الرئيسية

مأساة مليلية:  رحلة السّوداني “أنور”..  من حلم إنقاذ أمه إلى مشرحة النّاظور

عبد العزيز يعقوب، الملقب بـ"أنور"، الذي يُفترض أن رجال الأمن المغاربة سحبوه ميتًا من الجانب الإسباني للمعبر الحدودي، غادر السودان من أجل توفير المال لعلاج والدته حتى يراها تمشي مرة أخرى.

تحقيق “لايتهاوس ريبورتس” و”إِلْباييس” – ترجمة “هوامش” 

آخر مرة رأت فيها عائشة يعقوب (48 عاما) شقيقها الأصغر كانت عبر مكالمة فيديو في 14 يونيو  الماضي، أي عشرة أيامٍ بالتحديد قبل مأساة يوم الجمعة الأسود، حين حاول أكثر من 1500 شخص العبور إلى إسبانيا عبر معبر “باريو تشينو” الحدودي بين الناظور ومليلية.

الرسالة الأخيرة.. “أنا أعبر، أدعي لي”

هؤلاء الذين عبر بعضهم، بينما توفي آخرون وفقد أزيد من سبعين منهم؛ كان أغلبهم لاجئين من السودان، البلد الذي تعرض لقمع وحشي من قبل المجلس العسكري، ويقع تحت التهديد المستمر بالحرب الأهلية.  كما كان بينهم الكثير من الفارين من دارفور، وهي منطقة لا تزال في حالة نزاع، بعدما دمرتها الإبادة الجماعية في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.

بالتوازي مع هذه الأحداث، كانت عائشة في الخرطوم، عاصمة السودان، وكان شقيقها في المغرب، يستعد مع هؤلاء الأشخاص لتحقيق حلمه المتمثل في العبور إلى إسبانيا.

في تلك المحادثة بدا أنحف من ذي قبل، وقال لها إن الحياة في الغابة لم تكن سهلة، وأنه أمضى يومين دون أن يأكل شيئا، وأنه سيبحث عن طعام في القمامة، وأن آخر ما أكله قطعة بسكويت تقاسمها مع أصدقائه الثلاثة.

طلبت منه عائشة، للمرة الألف، أن يعود إلى المنزل وهي تبكي، ولكن الشاب البالغ من العمر 27 عامًا، والذي يصغرها بـ21 عامًا، رفض مرة أخرى، واصفا إياها بـ”الطفلة البكّاء”.

قال “دعيني أذهب، أنا لست وحدي، وداعًا”، واختفت صورته من الشاشة. كان يرتدي قميص بولو مخطط بالأزرق والأحمر والأبيض.  

وبعد أيام، تلقت الأخت رسالة صوتية، “عائشة، أنا أعبر، أدعي لي”.

بعد ذلك رأت فيها عائشة شقيقها عبد العزيز يعقوب، الملقب بأنور، للمرة الأخيرة، في مقطع فيديو بدأ ينتشر على وسائل التواصل الاجتماعي في 24 يونيو.

في ذلك اليوم، حاول مئات المهاجرين واللاجئين عبور النقطة الحدودية التي تفصل بين الناظور ومليلية، لكن الأمور لم تسر كما هو مخطط لها.

“إنه ميت”

انتهت المحاولة بمأساة، مات على إثرها ما لا يقل عن 23 شخصًا، وفق الأرقام الرسمية، من بينهم شقيق عائشة، الذي ظهر في شريط فيديو، ملقى على الأرض، وعيناه نصف مفتوحتين، وجسده ذابل ولا توجد عليه علامات حياة على ما يبدو.

كان يرتدي نفس قميص البولو المخطط والجينز اللذين كان مقاسهما أكبر من اللازم بالنسبة له، ويظهر في اللقطات عدة رجال أمن مغاربة وهم يسحبون الجثث ويتساءلون فيما بينهم إن كان أنور قد مات، كما يظهر أحدهم وهو يقيس نبضه ويقول “إنه ميت”.

في ذلك اليوم جاء المخاض ابنة شقيقته عائشة، ما اضطر الأسرة إلى فعل كل ما في وسعها حتى لا ترى الشابة، التي طالما اعتبرته أخًا، تلك الصور.

أرادوا أن يضمنوا أنها ستلد في سلام، “عندما شاهدت الفيديو، تمنيت لو أمكنني الذهاب معه، أنا على استعداد لبيع كليتيّ لتوفير المال للذهاب إلى حيث يمكنني أن أراه، ما حدث له ولعائلتي كان فظيعًا”، تقول عائشة بتنهد.

بدون جثث، بدون تحديد هوية، بدون تشريح، بدون مزيد من الصور، ودون فتح تحقيق في الأمر، تظل الوفيات في ذلك المعبر واحدة من أكبر الأسئلة المعلقة التي لم تتم الإجابة عنها، والمتعلقة بمأساة مليلية.

وقدم تحقيق أجرته “إلباييس” بالاشتراك مع “لايتهاوس ريبورتس” (Lighthouse Reports)، وثلاث وسائل إعلام دولية أخرى؛ “لوموند” الفرنسية، “ديرشبيغل” الألمانية و”الناس” المغربية، نُشر هذا الأسبوع، أدلة جديدة على وفاة أنور في منطقة المركز الحدودي الخاضعة للسيطرة الإسبانية.

وبالإضافة إلى حديث رجال الأمن المغاربة، روى الشاهد إبراهيم كيف رآه يموت، “كان هناك قصف شديد بالغاز أصاب الكثيرين بالاختناق، ثم ضربه رجل أمن أيضًا على رقبته وحين لم يستطع التنفس، قفز آخر بحذائه على صدره، وعندما اكتشفوا أنه ميت، التقطوا القمامة – بقايا الملابس- وغطوه بها”.

الجمعية المغربية لحقوق الإنسان (AMDH)، التي لعبت دورًا مهما للغاية في إدانة ورصد ما حدث، وضعت أنور أيضًا على القائمة التي أعدتها للمفقودين.  

وحسب هذه المنظمة الحقوقية غير الحكومية، أكد ثلاثة شهود وفاته، ولكن وزارة الداخلية الإسبانية تصر على أنه “لم يمت أحد على الأراضي الإسبانية”.

وصف الصورة: على اليسار عبد العزيز يعقوب (أنور) يلتقط صورة سيلفي بالمغرب قبل يوم الفاجعة. وعلى اليمين، رجل أمن مغربي يفحصه يوم الجمعة 24 يونيو، بعد أن قفز من فوق السياج في مليلية.

من الحلم إلى الموت 

لم تكن عائشة أخت أنور الكبرى فقط، لقد ربته كما لو كان ابنها، حيث كانت والدتهم مريضة، وأصيبت بنوبة قلبية، وهي مصابة بداء السكري، وطريحة الفراش منذ أربع سنوات، بعد اجراء عملية جراحية على الورك.

وحسب شقيقته، غادر أنور المنزل من أجل توفير المال لرعاية والدته، “قبل أن يغادر، كان يقضي معظم وقته مع والدتي، كان يمسح  على رأسها دومًا”.

وهكذا قرر أنور الهجرة من السودان بهدف الحصول على المال لعلاج والدته وأخذها إلى الحج، وهو وعد عادةً ما يقطعه الشباب المسلمون لآبائهم.

تتذكر الأخت الآن، خلال مقابلة لم تستطع التوقف فيها عن البكاء، كيف أصبح هذا الحلم هاجسها هي، ففي كل مرة حاولت إقناعه بالعودة إلى المنزل، كانت تتلقى نفس الرد “أريد أن تقف أمي مرة أخرى، أن تتمكن من المشي، لا أكثر، أريد الهجرة من أجلها، حتى لو اضطررت إلى مواجهة صعوبات السفر والجوع، أدعي لي أن أصل بسلام”.  

كان حلم أنور أن يلعب كرة القدم، شغفه منذ الطفولة، بمجرد الوصول إلى أوروبا، ولكن الأقدار كانت أقوى من أحلامه وأمانيه.

أنور، الذي عمل ميكانيكيًا، انطلق في رحلته عام 2021، ذهب إلى ليبيا، ومن هناك أرسل تحويلته الأولى إلى عائلته.  

وتتذكر عائشة قائلة “أخبرته ألا يجبر نفسه على إرسال الأموال إلينا”، فأجاب “ليس لكِ، إنه لأمي “. ومن ليبيا، حاول أنور الوصول إلى إيطاليا عن طريق البحر، لكن تم اعتراضه وإعادته.

وكما فعل مئات السودانيين في السنوات الأخيرة، قرر أنور محاولة الوصول إلى أوروبا عبر المغرب، عن طريق سياج مليلية.

نصحه شقيقه، الذي عبر البحر الأبيض المتوسط ​​على متن قارب منذ سنوات، ويعيش الآن في فرنسا، “ألا يفعل ذلك”.

وتوضح عائشة عبر الهاتف، “كنا نتصل به دائمًا ونطلب منه العودة، لأن والدتنا كانت تسأل عنه وتبكيه باستمرار، لكن أنور أصر على إيجاد طريقة لمساعدتها”.

في رحلته، مر أنور من الجزائر، حيث تم اعتقاله وترحيله إلى النيجر، “لقد أمضينا ستة أشهر دون أن نسمع منه أو عنه خبرًا… وعندما ظهر مرة أخرى، كان يبكي ولا يستطيع أن يروي قصته ولا المعاناة والأحداث التي مر منها، لكنه أصر على أنه سيواصل طريقه”، تتذكر الأخت.

وبعد مشاهدة الصور وافتراض أنه مات، تقول عائلة أنور إنهم اتصلوا بـ”الجمعية المغربية لحقوق الإنسان” فقط، لكن المنظمة غير الحكومية ليس لديها أي وسيلة لطمأنة هذه العائلة وعشرات العائلات الأخرى التي لا تعرف، حتى يومنا هذا، ما إذا كان أقاربهم أحياء أو أموات.

ومن بين 23 قتيلا الذين اعترفت بهم السلطات المغربية، تم التعرف على شخص واحد فقط، أبلغ به المغرب الأمم المتحدة كتابة في شهر أكتوبر الماضي. وتشير تلك الوثيقة إلى أن الجثث كانت لا تزال في مشرحة المستشفى “الحسني” بالناظور.  

وفيما تطالب عائشة بصورة للجثة وتتوسل لهم “بدفنها في أسرع وقت ممكن”، لاتزال والدة أنور على فراشها، تعيد مرحلة مبكرة من الحداد على ابنها، وتطلب كل يوم أن تُطلع على آخر صورة له، تلك التي رآها الجميع باستثنائها، وهي صورة أنور في قميصه البولو المخطط.  

وتقول عائشة، “نحن نخشى أن يزداد الأمر سوءًا لأنها تصر على انه مات بسببها”.

إقرأوا أيضاً:

من نفس المنطقة:

magnifiercrosschevron-down linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram