عماد استيتو
على الرغم من أن المغرب صادق على “العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية“، والذي يوصي بحماية الحق في الانتقاد السلمي للمسؤولين في الدولة والشخصيات العامة، إلا أن القانون المغربي لا زال يحتمي بالنص الدستوري الذي ينص في فصله 46 على أن “شخص الملك لا تُنتهك حرمته، وله واجب التوقير والاحترام”، لتبرير وجود مواد سالبة للحرية فيما يخص انتقاد الملك أو إخضاع قراراته للنقاش العمومي، وغالبا ما يعتمد القضاء تأويلات فضفاضة للفصل 279 من القانون الجنائي لتجريم أي تدقيق أو تناول ولو حتى بالنصح لقرارات أو اختيارات الملك، الذي يمثل السلطة السياسية الأولى في البلاد.
حالة ربيع الأبلق، 35 سنة، تحمل نظرة نقدية للأوضاع السياسية والاجتماعية في المغرب، وهو معلق نشيط على مواقع التواصل الاجتماعي، حالة مدرسية نموذجية عن نمط قائم الذات تنهجه السلطات المغربية في محاصرة والتضييق على الأصوات النقدية في السنوات الأخيرة، ويعتمد هذا الأسلوب على تكثيف وتكرار المضايقات والتحرشات القضائية وغير القضائية ضد الأفراد الذين يعبرون عن آراء ووجهات نظر تعتبر من منظور السلطات غير مقبولة وتتجاوز الخطوط الحمراء المتسامح معها.
هذه ليست المرة الأولى التي يواجه فيها الأبلق المتاعب، حيث سُجن ثلاث سنوات بسبب نشاطه في حراك الريف، وهي حركة احتجاجية قامت سنة 2016 انطلاقا من مدينة الحسيمة، إثر حادث مقتل بائع السمك محسن فكري بعد أن ابتلعته شاحنة لضغط النفايات وسحقته وهو يحاول استعادة أسماكه المصادرة. رفعت الحركة مطالب اقتصادية واجتماعية وثقافية، ودامت الاحتجاجات لحوالي 7 أشهر، قبل أن تنهي السلطات أكبر حركة تظاهر مطلبية في فترة حكم الملك محمد السادس بشكل عنيف، وتعتقل المئات من قادة الحركة والمشاركين فيها، كان الأبلق واحداً منهم.
تَركّز نشاط الأبلق، خلال فترة الحركة الاحتجاجية، على التوثيق الإعلامي المواطن، حيث كان مراسلا محليا لعدد من وسائل الإعلام المغربية ومصدرا لوسائل إعلام أجنبية. أُدين بخمس سنوات سجنا نافذة سنة 2018 بتهم “انتحال مهنة الصحافة” و “ترويج أخبار كاذبة”، وخاض الأبلق خلال فترة اعتقاله، التي توزعت بين سجون الدار البيضاء وطنجة، إضرابات طويلة عن الطعام تجاوز معظمها 40 يوما، وبلغت في المجمل 284 يوما منها 3 أسابيع امتنع فيها عن شرب المياه، قبل أن يتم الإفراج عنه سنة 2020 بموجب عفو ملكي.
خلال محاكمته رفضت المحكمة جميع ملتمسات الأبلق، والتي كان على رأسها التحقيق في تلقيه اتصالا هاتفيا من أحد ضباط المخابرات، حاول تجنيده للعمل على الإيقاع بناصر الزفزافي قائد الاحتجاجات بتهم تلقي أموال أجنبية، بل وقدم اسمه ومحل سكناه في مدينة الحسيمة، وقال الأبلق إن سبب اعتقاله هو رفضه لهذه المساومات.
وقال الأبلق إن عناصر الشرطة الذين تولوا التحقيق معه في مقر الفرقة الوطنية للشرطة القضائية هددوه بالاغتصاب، حيث نقله أحد رجال الشرطة إلى غرفة أخرى كان فيها 5 رجال مجهولين مقنعين واقفين يهددون باغتصابه بقنينة إذا رفض توقيع محضر استنطاق قدمته له الشرطة، كما ضربوه على وجهه وهو مكبل اليدين، وحاولوا خنقه بدسّ “جفّاف” (ممسحة قذرة) في فمه، وهي إحدى وسائل تعذيب المعتقلين السياسيين، والتي اشتهرت في المغرب خلال ما عُرف بـ “سنوات الرصاص”.
كما صرح الأبلق أمام المحكمة بأن شرطيا أجبره على أن يحمل العلم المغربي والهتاف بعبارة “يحيا الملك”، وأن آخر قام بتهديده بإطلاق النار عليه بعد أن صوّب مسدسا على رأسه وهو معصوب العينين، مباشرة بعد توقيفه.
وخلص تقرير لطبيب كلفه المجلس الوطني لحقوق الإنسان، مؤسسة رسمية، بمراجعة روايات المعتقلين بخصوص مزاعم تعرضهم للتعذيب، إلى أن روايته بإساءة معاملته هي ذات مصداقية بشكل عام لتماسكها وتوافقها، مشيرا إلى معاناته من اكتئاب حاد.
لكن المحكمة تجاهلت تصريحات الأبلق، واستنتجت أن المزاعم بالتعرض للتعذيب والتهديد ليست جدّية، معللة ذلك بكون تقرير الخبرة الطبية الذي أمر به القضاء لم يظهر تعرضه إلى أي تعنيف جسدي.
حاول الأبلق الاندماج في الحياة العامة بعد مغادرته السجن، من خلال تأسيس مشروع خاص، وهو مقهى في مدينة الحسيمة، بمساعدة من العائلة والأصدقاء الذين دعموه ماديا، لكن تفاقم أزمة كورونا والإجراءات الاحترازية التي رافقتها من قبيل الإغلاق العام جعل الديون تتراكم عليه، ليضطر إلى العودة إلى ممارسة حرفة “الصباغة”، مهنته الأولى، بالموازاة مع إدارته للمقهى.
في أواخر أبريل من السنة الفارطة، وضعت السلطات القضائية ربيع الأبلق رهن تدابير الحراسة النظرية، بعد تسجيله فيديو يروي فيه مضايقات الأجهزة الأمنية له بخصوص المقهى الذي يقوم بإدارته، والذي قامت السلطات بغلقه حينها بدعوى خرق قانون الطوارىء الصحية، وتقرر بعدها محاكمته في حالة سراح، لتتم إدانته في يونيو من السنة ذاتها بستة أشهر سجنا موقوفة التنفيذ، بتهمة “إهانة موظفين عموميين خلال مزاولتهم لعملهم”، وفق ما ينص عليه الفصل 263 من القانون الجنائي، حيث اعتبرت المحكمة أن الأبلق استخدم ألفاظا وتعابيراً تخل بالاحترام الواجب لسلطتهم كرجال سلطة.
قال الأبلق إن سبب هذه المضايقات يرجع بالأساس إلى إصراره على المضي قدما في نشاطه السياسي الافتراضي والفيديوهات التي كان ينشرها على الانترنت من المقهى ويدعو فيها إلى إطلاق سراح المعتقلين ومحاربة الفساد ومحاكمة المسؤولين عن نهب الثروات، حيث أكد أنه تلقى قبيل هذا التوقيف ضغوطا من السلطات، بعد افتتاحه المشروع، للتراجع عن قناعاته، والتوقف عن نشاطه الحقوقي المساند لبقية المعتقلين، والمنتقد للأوضاع التي تعيشها المنطقة. “إنهم يطلبون منك أن تصمت تماماً، إلى الأبد، حتى يتركوك بسلام. كلما تحدثت عن رفاقك المسجونين، يهددون بقطع رزقك. المعادلة بالنسبة إليهم بسيطة: لكي تمضي في حياتك بشكل طبيعي، عليك أن تختار طريقاً آخر، وأنا بعد خروجي من السجن رفضت أن أسكت”.
وذكر محامو الأبلق أن الحكم صدر في حقه غيابيا دون أن يستنطقه القاضي، وأن الأخير لم يتم إشعاره بموعد جلسة محاكمته وحرمانه من الدفاع عن نفسه.
خضع الأبلق مجددا للتحقيق ابتداء من شهر أكتوبر من السنة الماضية في مركز للشرطة بمدينة الحسيمة من طرف عناصر تابعة للمكتب الوطني لمكافحة الجريمة المرتبطة بالتكنولوجيا الحديثة إحدى فروع الفرقة الوطنية للشرطة القضائية، ووجهت إليه بحسب محاضر التحقيق التي اطلع عليها موقع “هوامش” أسئلة واستفسارات بخصوص عبارات تتناول الملك بشكل مباشر وجريء تضمنتها 3 أشرطة مصورة (فيديوهات) وتدوينة مكتوبة نشرها على موقعي “فيسبوك” و” يوتوب”.
في الفيديو المنشور بتاريخ 21 غشت بعنوان: “من ربيع الأبلق إلى السيد محمد العلوي الذي يشغل منصب ملك المغرب” والذي تبلغ مدته حوالي 23 دقيقة تطرق الأبلق لملف المحللين السياسيين في المغرب واصفا إياهم بـ “الممجدين والمطبلين”، قبل أن يتناول بمنسوب عال من النقد إحدى الخطابات الملكية، قائلاً: ” ..أنصتوا يوما، حاولوا أن تجعلوا في أنفسكم ضميرا يؤنبكم على ما تفعلون”، داعيا إلى “مصالحة حقيقية مع الشعب”.
فيما قدم الأبلق خلال الفيديو المنشور بتاريخ 11 شتنبر-حوالي 7 دقائق- بعنوان: ” سلطات كلها بيد الملك، ملك الدولة ملياردير ورئيس الحكومة ملياردير“، تحليلا سياسيا شخصيا لنتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة، قبل أن يتطرق إلى ثروة الملك وثروة رئيس الحكومة الحكومة عزيز أخنوش، متسائلا عن علاقة ذلك بالفقر المدقع الذي يواجهه معظم المغاربة. كما اعتبر أن كل الحكومات تنفذ برنامج الملك كما اعترف بذلك قادتها بأنفسهم، “ملكٌ إن أراد هلاكنا أعانه، ملكُ إن أراد الخير لنا أعانه.. من يُسير هذه الدولة هو الملك، لذلك ننادي بمقاطعة المهزلة الانتخابية لأن من يحكم البلد هو الملك”.
وفي شريط آخر بتاريخ 12 شتنبر-مدته حوالي 11 دقيقة- ويحمل عنوان ” أيها الملك (يا ابن الحسن) إننا على شفا جُرفٍ قد ينهار في أية لحظة“، توجه الأبلق إلى الملك بالكلام مجددا قائلا: ” في هذا الفيديو سأحاول أن أتكلم بكل أدب واحترام يا ملك المغرب.. ضقنا ذرعا بتصرفاتكم.. إلى متى هذا الظلم.. نطالب بالحرية وتواجهوننا بالديكتاتورية؛ قاطع الشعب بأكمله عزيز أخنوش وجعلتم منه رئيسا للحكومة.. نطالب بإطلاق سراح المعتقلين فنُقابل باعتقالات جديدة؛ نطالب بتخفيض أسعار المواد الغذائية فنقابل بغلاء لا مثيل له.. كلما طالبنا بشيء إلا ونجد عكسه. لا أرى أي مسؤول يتحمل وزر هذا غيرك يا ملك المغرب”.
واستمر الأبلق في مخاطبة الملك عبر تدوينة على الفيسبوك نشرت بتاريخ 22 غشت ورد فيها: ” يا ابن الحسن إننا نريد وطنا تتكافأ فيه الفرص للجميع، ويشارك الجميع في تسييره، نريد وطنا يسع الجميع، ويحاسب فيه الجميع، نريد وطنا يبتغى فيه للفساد أن يسقط أينما كان، وإن كان في عقر قصور الحاكمين، أقصد في عقر قصرك”.
وارتأت النيابة العامة أن التوجه بكلام غير رسمي إلى رئيس الدولة ومخاطبته بشكل مباشر يمثل “إساءة لمؤسسة دستورية”، فقررت متابعته بتهمة “الإخلال بواجب التوقير والاحترام للمؤسسة الدستورية العليا للمملكة بوسائل إلكترونية”.
وذكر محامي الأبلق، عبد المجيد أزرياح، لـ “هوامش” أن النيابة العامة اختارت التكييف الأكثر قسوة من فصول القانون الجنائي لمتابعة ربيع الأبلق، فإذا كانت العقوبة الأقصى -مبدئيا- لتهمة الإخلال بواجب التوقير والاحترام للملك هي سنتين سجنا نافذا، فإن جهة الاتهام قررت متابعته وفق الفقرة الثالثة من المادة 179 من القانون الجنائي (تعديل صودق عليه سنة 2016) التي تقضي بمضاعفة العقوبة الحبسية في حالة ارتكاب الفعل “بواسطة كل فعل يحقق شرط العلنية بما فيها الوسائل الإلكترونية والورقية والسمعية البصرية”.
ووصف أزرياح الحكم الصادر في حق الأبلق بأنه قاس وغير متناسب مع الأفعال موضوع المتابعة. ” ما زلت أنتظر تعليل الحكم، لكنه صادم فما عبر عنه الأبلق يهم قضايا اجتماعية ومطالب بمحاربة الفساد والتقليص من الفوارق الاجتماعية، ولا يتضمن إساءة للمؤسسة الدستورية العليا”.
ولا يتوقع الأبلق ومحاموه أن تكون هذه هي المتابعة القضائية الأخيرة له، إذ لا يزال في انتظار قرار من النيابة العامة في قضية مماثلة أجرت معه بخصوصها الشرطة تحقيقات حول شريط مصور آخر تحدث فيه عن وجوب “تغيير النظام” و”الخروج إلى التظاهر”.
يقول الأبلق تعليقا على الحكم إنه لم يقم بالإساءة إلى أحد، بل قام فقط بالتعبير عن وجهة نظره، وسيستمر في القيام بذلك. ” أشعر بظلمٍ كبير لأن كل ما قمت به هو قول ما أراه. ما قمت به هو ممارسة حقي في الانتقاد ولم أشتم أحدا، و سأظل أتحدث بصوت مرتفع”.