل أبنائها إلى المدارس في تازناخت. صحيح أن المنجم يزودنا بالماء والكهرباء، لكن حينما تهب الرياح يدخل الغبار إلى بيوتنا  من كل مكان”.

الحاجي حماد، بقال القرية

أما إبراهيم (30 سنة)، فيقضي أيامه في القرية، عاطلا عن العمل منذ أن جرى تسريحه من المنجم. “نعاني جميعا من حساسية الغبار الصادر عن المنجم، ونعاني من صعوبة في التنفس، وأمراض العيون بالإضافة إلى الحكة”، هكذا يصف إبراهيم الوضع الصحي في حديثه إلينا.

قبل سنة، حل وفد يمثل شركة “رونو” إلى بوازار للاحتفال بتوقيع اتفاقية شراء ”الكوبالت”. أعيد ترصيف الفضاء أمام مكاتب المنجم، كما نصبت خيمة بيضاء كبيرة وزينت بشكل فخم. حجبت الخيمة الرؤية عن كل شيء من حولها، وبعد نهاية الاحتفال، غادر أعضاء الوفد على متن حافلة دون أن يروا قرية بوازار.

إبراهيم غير بعيد عن المنجم

التضحية بالمنجميين وسط الغبار السام والمتفجرات

تعتبر مهام عمال المناجم من بين أخطر المهن، وتخضع لقواعد صارمة، كتلك التي سنها النظام العام للمناجم (1938)، ونظام مستخدمي المقاولات المنجمية (1960)، والمعاهدة الدولية للصحة والسلامة في المناجم التي صادق عليها المغرب سنة 2013، بالإضافة إلى مدونة الشغل. وفي تقاريرها الرسمية، تزعم (مناجم) أنها تذهب أبعد من ذلك بقيامها بتطوير الأداء بشكل مستمر في مجال الصحة والسلامة المهنية من خلال “الوقاية الفعالة من الأمراض المهنية” كما ورد بين الصفحة 30 و47 من تقريرها المالي لسنة 2020.

لكن لإيدر وعصمان، وهما عاملان بالمناولة يشتغلان لمدة 8 ساعات في اليوم، رأي آخر. “إن معداتنا عبارة عن خوذة وقفازات وأحذية ممزقة وليست لدينا أقنعة واقية”. وخلال عملهما يقوم إيدر وعصمان بثقب الزرنيخ والكوبالت بآلة مخصصة للصخور ويضعون المتفجرات بأيديهم. “أثناء التكوين، الذي لم يدم سوى يوما واحداً، لم يخبرونا بأن الغبار سام. تعلمنا فقط كيفية ارتداء وسائل الحماية وكيفية رش الصخور بعد عملية التفجير”، يؤكد عصمان. 

خلال فترات الاستراحة، لا يسمح للعمال بولوج المقصف، فهو مخصص لأطر للشركة وحدهم. لذا يتناولون ما جلبوه معهم من طعام في الأنفاق نظراً لـ “غياب فضاء” خاص بالأكل. ويعمل هؤلاء المنجميون بموجب عقود محدودة المدة بتعويضات شهرية تتراوح ما بين 3500 و3900 درهماً.

وتحظر المادة 497 من مدونة الشغل اللجوء إلى العقود المؤقتة في المهن الخطرة، تماما مثل الأعمال التي يصفها لنا هؤلاء العمال المنجميون، فهم يستخدمون آلات ثقب الصخور دون أقنعة، ويتناولون الطعام في موقع العمل وسط الغبار السام، ويضعون المتفجرات دون تدريب يؤهلهم لذلك. علاوة على ذلك، وهو أمرٌ يضاعف من حجم الخروقات، يُراكِم عمال المناجم عقود عمل محددة المدة، ممّا يحرمهم من حقوقهم في التطبيب والعطل والترقية والتقاعد. في المقابل، يشرح أحد العمال، “يتم إخضاعنا سنوياً لاختبار بسيط يتمثل في النفخ في جهاز للتأكد من قدراتنا التنفسية”.

ويستنكر تاجر من أكدز ظروف العاملين قائلا إن “جميع أعمامي وأبناءهم مرضى. بعد عشرين سنة من العمل في المنجم، لا يتجاوز تقاعد أحد أعمامي 1000 درهم”. نفس الوضع يعيشه رجل عجوز قابلناه في القصبة القديمة : “اشتغلت 16 سنة في المنجم لفائدة شركة المناولة (أكازومي)، أعرفها بالاسم فقط إذ لا تتوفر حتى على مقر، ولم تصرح بي في الضمان الاجتماعي، بل إني لم أوقع في حياتي أية وثائق”. يعاني هذا الرجل الطاعن في السنّ الآن من مرض السيليكوز وطنين الأذن ويتقاضى بدوره تقاعداً قدره 1000 درهم.

 ووفقًا لشركة “مناجم”، يعمل 400 عامل مع الشركات المتعاقدة (شركات المناولة) في موقع بوازار. بيد أن المعلومات التي استطعنا الحصول عليها، تُقدر العدد الحقيقي لهؤلاء العمال بنصف مجموع العاملين في الموقع، والذين يبلغ عددهم 1200 شخص. 

في يوم السوق الأسبوعي لأكدز، المجاورة للمنجم، قابلنا إدريس (60 سنة) في مقهى. يمكن أن يعتبر هذا المتقاعد نفسه محظوظا، فبعد 3 سنوات من العمل كمُناول في “بوازار” وقّع عقدا غير محدود المدة بدوام كامل مع شركة (مناجم)، الشركة الأم التي اشتغل معها لمدة 14 سنة. لكنه يعاني أيضا من السيليكوز وطنين الأذن. “إحدى رئتي مصابة بتلف شديد، لم أعد أستطيع صعود السلالم دون أن أتوقف لاسترجاع الأنفاس . حصلت على تقاعد مبكر لكن (مناجم) رفضت بشدة أن أصرح بمرضي. دافعت عن نفسي أمام مفتش الشغل، وأجريت فحصا بالأشعة لدى طبيب مستقل، لكن الأمر انتهى بتسوية ودية مع (مناجم) دفعوا لي بموجبها تعويضا ماليا. أما بالنسبة للسيليكوز فقد تم التصريح به باسم شركة المناولة (أكازومي) رغم أني لم يسبق لي الاشتغال معها، وبالتالي لا يظهر اسم الشركة الأم في أي من الوثائق الرسمية التي تم الإدلاء بها أمام المحكمة”.

يؤكد غالبية عمال المنجم ممن التقيناهم أنهم لا يستطيعون التصريح بالأمراض المهنية التي أصيبوا بها، سواء تعلق الأمر بالسرطان أو السليكوز. ويزداد الوضع سوءا بالنسبة للعمال الذين يشتغلون بالمناولة والذين يمثلون نصف الـ 1200 عامل في المنجم. فبمجرد تشخيص إصابة عامل بالسيليكوز من الدرجة الثانية يتم عادة تسريحه مع “مكافأة” نهاية خدمة تقدر براتب سنتين، مقابل أن لا يتم التصريح بالمرض.

الخطر الأكبر الذي يواجهه عمال المنجم بشكل يومي هو حوادث الشغل المادية، فعادة ما تنهار الأسقف على العمال. والندبة الواضحة على صدر ادريس شاهدة على ذلك: ” انفلتت  إحدى القضبان التي تحمي شباك السقف من السقوط فانهارت فوقي كتلة أبعادها متران على ثلاثة أمتار. من شدة قوة الصدمة لم تصمد خوذتي فانكسرت، وكانت النتيجة 15 غرزة في الصدر ومثلها في الرأس. تم علاجي في مستشفى ورزازات ورغم ذلك لم يتم التصريح بالحادث. لقد خيرتني الشركة بين عدم التصريح وأخذ إجازة لأسبوعين، أو التصريح بالحادث وأخذ نصف يوم إجازة. فاخترت الرّاحة”، يقول لنا ادريس بسخرية سوداء. رغم ما حصل، يعتبر إدريس اليوم نفسه محظوظا لأن أحد أصدقائه لقي مصرعه على الفور بسبب انهيار مماثل، “بينما كان منهمكاً في اعطاء توجيهات حول العمل”. وأحصى ادريس وحده 11 حالة وفاة في منجم بوازار ما بين 2008 و2022.

“استخراج المعادن عمل خطير جدا لأن الحبل المستعمل في حفرة الاستخراج هش جدا. لقد اشتغلت في مناجم أخرى تابعة لشركة (مناجم)، وتعرضت للإصابة في منجم الذهب بمنطقة (أقا)، لكن منجم (بوازار) هو الأسوأ على الإطلاق، السلامة منعدمة فيه تماما”، يحكي لنا عامل منجمي يبلغ من العمر ثلاثين سنة.

في حالة حصول حوادث، لا تملك شركات المناولة في ‘(بوازار) سيارات إسعاف لإجلاء المصابين. وهنا نتحدث عن شركات (هيدرومين Hydromines)، (أكازومي Agazoumi)، (توب فوراج Top Forage)، (سوكوترامين Socotramines)، (فوكس Fox)، وغيرها. “قبل أيام أصيب زميلي بوعكة أثناء العمل، وظل في الأسفل لمدة تتجاوز 45 دقيقة قبل أن يتم نقله. حصلت مثل هذه الحوادث عدة مرات منذ مجيئي. لا وجود لطبيب في عين المكان”، يؤكد إيدير الذي تشغله شركة (هيدرومين). وانتهى حادث مشابه بمأساة بالنسبة لعائلة عصمان،”أغمي على عمي في إحدى آبار المنجم وسقط على رأسه. قامت الشركة بنقله (إلى البيت) عبر شاحنة دون أن يتم إسعافه” يشرح عصمان الذي يعتبر أن هذا الحادث هو سبب وفاة عمه بعد 5 سنوات من وقوعه”.

القمع النقابي وانتهاك حق التجمع 

عندما أخبرْنا الناشط النقابي حميد مجدي أن شركتي (رونو) و(بي إم دبليو) يفتخران بحصولهما على “كوبالت مسؤول” من المغرب، اندهش قائلاً :”كوبالت مسؤول؟ إن شركة (مناجم) لا تلتزم حتى باحترام مدونة الشغل”. حميد مجدي، منسق شبكة (تقاطع) التي تعمل من أجل الحقوق الشّغلية والمستشار ببلدية قلعة السراغنة، كان ضحيةً مباشرة لسياسة “القمع النقابي” التي تنهجها شركة (مناجم). لقد حاول مجدي، في إطار نشاطه النقابي في الكونفدرالية الديمقراطية للشغل (CDT)، عدة مرات تأسيس نقابة لعمال منجم بوازار. ويقول حميد مجدي، وهو أيضاً عضو في الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، إن “شركة (مناجم) قامت، سنة 2006، بإغراء أعضاء من المكتب النقابي لتفكيك فرع الكونفدرالية الديمقراطية للشغل في منجم (بوازار). لكننا تمكنا من إعادة تأسيسه سنة 2011 وانضم إليه حوالي 400 عامل منجمي”. ومنذ ذلك الحين قاد العمال احتجاجات ضخمة واعتصامات، ما بين سنتي 2011 و 2012، للمطالبة بتطبيق بنود مدونة الشغل، واتخاذ تدابير أمنية عاجلة، وتوفير أدوات النظافة الأساسية، مثل الصابون في المرافق الصحية”. ويؤكد مجدي أن القمع كان شديدا، “حتى أن الدرك الملكي نزل إلى الآبار لإخراج العمال بالقوة حيث تعرضوا للضرب”، وقامت الشركة حينها بطرد 80 عاملا منجميا من أعضاء النقابة فيما اشتُرٍط على البقية مغادرة الكونفدرالية الديمقراطية للشغل”. 

النقابي حميد مجدي

يتذكر الناشط النقابي وعضو الجمعية المغربية لحقوق الانسان عمر أوبوهو، الذي أُدين خلال نفس الأحداث بستة أشهر سجنا نافذا بتهمة “عرقلة العمل”، وكان يحاكم وهو مصاب بجروح بعد الإعتداء عليه في مركز للدرك الملكي بمدينة ورزازات. “تم اعتقالي سنة 2012 بعد مشاركتي في اعتصام أمام إدارة المنجم، وتعرضت وأربعة من رفاقي للتعذيب في مركز الدرك الملكي الذي قضينا فيه اثني عشر يوما، قبل أن يتم نقلي إلى مستشفى ورزازات. رفض طبيب المستشفى منحي شهادة طبية، وحين طلب المحامي باجراء فحص مضاد، قام به أطباء  مرافقين بكوميسير (مفوض شرطة)'”.

ووفقا لحميد مجدي، الذي يروي هذه الأحداث في كتابه الصادر سنة 2021، فإن شركة “مناجم” مارست ضغوطًا على أعلى المستويات لوضع حد لنشاط النقابة. ويضيف أنه “في سنة 2013، أقدم المكتب المركزي للكونفدرالية الديمقراطية للشغل على الاستغناء  عنا، وتمت إقالتنا من مناصبنا، وبين ليلة وضحاها أُغلقت مكاتبنا في أكدز وورزازات”. لقد فهم حميد سبب ذلك، حيث أنه خلال لقاء مع رئيس الحكومة “ارتكب خطأ عندما أشار إلى اتفاق مبرم بين الحكومة والأمانة العامة للاتحاد الديمقراطي للشغل! لقد قامت الحكومة وشركة (مناجم) بإرشاء قيادة نقابتنا للتخلص من نشاطنا النقابي في (بوازار). منذ ذلك الحين، لم يعد في ذلك المنجم سوى نقابة تشتغل وفقاً لتعليمات للإدارة”.

وبسبب مشاركته في تنظيم حركة العمال في (بوازار) ومنجم (إيميني) المجاور، تمت متابعة حميد مجدي بأربع عشرة تهمة منها “الاتجار في المخدرات”. يقول “في يوم من الأيام، داهمتني الشرطة في مراكش. قاموا بمرافقتي إلى سيارتي وأخرجوا أكياسًا من المخدرات. لقد دسوها في سيارتي للإيقاع بي”. “وبفضل الضغط الشعبي، تمت تبرئته بعد عامين، بيد أن الإدارة ، التي يشتغل فيها كموظف، قامت بنقله  بعيدًا عن ورزازات مع تخفيض راتبه وتهميشه عبر عدم تكليفه بأية “مهام حقيقية”.

وفي تناقض صارخ مع قصص هؤلاء النقابيين تؤكد تقارير شركة (مناجم) أن “احترام حقوق الإنسان يشكل أولوية قصوى للمجموعة”، وأنها تركز بشكل خاص في هذا المجال على “تعزيز الحريات النقابية وحقوق الانضمام إلى الجمعيات”.

الكوبالت والبساتين القاحلة والمهجورة 

 لولا شح المياه، لما اضطر هشام،ربما، إلى العمل في المنجم. فقد ترك له والده، في واحة “تاسلا” الواقعة على بُعد عشرة كيلومترات من منجم بوازار، حقلاً من مائة نخلة مثمرة كان محصولها كافياً ليعيش منه. بيد أن شركة (مناجم)، يقول الشاب البالغ من العمر 25 سنة، “قامت بحفر بئر جديد مما أدى إلى جفاف الواحة وموت النخيل”. وهو يُشير بيده إلى إلى البساتين المهجورة المحاذية لنهر القرية، ويُتابع هشام قائلاً إن “كل شيء جف، حتى أشجار النخيل ماتت”. على غرار آخرين، قام والد هشام بتقديم شكوى لدى القائد ووزارة الداخلية، لكن دون نتيجة  تذكر.

 ولم يتوقف منجم (بوازار) عن التوسع، فقد تضاعفت قدرته الانتاجية ثلاث مرات منذ 1999، حتى فاقت في الوقت الحاضر 2000 طن من الكوبالت موجهة أساسا إلى صناعة البطاريات و7700طن من الزرنيخ سنويًا.

وعلى الرغم من أن الشركة المنجمية لا تنشر حجم المياه المستهلكة، إلا أن التقديرات تشير إلى أن محطات معالجة المعادن الخام في منجم (بوازار) تستهلك حوالي مليون متر مكعب من الماء سنويا، وهو ما يُعادل ما يستهلكه 50 ألف شخص في هذه المنطقة الصحراوية. ينضاف إلى هذا الاستهلاك احتياجات المناجم القريبة من “بليدة” و”إيميني”. 

وقبل بضعة أسابيع، حاول المئات من سكان جماعة قريبة من أكدز التصدي لعملية حفر بئر جديدة للشركة المنجمية، قبل أن يتم تفريقهم من قبل الدرك. وفي واحة تاسلا، رافقنا مصطفى، مسؤول شبكة الماء الصالح للشرب، لمعاينة بئر القرية الذي لم تعد مياهه كافية لتلبية الاحتياجات. ويقول مصطفى إن “مستوى الفرشة المائية منخفض جدا. يحظى المنجم بالأولوية وتأتي احتياجاته أمام احتياجاتنا، إلى درجة تنقطع معها المياه طوال فصل الصيف نهارًا”.

ويزداد شعور سكان “تاسلا” بالاستياء لوجود منجم (بوازار) على أراضيهم وأراضي الواحة. فمن بين 2068 كيلومترا مربعا المحتكرة من قبل شركة (مناجم) للتنقيب والاستغلال، 800 كيلومتر مربع منها أراضي جماعية لـ”تاسلا”. ومع ذلك، لا تدفع (مناجم) أي تعويضات مالية أو ضرائب للبلدية، ولا تدفع ثمن الماء الذي تستخدمه. ومن الغريب أنها تزعم في تقريرها الصادر في 2020 “توفير الماء للساكنة”، “لأنها ربما تمنح أحيانًا لوحات شمسية تُستخدم في المضخات”، يفسر لنا كثيرون ممن التقيناهم.

ويشير آخر عقد مبرم بين شركة “مناجم” وجماعة “تاسلا”، وقع عليه، إلى جانب الشركة والجماعة، ممثل أراضي تاسلا الجماعية في عام 2012، إلى أولوية “توظيف السكان المحليين مقابل السماح بالنشاط المنجمي”. ومع ذلك، يعاني جزء من شباب القرية من البطالة، ويعمل آخرون بعقود محددة المدة وفي ظروف غير قانونية وخطرة. غير أن الوجه الآخر لهذه المأساة تتمثل في كون ممثل اراضي تاسلا الذي وقّع عقد استئجار الأراضي مع (مناجم) يُشتبه في تلقّيه رشاوى، إذ يقيم، حسب تصريحات الساكنة التي فقدت أي تواصل معه، في منطقة (كاليفورنيا) في العاصمة الاقتصادية الدار البيضاء، على بُعد 600 كيلومتر من الواحة. ويؤكد السكان المحليون : “عندما نتقدم بطلبات لدى (مناجم)، ترد بضرورة الحصول على موافقة ممثل أراضي تاسلا”.

إن استغلال المعادن في هذه المنطقة القاحلة، والتي تزداد فيها ضراوة الجفاف، تخلق وضعية يمكن أن تزداد سوءا في المستقبل، حيث من المتوقع أن يتضاعف الطلب العالمي على الكوبالت مرتين بحلول 2030، وأربع مرات بحلول 2050. إن زيادة احتياجات الصناعة، وخاصة الانتقال إلى إنتاج السيارات الكهربائية، هي السبب الرئيسي في اللجوء المتزايد نحو المعادن؛ حيث تتوقع الوكالة الدولية للطاقة زيادةً بنسبة 3 أو 4 مرات في نشاط التعدين حول العالم بحلول 2050. ويشمل هذا النمو بشكل خاص نشاط التعدين في جنوبي المغرب. ففي منطقة تنغير مثلا، أدى استخراج الفضة، من منجم إميضر، الموجهة أيضا لصناعة الأجهزة الإلكترونية والكهربائية، إلى نزاع مستمر مع السكان بسبب الآبار الجديدة التي تستغلها الشركة لمعالجة المواد الخام لمنجم إميضر. وبالإضافة إلى الكوبالت في (بوازار)، يُستخرج المنغنيز والنحاس من منجمي “إيميني” و”بليدة” وهما مادتان أساسيتان في إنتاج السيارات الكهربائية. 

إن الاتفاق المبرم بين شركتي (رونو) و(مناجم) يتضمن “تعزيز شراكات محلية لتوفير كبريتات المنغنيز والنحاس”. ويصعب التنبؤ بما إذا كانت طريقة الاستغلال والاستنزاف المتزايد لكل هذه المعادن يتماشى مع تلبية احتياجات السكان من الماء.

من سكان قرية بوازار

“الزرنيخ” ينشر سمّه القاتل بواحة وادي “ألوڭوم”

في المناطق الواقعة غير بعيد عن مصانع المنجم، توجد واحة زاوية سيدي بلال بتعداد سكاني يبلغ 1400 نسمة، وهي عبارة عن حصن شيّد من قِبل الموحدين في القرن الثاني عشر. ومنذ عقود، يطرح وادي “ألوڭوم”، الذي يعبر الواحة، بقايا تحويل الكوبالت. أسفل المنجم، لم يصمد السّد الذي تم تشييده لمنع تدفق المخلفات المشبعة بالزرنيخ، لينهار  بالكامل ربما بفعل الفيضانات. أمّا الحاجز الذي تم بناؤه على بعد أمتار قليلة فيكاد يفيض ولا يستطيع على ما يبدو منع تدفق المخلفات السامة (أنظر الصورة) عند هطول الأمطار. على بُعد سبعة كيلومترات من المكان في القرية، يغطّي غبار أبيض مصدره الجسر الوادي الجاف.

“في هذا المكان كنا نزرع ونجني المشمش واللوز والقمح والخضروات”، يشرح المزارع يزيد، “اليوم اختفت محاصيل الواحة. لم تعد التربة خصبة كما في السابق. النخيل فقط هو القادر على النمو هنا. لقد زرعت في هذا الحقل بذور الثوم قبل خمسة أشهر، سقيتها يومياً ورششتها بروث حماري لكن لم أجن أي شيء”. في طريق الوادي، تتراكم أكوام من التربة الرمادية حول الحوض الجماعي المستخدم لري البساتين الصغيرة. ويشرح يزيد “عقب كل فيضان، يجب أن نُفرغ بقايا المنجم التي تتراكم في الحوض”.

حقل يزيد
الحوض المائي الملوث ببقايا المنجم

يبدو الوضع مقلقا، لأن خطورة المخلفات التعدينية معروفة. في عام 1999، تناولت رسالة دكتوراه التلوث الناجم عن تعدين منجم (بوازار)، هذه الرسالة تمت مناقشتها في المدرسة العليا للجيولوجيا في مدينة نانسي الفرنسية، وطرحت الدراسة أن مستويات التلوث مقلقة في المياه والنباتات والرواسب في الوادي بسبب الزرنيخ، وذلك على مسافة تتجاوز 40 كيلومترا. وخلص البحث إلى أن “منطقة التعدين في بوازار هي المصدر الرئيسي للتلوث بالزرنيخ”، وأن “كثافة وحِدّة تلوث الرواسب على طول وادي ألوكوم كبير جدا“. 

في زاوية سيدي بلال، تتجاوز نسبة الزرنيخ في رواسب الوادي 40 مرة المعدل المسموح به حالياً في التربة، التي تلوثت أيضاً بفعل الكوبالت والرصاص والكروم والنيكل. وتم الكشف سنة 2013 عن مستويات تلوث مماثلة في إطار تحقيق نُشر في صحيفة المساء تناول موضوع تلوث الوادي بسبب المنجم. ومع ذلك، يبدو أن لاشيء تم القيام به لحماية سكان هذه العشرات من القرى، على طول مجرى مائي يشكل مصدر عيش أكثر من 40 ألف شخص. إضافة إلى أن الأطفال الذين يعبرون الوادي بشكل يومي للعب أو للذهاب إلى المدرسة معرضون مباشرة للخطر.

ضمن هذا التحقيق، قمنا بتحليل عينات من تربة حقل يزيد المزروعة ومياه الري الذي يشربها جزء من السكان وكذلك الطين الذي يجتاح حوض الري في زاوية سيدي بلال، سنكشف عنها لاحقا.

فضلت مجموعة (مناجم) في بوزار عدم التجاوب معنا والرد على أسئلتنا. ونعلم، بالمقابل، أن مبيعات الكوبالت حققت لها أرباحا تقدر بحوالي 270 مليون يورو في عام 2022. من جهتها، تذكّر مجموعة (رونو) بأن “إنتاج مجموعة مناجم للكوبالت تم اعتماده وفقًا لمعايير مبادرة المعادن المسؤولة (RMI)، بالإضافة إلى تقييمات NQC وECOVADIS”. غير أن شركة إكوفاديس Ecovadis نفت تقديم أي شهادة اعتماد للمنجم؛ إذ لم تقم بأي تدقيق ميداني في عين المكان. لقد منحت ببساطة تقييمًا متوسطًا نسبيًا للجانبين الاجتماعي والبيئي لشركة (مناجم)، بناءً على البيانات المقدمة من قِبل الشركة والمعلومات المتاحة عبر الإنترنت.

واد ملوث في زاوية سيدي بلال

من خلال بحثنا خلصنا إلى أن هناك سببا لمساءلة معايير هذه الهيئات التي تصف المناجم الخطيرة على سكان المنطقة بأنها “مسؤولة” و”أخلاقية”. في إطار هذا التحقيق، تم التواصل مع الشركات المنتجة للسيارات، ورد علينا مُنتج السيارات (بي أم دبليو) بأنه يجري بشكل منتظم عمليات تدقيق لجميع مورّديه للتحقق من توافقهم مع متطلبات المجموعة الاجتماعية والبيئية. وأكدت العلامة التجارية الألمانية أن “مجموعة من الخبراء قاموا بزيارة منجم بوازار في 2022“. 

فهل زودت (مناجم) خبراء شركة “بي إم دابليو” BMW بـ”نظارات الواقع الافتراضي”؟ 

مهما يكن، لا يسعنا سوى أن ندعوهم إلى تجديد رحلتهم، ولكن هذه المرة للتحدث مباشرة مع العمال المتعاقدين وضحايا هذه الكارثة الصحية.

* تم تغيير أسماء العمال المنجميين.

نشكر الحسن أكركاب وعمر أوبوهو على مساعدتهم القيمة لنا. 

إقرأوا أيضاً:

من نفس المنطقة:

magnifiercrosschevron-down linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram