الرئيسية

رحلة وسط الجحيم.. عاملات زراعيات يحكين لـ”هوامش” عذابهن اليومي 

عاملات زراعيات يحكين جحيمهن اليومي بين عنف ربّ العمل وتحرش"الكابران". هوامش تقربكم من المعاناة اليومية لنساء يعُلن أسرا رغم تجاوزهن سن التقاعد، يكافحن في صمت مريب. داخل تلك الضيعات البعيدة قد يبدو الوضع ضبابيا، لكنه يخفي خلفه قصصا مخيفة ووضعية هشاشة تعيشها يوميا مئات النساء بجهة سوس ماسة في مواجهة تحدي الجفاف وتأثير جائحة كورونا.

مريم أبروش

الساعة تشير إلى الثالثة والنصف فجراً، تستيقظ لالة فاطنة وتستعد لبدء يوم عمل شاق. تُعدّ فطورها المكون من خبز وشاي تصبه في إبريق يحفظ الحرارة دون أن تنسى أخذ قنينة ماء معها، تصلي ركعتين، داعية الله أن يحميها، قبل أن تخرج من بيتها وحيدة متجهة لمصنع تلفيف المشمش، والساعة ما تزال لم تتجاوز الرابعة فجرا. 

الطريق من البيت إلى الشارع الرئيسي مظلم ومخيف، فهناك بين الأزقةالشعبية تصادف السكارى وقطاع الطرق، تحاول تفاديهم قدر الإمكان، وبالرغم من أنها في الغالب تمر سالمة إلا أنها تعيش في رعب وتوجس دائمين. بعد نصف ساعة من المشي، تصل إلى الشارع الرئيسي لتنتظر وسيلة نقل تقلها إلى الشركة. توفر هذه الشركة وسيلة نقل للعاملات، بخلاف الشركة التي طردت منها “تعسفيا” على حد قولها بعد العمل فيها لأكثر من ثلاثين سنة، وأخيرا تصل إلى مصنع التلفيف تصل ليبدأ يوم عمل سيدة تبلغ من العمر خمسة وستين عاما مقابل ستة دراهم لصندوق المشمش الواحد. 

وسائل نقل العاملات الزراعيات

تلعب العاملات الزراعيات دوراً رئيسياً في ازدهار القطاع الزراعي بالمغرب، وتلجأ النساء خاصة للعمل بمحطات تلفيف الخضر والفواكه أو بالضيعات الفلاحية، إذ أن القطاع الزراعي هو القطاع الذي يمكن أن تشتغل فيه نسبة كبيرة من اللواتي ينحدرن من بيئات اقتصادية متواضعة جدا أو فقيرة حتى، عازبات، متزوجات، أرامل ومطلقات، منهن من كانت محظوظة وولجت المدرسة العمومية، لكن أغلبهن لم تطأ عتبة المدرسة يوما. ورغم اختلاف أوضاعهن، فهن يشتركن جميعًا في كون معظمهن المعيل الرئيسي لأسرهن، هذا إذا لم يكن يتشاركن هذه المسؤولية مع غيرهن من أفراد الأسرة. 

إلا أنه -وبالرغم من كل الجهود المبذولة- ماتزال العاملة الزراعية تشتغل في ظروف قاسية وبدون أي حماية قانونية تحفظ كرامتها وإنسانيتها. وضعيةٌ أزّمتها جائحة كوفيد-19 و الجفاف بجهة سوس ماسة لتعمق هشاشة وضعية العاملة الزراعية أكثر،وتتفاقم إشكالات انعدام أمنها النفسي، الاقتصادي وكذا الاجتماعي. 

ليظل السؤال المطروح ملحا: من المسؤول عن تسوية وضعية العاملة الزراعية بعد جائحة كورونا وتحدي الجفاف؟

ظروف عمل صعبة

عديدة هي المشاكل التي تعاني منها العاملات بشركات التلفيف بجهة سوس ماسة. بداية من وسيلة النقل التي تستقلها إلى الحي الصناعي، وصولا إلى انعدام المرافق الصحية في الشركات، دون إغفال الخروقات القانونية التي يرتكبها المشغل في حق العاملة، وعلى رأسها عدم تصريح مسؤولي الشركة بالعاملات في صندوق الضمان الاجتماعي والاضطهاد الذي يمارس في حقهن حالما ينتمين للنقابة، وغيرها من الانتهاكات. 

“بعد ثلاثين سنة من الخدمة، خرجت بيديا خاويين، لا تعويضات لا حقوق، وذنبي الوحيد هو أني دويت على حقنا”، بنبرة حرقة عبرت لنا العاملة الزراعية خديجة عن الإحساس المُحزن الذي شعرت به بعد أن تم طردها تعسفيا من شركة لتلفيف وتصدير الحوامض بأيت ملول. وجدت خديجة نفسها، وهي البالغة من العمر حمسين سنة، بدون عمل تسد به رمقها، ويؤمّن لها  دواء مرض السكّري والقلب والكولسترول، وتعيل به أسرتها بعدما أصبحت هي المعيل الرئيسي عقب طلاقها.

تستيقظ خديجة على السادسة صباحا، لتعد فطورا بسيطا وبعضا من الغذاء مما يمكن أن يسد جوعها لساعات من العمل المضني. حتى قارورة الماء تحرص دوما على أخدها معها، إذ أن محطة التلفيف لا تتوفر على ماء صالح للشرب ما عدا بئر عار قد سقطت فيه كل أنواع الحشرات وتَعكّر ماؤه، كما لا تنسى كسرة الخبز إذ لا تتوفر الشركة ولا الحي الصناعي برمته على بقالة. 

الطريق إلى الشركة غير آمن، وبالكاد توفر الشركة ما يمكن أن يسمّى ب “وسيلة نقل” وذلك بعد أن خاض العمال احتجاجات طويلة، وحين استجاب المشغل لمطالباتهم كانت النتيجة عبارة عن سيارة نقل السلع “بيكوب” يتكدس فيها أكثر من خمسين عاملا وعاملة وتتلامس أجسادهم في مشهد لا يحترم الآدمية. ولأن خديجة لا تقوى على صعود “البيكوب” بسبب مشكل صحي على مستوى الركبة، فليس أمامها سوى الذهاب إلى المصنع مشيا على الأقدام، غير أن من شروط هذا الاختيار هو الذهاب ضمن مجموعات من خمس أو ست عاملات، إذ أن الطريق عبارة عن “خلاء غير مؤمّن”. 

 ولربما أضحت المرافق الصحية من الرفاهيات، إذ أن المصنع لا يتوفر على مكان تبديل الملابس، ولا على مرافق صحية تستوفي شروط الخصوصية والنظافة. تحكي خديجة ” الطابلية كنلبسوها وحنا واقفين قدام السّمطة، أما الطواليطات فموسخين أو ماعندهم حتى باب مقاد، خص ضروري إذا بغيتي تقضي حاجتك توقف شي مرا تشد ليك الباب حتى تخرجي”. وعندما يحين وقت استراحة الغداء، تخرج النسوة إلى ساحة داخل الشركة فيفترشن قطع الكارتون ويتخذن من صناديق الخضر كراسي ليتناولن غداءهن. تضيف خديجة “حتى مكان الصلاة ماعندناش، كانت تما واحد البيت كانو دايرينها على حساب الطبيب للي عمرو ماجا، طلبناهم أو تفارضنا حنا لعيالات بيناتنا حتا شرينا حصيرة أو ولات ديك البيت فين كنصليو”.

تعمل النساء لعدد ساعات غير محدد، إذ أن توقيت استراحة وجبة الغداء ليس قارّا، يتغير كل يوم حسب ضغط العمل. والإشكال يكمن في الحالات المرضية خاصة مرضى السكري، والذين يفرض عليهم وضعهم الصحي الالتزام بمواقيت الغداء وأخذ إبرة الأنسولين، الأمر الذي ينتج عنه حالات إغماء ووهن شديد من طرف العديد من العاملات المريضات وحتى الحوامل منهن. تقول خديجة “كتبقى المرا تخدم حتى كطيح على طولها من كثرة الجوع، أو إذا طاحت ما كيتسوق ليها حد من المسؤولين”. تؤكد خديجة بأنه حتى في حالة مرض العاملة أثناء مزاولتها العمل، لا يرافقها أحد من المسؤولين بالشركة، فتذهب وحدها سواء للبيت أو للمشفى، وفي أفضل الأحوال ترافقها عاملة أخرى، وتضطر للتكفل بكل مصاريف علاجها من جيبها الخاص بالرغم من اقتطاعات المشغل الدائمة.

وفي هذا السياق تضيف خديجة قائلة: “ومن المشاكل العويصة التي نعاني منها هي العشوائية وانعدام التواصل، فلا توقيت قارّا للعمل، فكل يوم له توقيت مختلف. هناك أيام لا نكاد نعمل فيها نصف ساعة كاملة وهناك أيام تمتد ساعات العمل فيها لما يفوق 12 ساعة دون أن يتم إخبارنا بالتوقيت مسبقا لنحضر عشاءنا وأدويتنا معنا، فنظل هناك نتضور جوعا حتى ينتهي العمل ونعود لمنازلنا”.

إن كان كل ما تمر به العاملة نهارا صعب ومرهق، فما تمر به ليلا هو معاناة أخرى. فالأيام التي يكون ضغط العمل فيها قويا، تستمر العاملات في الكدّ حتى بعد منتصف الليل، دون أن يتم مراعاة تعبهن، إذ يقضين اليوم بطوله واقفات وفوق هذا لا يضمن لهن المشغّل وسيلة نقل آمنة تقلهن من الشركة إلى بيتها. فكيف ستصل العاملات إلى منازلهن آمنات؟

 حين يقفل باب الشركة تجد العاملات أنفسهن أمام منطقة خلاء، منهن من تتصل بأحد أقربائهن ومنهن من تتفق مع سيارة أجرة أو حافلة نقل مسبقا، والتي لا تملك لا معارف ولا دراهم، لا يبقى أمامها سوى العودة مشيا معرضة نفسها لكل أنواع الأخطار كالسرقة أو التحرش أو الاعتداء. وحتى حين توفر الشركة نقلا- وهذا في أفضل الأحوال- يضع العاملة على الشارع الرئيسي لتكمل طريقها داخل الأحياء الشعبية في خوف وهلع، دون أن يلقي المشغّل أي أهمية ويتحرى سلامة العاملة.

العمل مقابل الجنس

ما يزال الحديث عن حالات التحرش، الذي تتعرض له العاملات الزراعيات أثناء ممارسة عملهن، يعد من الطابوهات، وبالرغم من المجهودات التحسيسية والتوعوية من طرف العديد من الجهات، إلا أن نسبة مهمة من النساء يتجنبن الاعتراف به. 

تتعرض العاملات الزراعيات لمختلف أشكال العنف، ونجد على رأسه العنف اللفظي. فالعاملة تتعرض للعنف اللفظي بدءا من سائق النقل وصولا إلى المشرف المباشر على العمل، إذ تضطر لتحمل الصراخ والمناداة بألقاب نابية ومحاولات استدراج جنسية وسبّ، بينما لا تقوى على الرد وتفضّل التغاضي عن تلك التجاوزات حفاظا على مصدر لقمة عيشها. غير أن الأمر سرعان ما يتطور ليصل لمستوى ابتزاز جنسي مقابل الحصول على فرصة العمل أو الاستمرار فيه.

وفي هذا الصدد تحكي إحدى العاملات: ” لقد تعرضت للتحرش الجنسي وأنا ابنة العشرين ربيعا، كانت المرّة الأولى التي ألج فيها محطة التلفيف، وبالرغم من أنه كان على علم بأني متزوجة حينها غير أن “الكابران” عرض علي أكثر من مرة ممارسة الجنس معه بكل وقاحة، وحين يئس مني، ظل يعاملني معاملة احتقار على مدار ثلاث سنوات”. بتوتر واضح تأخذ العاملة رشفة ماء وتسترسل في حديثها بنبرة تمزج ما بين الإحساس ب”الحكرة” و الاشمئزاز قائلة “هداك مولف هكاك..راه كبير فالعمر أو مزوج أو بأولادو ياحسرة!” وتضيف عاملة زراعية أخرى قائلة: “للي شتيها كيتعامل معاها مزيان عرفيها مشات معاه، او للي كيغوت عليها فأكيد مابغاتش تستاجب ليه”.

حسب تصريح العاملات، فاالكابران هو “الكل في الكل”، ويتمتع بصلاحيات واسعة داخل المعمل وخارجه. إذ هو من بيده اختيار النساء العاملات، حسب ما تمليه رغباته الجنسية، فيبدأ برمي شباكه ليصطاد نساء كل ذنبهن أنهن خرجن لسوق الشغل بحثا عن لقمة عيش حلال فيجدن أنفسهن أمام خيارين لا ثالث لهما، تلبية رغبات الكابران الجنسية أو الخروج بصفة نهائية من العمل الزراعي في المنطقة.

جميلة أيت بلال

  تؤكد رئيسة جمعية أم البنين، السيدة جميلة أيت بلال، بأن “الكابران” يتميز بسلطة نفوذ واسعة تتجاوز المعمل حيث يشتغل إلى التواطؤ مع كابرانات المعامل الأخرى، إذ يمكنه وبكل سهولة أن يمنع فتاة من الحصول على فرصة عمل في جميع شركات وضيعات المنطقة. وفي هذا الصدد تحكي السيدة جميلة عن حالة فتاة، استقبلتها الجمعية،رفضت الاستجابة لإغراءات الكابران، وحاولت العمل بالضيعات المجاورة، إلا أنها تلقت رفضا قاطعا بل وأخبروها بكل وقاحة ” إذا بغيتي تخدمي رجعي لعند الكابران الأول أو ديري داكشي للي بغا، أو إذا مابغيتيش فبلا ماتحلمي تخدمي عند شي حد آخر”، وتضيف السيدة جميلة قائلة: ” هناك تواطؤ بين الكابرانات الباطرونة، إذ لا يعقل أن يتمتع الكابران بكل هذه الصلاحيات بدون علم ومباركة الباطرون”.

وفي هذا السياق، أوردت دراسة ميدانية أنجزتها “جمعية نساء الجنوب” بأن العاملات الزراعيات بالجماعة القروية خميس آيت اعميرة، يتعرّضن لمختلف صنوف وألوان العنف اللفظي والجسدي، وكذا التحرش الجنسي الذي ينتهي بالاغتصاب في أماكن العمل، وتضطر العاملات إلى الاستجابة لنزوات المشرفين على العمل، مكرهات لتجنب الطرد من العمل والظفر بمعاملة تمييزية من المسؤول المباشر عن العمل المعروف بـ “الكابران”.

كورونا والجفاف، الوضع يزداد هشاشة

لم تكن وضعية العاملة الزراعية داخل شركات التلفيف والتصدير بالجيدة، لكن جائحة كورونا والجفاف فاقمت وضع الهشاشة الذي تعيشه. تضاعفت حدة هذا الوضع بفعل الجائحة والحجر الصحي الذي فُرض في المغرب، منذ مارس 2020، وبتنهيدة تعب تحكي السيدة خديجة، عاملة زراعية بإحدى محطات تلفيف الحوامض بالحي الصناعي أيت ملول، “واش ندوي ليك على مشكل النقل أو التعقيم في المصنع ولا الخوف او الخلاص..؟ كورونا كفسات الوضعية”. 

أوصى المغرب بمجموعة من التوصيات الصحية حفاظا على سلامة مواطنيه، ومن أبرزها أنه خفض عدد مستقلي وسائل النقل لنصف الطاقة الاستيعابية، إلا أن الوضع لم يكن كذلك بالنسبة لشركات التلفيف. فقد تم نقل العمال في وسائل نقل لا تحترم شروط السلامة الصحية، بل ويتم تهريبهم عن طريق الغابة ليتم إيصالهم سريا إلى الشركة. تحكي لنا عاملة زراعية: ” كنا كنمشيو معرمين ف بيكوب، أو كانو كايدوزونا من الخلا او يحطونا بعيد أو نمشيو على رجلينا للوزين، باش مايشوفوناش البوليس..كنا خايفين بزاف”.

لم ينته مسلسل الخوف بعد، بل ربما هو بالكاد يبدأ إثر ولوج العمال الشركة.  تضيف العاملة “وفي عز الجائحة يتكدس المصنع بالعمال والعاملات، في أوضاع مزرية، إذ لا تعقيم متوفر ولا أماكن مخصصة لتغيير الملابس بل وحتى من الكمامات كانت تقدم لنا كمامة واحدة على مدار اليوم بطوله، وكنا نأكل بأيدينا دون أي تعقيم، إذ لا نملك مرافق صحية نظيفة. والمصيبة العظمى آنذاك تكمن في كون المشغل دوما ما يستقبل عاملات مياوميات جدد، الأمر الذي يجعل احتمالية الإصابة بالفيروس وانتشاره أكبر”.

وبالرغم من هذه الوضعية، إلا أن العاملات يحاولن بما تسمح لهن الظروف المجيئ للعمل. بل وحتى عندما تشعر العاملة بأعراض الإصابة بالفيروس، تتستر على الأمر وتضغط على نفسها وتأتي لتشتغل بالرغم من شعورها بالوهن والقشعريرة وارتفاع في درجة الحرارة لكنها تصبر، وتظل واقفة اليوم بطوله من أجل بعض الدراهم.

في الأسابيع الأولى للجائحة وفي عز الارتفاعات في عدد المصابين والموتى جراء الإصابة بفيروس كوفيد-19، وجدت العاملات أنفسهن في موقف تيه، إذ أنهن أمام خوف عالمي من انتشار فيروس لم يفهمن مدى خطورته بعد وفي الآن ذاته لا يستطعن الالتزام بالحجر الصحي إذ أن ديونهن تزداد يوما عن يوم، وحاجيات أسرتهن من دواء ومأكل، وفواتير ومصاريف الدراسة تنتظر دريهمات الشركة لتسددها.

 في هذا الصدد تضيف كريمة الفواري، عضوة بالمكتب النقابي ومندوبة الأجراء، بأنه وأثناء فرض الحجر الصحي تضاعفت معاناة العاملة الزراعية، إذ أن المسؤولين بالمصانع استغلوا الوضع وقاموا بتسريح العمال والعاملات بالجملة وبدون تقديم أي تعويضات. بالإضافة أن العاملة الواحدة أصبحت تقوم بعمل عاملتين مقابل نفس الأجر، وإذا ما حاولت العاملة تقديم شكاية أو التواصل مع الجهات المعنية فلا يستجاب لطلبها إذ أن الإدارة تحادثها من خلال نافذة وتطلب منها الرحيل.   

ويضاف عبء تبعات جائحة كورونا إلى تحدي الجفاف، فقد عرفت جهة سوس ماسة نقصا كبيرا على مستوى التساقطات المطرية، وأدى ذلك إلى تسجيل تراجع مقلق على مستوى حقينة السدود بنسب مرتفعة، مما يهدد بموسم فلاحي ضعيف، على اعتبار أن الفلاحة تعتبر ركيزة أساسية في اقتصاد الجهة. وبما أن جهة سوس تواجه تحدي الجفاف، فإن المنتوجات الفلاحية ستتضرر وستقل، الأمر الذي سيؤثر سلبا على عدد فرص الشغل بمحطات التلفيف وبالضيعات الفلاحية. تقول خديجة “فرص العمل قلالو بزاف، ولكن الدقة جات في العامل حيت هو للي أصلا كان كيعاني من ديما وجا الجفاف وكورونا وزيادة الأسعار وكملو عليه”.

انتهى الموسم الزراعي، ما هو البديل؟ 

بعد أن ينتهي الموسم الفلاحي وتقفل أبواب المصنع، تُعاد حلقات مسلسل الضياع وعدم استقرار من جديد. ويظل التساؤل مطروحا، من أين ستأتي العاملة بقوتها اليومي بعدما انتهى الموسم الزراعي؟ 

يبدأ موسم العمل غالبا في شهر أكتوبر وينتهي في شهر مارس أو أبريل، وبعدها تجد العاملة نفسها في وضعية بطالة. لا تجد الكثير من النساء بديلا سوى المكوث في البيت وانتظار أن يرفع عنهن الله هذا الابتلاء، ويبدأن في صرف كل ما ادخرنه خلال شهور العمل المضنية، ليجدن نفسهن مجددا في دوامة الديون والسلف، ديون الكراء والبقال ولوازم الأولاد. أما البعض فيلجأن للعمل في البيوت بكل إكراهات مهنة العاملة المنزلية.

كريمة كانت من المحظوظات اللواتي تعلمن أساسيات الخياطة قبل ولوجها لدوامة العمل في محطات التلفيف، لذلك تحرص على استغلال تلك المدة في استقبال الطلبيات وإعدادها. تقول كريمة ” أحاول أن أستغل وقتي وأن أكسب قوت يومي، لذا بعد أن ينتهي الموسم الزراعي أمارس مهنة الخياطة ولله الحمد الأمور جيدة”.

في حين أن بعض النسوة يعاودن دق أبواب مصانع التلفيف، كمصانع السردين وفاكهة المشمش. وكان هذا الحال بالنسبة ل لالة فاطنة، التي تجاوزت الستين من عمرها، وطردت من عملها في مصنع لتلفيف البرتقال تعسفيا على حد قولها وبدون أي تعويض مادي عن ثلاثين سنة من العمل، فلم تجد بديلا سوى أن تعمل ك”مياومية” في مصنع لتلفيف المشمش، مقابل ستة دراهم للصندوق الواحد، و ينتهي يومها ب 12 إلى 18 عشر درهما لليوم كحد أقصى. بهاته الجملة تلخص لالة فاطنة معاناتها قائلة “ماعنديش بديل”.

 لم يثن السن ولا المرض لالة فاطنة عن الخروج إلى العمل، فلا بديل أمامها كما تقول ” كنت من شحال هادي درت عملية على المصران، كانت عندي حبة فيه، أو دابا مللي كنوقف بزاف كنحس بحال شي حاجة غادي تتمزق ليا فالداخل، ولكن ماعنديش البديل خاصني نخرج نخدم”. 

نتحدث هنا عن نساء لم يحظين بالحق في التعليم، ولا شهادة أكاديمية لهن، لا أحد يعيلهن بل هن المعيل الأساسي لأسر تتكون من أطفال لهم متطلبات الدراسة والمأكل. نساء يعشن أوضاعا اجتماعية هشة، أغلبهن مطلقات أو أرامل، لتجد العاملة نفسها أمام مطرقة ظروف العمل اللا إنسانية وبين سندان الفقر والجوع. وفي هذا الصدد تقول رئيسة جمعية أم البنين بأن استراتيجية العمل الموسمي تنتج لنا بشكل أو بآخر فتيات الدعارة، وبأن العمل الموسمي معادلة غير منطقية البتة.

العمل النقابي ما يزال محظورا

عرفت النقابة في السنوات الأخيرة إقبالا مهما من طرف العاملات الزراعيات مقارنة بالسنوات الماضية، وأبانت العاملة الزراعية عن استعدادها للاندماج داخل المؤسسة النقابية والتثقف لمعرفة حقوقها وواجباتها. 

في هذا الصدد يؤكد حسن لحويجب، الكاتب العام للجامعة الوطنية للقطاع الفلاحي بأولاد تايمة إقليم تارودانت، بأن العمل النقابي الزراعي لقي عزوفا كبيرا في صفوف العاملات على مدار سنوات طوال، الأمر الذي استغله المشغلون، فغالبية الشركات ومحطات التلفيف تشغل النساء بنسبة تصل لـ ٪80 مقابل ٪20 بالنسبة الرجال، وذلك راجع لعدة اعتبارات على رأسها تخوف المرأة من الانضمام للعمل النقابي وعدم جرأتها على مواجهة المسؤولين عن الشركات وبالتالي تبقى هي الحلقة الأضعف مما يجعل حقوقها تنتهك بشكل فظيع.

إلا أن الانتهاكات الجمة التي تمارس ضد العمال والعاملات، جعلت من الانخراط بالعمل النقابي ضرورة ملحة قصد ممارسة الضغط وانتزاع الحقوق، غير أنه وبمجرد تأسيس أي مكتب نقابي يتعرض العمال للمضايقات والتهديدات، وفي غالب الأحيان يتعرضون للطرد التعسفي لثنيهم عن مواصلة النضال والمطالبة بأبسط الحقوق. يضيف حسن لحويجب “بعض الشركات لا يهمها سوى الأرباح وإن كان على حساب العمال والعاملات وبالتالي تحارب العمل النقابي، بل وهناك بعض مفتشي الشغل الذين ينحازون بشكل مكشوف إلى صف الباطرونا الزراعية”.

وفي هذا السياق، تضيف كريمة لفواري قائلة: “نحن شركاء اجتماعيون ولسنا أعداء، نحن نقوم بما أمكننا قصد تحسين مستوى العمال وتوعيتهم بالواجبات قبل الحقوق، كما نحرص على أن يتحلى العمال بالمهنية والأمانة”، وتسترسل قائلة “نحن كنقابة وكعمال، ليس من صالحنا أن تقفل المصانع والضيعات أو أن يتعطل القطاع الزراعي بالمغرب، بل بالعكس تماما. فإذا ما أقفلت الشركات الزراعية والضيعات الفلاحية سنكون نحن أول الضحايا مما سيزيد من مستوى البطالة والتي ستؤدي بدورها للعديد من المشاكل الاجتماعية المعقدة التي نحن في غنى عنها”. 

وما يزال القطاع الزراعي بجهة سوس يشهد العديد من الاضرابات والاعتصامات بسبب الطرد التعسفي الذي طال بعض العمال المنتميين للنقابات، ويؤكد لحويجب بأن السبيل الوحيد أمام العمال والعاملات هو توحيد صفوفهم والتشبث بإطارهم النقابي للدفاع عن حقوقهم ومكتسباتهم العادلة والمشروعة وعلى راسها الحق في الشغل والكرامة والعدالة الاجتماعية، كما يجب على العاملة الزراعية أن تضع يدها في يد العامل وتنخرط في العمل النقابي وتتحلى بالعزيمة والإرادة للدفاع عن حقها بشكل قوي.

من يتحمل مسؤولية تسوية وضعية العاملة الزراعية؟ 

“مابقيت عرفت لفين نعطي الراس..تلفت” بهذه الجملة عبرت لنا عاملة زراعية عن مدى احساسها بالتيه، إذ أنها لم تعد تحدد من المسؤول عن تسوية وضعيتها والدفاع عن حقوقها. 

تواجه العاملات الزراعيات واقعا فقيرا على مستوى التواصل، إذ أنه في حالة انتهاك حقوقها لا تدري أي باب تطرق وأي طريق تسلك، ومن المسؤول الأساسي عن تسوية وضعيتها، هل تتواصل مع إدارة الشركة أم النقابة أم الجماعة الترابية، أم تشتكي عند مفتشية الشغل أو تتواصل مع الجمعيات الحقوقية؟ 

سؤال طرحناه على كريمة لفواري، عضوة في الجامعة الوطنية لاتحاد الشغل، تقول ” أرى بأن المسؤولية الأولى تقع على عاتق الدولة، إذ يجب على الدولة أن تتحمل مسؤوليتها أمام العمال خاصة العمال الزراعيون، فالقطاع الزراعي يعد من أهم ركائز الاقتصاد المغربي. ثانيا، الوزارات الوصية، وعلى رأسها وزارة الفلاحة، وزارة التشغيل وكذا وزارة الداخلية إذ يجب أن تفرض على المشغلين تطبيق قانون الشغل. أما جهويا ومحليا فأحمل المسؤولية للسلطات الشغلية، وأقصد هنا مفتشية الشغل، الباشا، العامل، إذ نفتقر للمتابعة والإنصاف”. وتؤكد كريمة أن النقابة تقوم بكل ما بوسعها لتوعية العمال بحقوقهم وتكوينهم والترافع عنهم ومواكبة مشاكلهم، غير أن الانخراط في العمل النقابي ما يزال يقابل بمواجهة شرسة من قبل العديد من الجهات.

وترى بشرى الشتواني، المنسقة الوطنية لـ”مجموعة شابات من أجل الديمقراطية” بأن معاناة العاملات الزراعيات ترتبط أساسا بالسياق التشريعي المغربي سواء من حيث إلزامية تطبيقه وبأن مدونة الشغل تعاني من فراغات قانونية عديدة مما يصعب حماية حقوق العاملة الزراعية وإمكانية الترافع عنها. 

وفي نفس السياق، تضيف جميلة بلال، رئيسة جمعية أم البنين، أن جمعيات المجتمع المدني تعمل على التحسيس والتوعية ومواكبة النساء العاملات ضحايا العنف، إلا أن مساحة اشتغالها ضيقة بحكم صعوبة الولوج للشركات والضيعات الفلاحية، غير أنها تؤكد أن الإشكال الحقيقي يكمن في النصوص القانونية إذ أنها تعاني من فراغات عديدة.

وقصد طرح الرأي والرأي الآخر، حاولنا التواصل مع شركة لتلفيف وتصدير الحوامض بأيت ملول، لكننا تلقينا رفضا بحجة أن المدير غائب بسبب وعكة صحية ولا يتواجد نائب يمكنه تقديم التصريح. 

في تواصلنا مع جماعة أيت ملول، أوضحت لنا النائبة عائشة أمغار بأن الجماعة تعمل حاليا على إعداد برنامج عملها والذي من بين أولوياته تهيئة الحي الصناعي والذي يهدف إلى تنزيل مشروع إعادة تأهيل وتوسعة الحي الصناعي المبرمج من طرف جمعية مستثمري الحي الصناعي والذي يتضمن إحداث مجموعة من الفضاءات (حضانة؛ مراحيض؛مركز للتكوين وتأهيل المرأة العاملة في مجال المقاولة؛ إلخ.)

ظروف عمل صعبة، وأجور جد زهيدة ومشاكل التنقل التي تضع الحياة على المحك، إكراهات من بين عدة عانت وما تزال تعاني منها العاملة الزراعية بجهة سوس ماسة، لتُضاف إليها تداعيات جائحة كورونا ومشكلة الجفاف ليزداد الوضع صعوبة. الوضع الذي يستدعي تدخل جميع الجهات المسؤولة وتوحيد الجهود بغية تسوية وضعية العاملة الزراعية وضمان حقوقها.

بعد يوم طويل، تعود لالة فاطنة ليلا إلى بيتها منهكة، تأكل ما يسد رمقها وتحاول أن تنام استعدادا للعمل في الغد، غد لا تدري ستعود بعده لبيتها سالمة أم سيخفي لها مفاجآت غير سارة.

إقرأوا أيضاً:

من نفس المنطقة:

magnifiercrosschevron-down linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram