مريم أبروش
لم تكن تنتمي لعائلة أرستقراطية ولا حتى لسلالة عائلة سياسية معروفة ولم تكن متعلمة حتى. كانت امرأة عادية من عامة الناس، شأنها شأن النساء في زمنها. لم يسجل التاريخ شيئا عن طفولة رحمة حموش ولا عن عائلتها. فبالكاد يُلمحُ اسمها في الكتب التاريخية بعد زواجها الأول.
رحمة حموش بنت محمد بن الطالب المعروفة في أوساط المقاومة وجيش التحرير برحمة “البهلولية” نسبة للمنطقة التي تنتمي لها وهي منطقة البهاليل. ربة البيت البسيطة التي دخلت تاريخ المغرب من أوسع أبوابه. ولدت رحمة سنة 1906، بالخندق بمنطقة البهاليل قرب صفرو. ولم يعرف عنها أي شيء إلى حين زواجها لمرّتها الأولى بعبد السلام القندوسي، نقيب الزاوية القندوسية بصفرو.
تعلمت رحمة أبجديات المقاومة على يد زوجها عبد السلام، فقد كان يلقنها مبادئ الدفاع عن الوطن والتضحية من أجل تحقيق الاستقلال وتحرير المملكة من يد المستعمر. دخلت رحمة عالم المقاومة واحتكت بالمقاومين، واكتسبت من الشجاعة والفطنة ما سيجعلها تدخل التاريخ من أبوابه الواسعة وتصبح مثالا للمرأة المغربية التي جمعت بين الشجاعة والذكاء واستطاعت بكل نباهة أن تساهم في تحرير المغرب.
شاءت الأقدار أن يرحل زوجها إلى دار البقاء، وبعد مرور سنتين من وفاة عبد السلام القندوسي، تزوجت للمرة الثانية، وشاء القدر أن تكمل رحمة مسيرتها النضالية وتتزوج بعلي بن محمد، وهو من أحد المقاومين الواقفين في وجه المستعمر الفرنسي. تشربت رحمة معاني الدفاع عن الأرض من زوجها، وزرع فيها بذور المقاومة والنضال ضد الاستعمار الفرنسي، فأصبحت من المقاتلات السريات في صفوف المقاومة.
عيون المستعمر الغاشم تراقب كل زقاق وشارع، تتربص بالمقاومين الأحرار لتعذبهم وتسجنهم وتخسف بعزيمتهم. طابور من الرجال المغاربة مصطفون، يفتشهم بكل تعجرف وقسوة مسلح فرنسي ببذلته العسكرية وبلهجته المتعالية. يفتش الرجال واحدا تلو الآخر، يفتش جيوبه ومحفظته ويتفحصه من أعلى رأسه إلى أخمص قدميه، حتى يتأكد بأنه لا يهرّب سلاحا ولا يخبئ مناشيرا، ثم بالكاد يدعه يمر.
الجار الحسن البرنوصي، واحد من المقاومين الذين نفذوا الهجوم على ثكنة الجيش الفرنسي المستعمر بسيدي بوزريغ بصفرو، واستطاع رفقة مقاومين آخرين الظفر بغنائم مهمة من الأسلحة. هرّب المقاومون السّلاح، غير أنهم مهددون في أي لحظة بهجوم المستعمر. وبثقة منقطعة النظير تقترح رحمة مد يد العون، فأخفت السّلاح في بيتها، وسخرت منزلها لعقد اجتماعات سرية للمقاومين بعيدا عن أعين ومسامع المستعمر.
تلبس رحمة جلبابها وتلثم وجهها وتغدو بكل حذر تمشي بالأزقة الضيقة، تدخل الفرن التقليدي كجميع النساء لتجلب الخبز، يمر مقاوم فيضع السلاح في “الوصلة” ويختفي. تحمل ”الوصلة” بكل هدوء، تتأكد بأن السلاح مخفيّ جيدا وتخرج، تدخل بيتها في هدوء وتخبئ السلاح هناك. كانت تدس الأسلحة وسط كوم من الحطب، أو في سلاسل الغلل الخاصة بالقمح والشعير، كما كانت تحشر الرشاشات والبنادق في ملاحيف الصوف، وتحتفظ بها إلى حين يأتي دورها ويطلبها رجال المقاومة لتنفيذ خطتهم الفدائية ضد السلطات الاستعمارية.
لم يكن الرجل المغربي المقاوم ليستطيع طرد العدو بمفرده دون تضحيات وفطنة رفيقة دربه المرأة المغربية المقاومة. وذاكرة المغرب التاريخية تحتفظ بأسماء نسائية كثيرة ساهمن في مسيرة الكفاح من أجل استقلال الوطن، منهن من قدمت الدعم والسند، ومنهن من ضحت بروحها فداء للانعتاق من ذل الاحتلال. تضحية قدمتها في فترة كان الوطن في حاجة إليها، فلبت النداء غير آبهة بما ستؤديه من ثمن غال جراء قراراتها الجريئة.
“تعلن السلطات الفرنسية على لسان ناطقها الرسمي أنه تم عزل ملك المغرب محمد الخامس من مهامه وتم نفيه وعائلته إلى جزيرة كوستاريكا”، خطاب أذيع في الراديو يوم 20 غشت سنة 1953، حدث مفصلي سيمهد لانتهاء عمر الاستعمار. استقبل المغاربة خبر نفي الملك بغضب شديد، وأخفى البعض صور الأسرة الملكية وتخلص الكثير من أي منشور وطني، إذ أنه سيعاقب بالسجن والتنكيل إن قبضوا على أي مقاوم أو محرض. وما زاد الطين بلة كان تعيين ابن عرفة كسُلطان صوري، إذ كان القرار بمثابة آخر مسمار في نعش الاستعمار، الأمر الذي أشعل نيران الانتفاضة المغربية.
نزلت الجماهير الشعبية إلى الشوارع في جل المدن المغربية تستنكر ذلك التدخل الهمجي، ملئت الشوارع ووزعت المناشير واتحد المغاربة رجالا ونساء لطرد المستعمر.
فقام رجال المقاومة بالعديد من العمليات الفدائية ضد سلطات الاحتلال، في نفس السنة تم الهجوم على ثكنة الجيش الاستعماري بسيدي بوسرغين بصفرو ونجح المقاومون في الحصول على غنيمة من الأسلحة، وضعوها بأحد الإسطبلات بضواحي المدينة.
في هذه الفترة الحساسة من تاريخ المغرب، سيظهر دور المقاومة المغربية رحمة حموش، فقد كان يقرب بيتها منزل الحسن البرنوصي، وهو أحد أبرز المقاومين الذي شاركوا في الهجوم على معسكر المستعمر. وسخرت بيتها لتخبئة الأسلحة، إذ كانت تنقل تلك الأسلحة من المكان الذي خبأت فيه إلى بيتها، وكانت تدسها وسط كوم من الحطب، أو في سلاسل الغلل الخاصة بالقمح والشعير، كما كانت تحشر الرشاشات والبنادق في ملاحيف الصوف، وتحتفظ بها إلى حين أن يأتي دورها ويطلبها رجال المقاومة لتنفيذ أعمالهم الفدائية ضد السلطات الاستعمارية وعملائها.
برباطة جأش قل نظيرها، قامت رحمة البهلولية بدور حارسة بيت السلاح لسنين طويلة دون أن يكشفها المتربصون، على الرغم أن حجم المخزون لم يكن بسيطا. لم تخف رحمة من المستعمر ولا من عقابه الشديد، إذ كانت تحمل روحها على كفها كل يوم يمر والسلاح مخزن في عقر بيتها وحين تهرّب السلاح من بيت مقاوم إلى آخر.
ظلت رحمة على هذا المنوال، وسهرت الليالي لتحرس الأسلحة وتراقب بحذر أي تربص من المستعمر. عاد الملك محمد الخامس وعائلته من منفاه وانتزع المغاربة استقلال بلدهم بدماء شهداء وتضحيات مقاومات ومقاومين أحرار. احتفظت رحمة البهلولية بما تبقى من الأسلحة بكل أمانة، إلى أن تم تسليمها للجهات المسؤولة دون أن تطلب أي مقابل مادي أو اعتراف معنوي عن طول ليالي الحراسة والترقب، مفضلة العودة إلى حضن انشغالاتها اليومية كأن شيئا لم يقع.
عادت رحمة إلى حياتها اليومية كباقي النساء، حتى توفيت يوم 5 يناير 1988 ودفنت بمسقط رأسها بالبهاليل نواحي مدينة صفرو.
لم تدخر المرأة المغربية من جهدها وطاقتها شيئا، رغم التقاليد والعادات الرائجة، بل كانت السند والعون والعقل المدبر في بعض الأحيان. كانت تسعف جريح المقاومة وتسهر على تمريضه وعلاجه، كما تحرص على تأمين المأكل والمؤونة، ونقل الرسائل والمعلومات السرية بين المقاومين، وتوزع المناشير، كما برعت بشجاعة في نقل الأسلحة لتزويد المقاومين بها. لم تكثرت المرأة المغربية المقاومة باضطهاد المستعمر الذي ستطاله ولا بالعقوبات التي ستتلقاها إذا تم كشف خططها.
عملت النساء على توزيع السلاح بين المناضلين بذكائها ومراوغتها للمستعمر، وبعضهن ساهمن في تنفيذ العمليات الفدائية ودعم عمل الفدائيين المسلح. كما برعن بإتقان في إخفاء المقاومين المطارَدين من المستعمر، واستغلت المرأة حضورها الدائم في المنزل في فترة الاستعمار، فتكلفت بإخفاء السلاح. فالفطنة في خطة مقاومة النساء إبان الاستعمار، أنها لم تكشف أوراقها أمام المستعمر، إذ أنها كانت تلبس رداء الخوف والضعف والاستسلام في حين أنها تخبئ قوتها للوقوف جنبا لجنب الرجل المقاوم.
بالرغم من شح المعلومات التاريخية حول دور المرأة المغربية في المقاومة المغربية، إلا أن عدد من المقاومين أشادوا في مذكراتهم بأهمية الدور الذي لعبته المرأة المغربية إلى جانبهم. وحتى النصوص الأجنبية لم تغفل الحديث عن هذا الموضوع والإشادة به.
وفي هذا السياق صرح مراسل جريدة مدريدية – على إثر مراقبته لإحدى المعارك في شمال المغرب- يقول” اليوم شاهدت شيئا جعلني أغير رأيي في المرأة المغربية وذلك على إثر ما رأيناه نحن الصحفيين جميعا من أعلى الهضبة التي كنّا منها نراقب العمليات العسكرية التي جرت هذا اليوم بمركز سيدي أحمد الحاج حيث كانت النساء المغربيات هنّ اللاتي يقمن بجميع الخدمات في مؤخرة المجاهدين، تساعد الجرحى وتقوم بنقلهم بعيدا عن أرض المعركة وتزود المقاتلين بالماء إلى غير ذلك”.
يجمع الباحثون في المغرب على أن ما كُتب عن المرأة حتى خمسينيات القرن الماضي قليل ومشتت بين مختلف المصادر التاريخية وهو لا يفي لإعطاء الصورة الحقيقية للمساهمة الفعلية للمرأة، كما أن ما كتب يغطي جوانب دون أخرى وطبقة معينة من النساء دون أخريات.
يقول الأستاذ إبراهيم القادري، أستاذ مادة التاريخ بكلية الآداب بمكناس: “المدونات التاريخية المعروفة تحتوي على إشارات، ولكنها قد لا تؤرخ إلا للمرأة التي لعبت أدوارا سياسية في الوسط الأرستقراطي، في حين أنها لاذت بالصمت بالنسبة للمرأة العادية التي تدخل في إطار فئة العامة”.
ونجد أن بعض النساء لم يحضين في كتب التراجم سوى بسطرين أو ثلاث، بل منهن من لا يذكر اسمها كاملا، بل ويستغني المؤرخ عن اسمها وينسبها للأخ أو الزوج فيقول أخت فلان أو زوجة فلان. لم ينصف المؤرخ المغربي أسماء نساء مقاومات دافعن باستماتة مشهودة عن الوطن واستقلاله. إذ أننا بالكاد نصادف اسما أو اسمين، في حين أنه كتب عن بطولات المقاومين الرجال وتضحياتهم ودرست في المدارس وانجز عنها وثائقيات وبرامج تلفزيونية.
فإذا عدنا إلى إحصائيات المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير فإن الحاملات لصفة مقاومة يبلغ حاليا 446، نشطن في فترة مقاومة الاستعمار الإسباني والفرنسي.
حاربت النساء المغربيات بالزغاريد، إذ نجحت في زرع الخوف ووقعت زغرودة المرأة المغربية الحرة وقع الصاعقة على نفسية المستعمر. وفي مقال تحت عنوان «المرأة المغربية تثبت حضورها عبر تاريخ الكفاح السياسي المسلح» للكاتب محمد خليل بوخريص ضمن مجلة التعاون الوطني، والذي ضمّن شهادة ناطقة، ومعبرة عن دور المرأة في الكفاح والمقاومة، يعبر عنها المراسل العسكري الفرنسي لجريدة الصباح الباريزية، حول ما عرفته مدينة فاس من انتفاضة شعبية في أيام فاس الدامية، ومشاركة المرأة فيها وما قامت به من تحفيز المقاتلين من خلال زغاريدها.
“هذه الساعة الثانية والنصف بعد الزوال، الصيحات تتعالى من كل ناحية والطلقات النارية أخذت تنبعث من كل مكان، وكل الدكاكين أخذت تغلق أبوابها في سرعة البرق الخاطف، وعلامة أخرى للهيجان أدل على الخطورة مما سبق، تلك زغاريد النساء الحادة المتواصلة ممزوجة بالانفجارات النارية. وعلى ما تدل الزغاريد عند المرأة المغربية؟ لقد اعتدنا قبل هذا الوقت أن نسمع هذا الصوت في الحفلات، ولكنه هل كان وقفا على ساعات الأفراح والسرور؟ وهل كانت تلك الصيحات بساعة الولادة أو الزواج أو أي مناسبة مشابهة؟ لا بل هي صيحات إنذار بالموت بالنسبة إلينا. نعم تتحول اليوم تلك الزغاريد من بشير بالسعد إلى نعيق الغراب. يا لها من صيحات مشؤومة”.
لم ينصف المؤرخ مسيرة النساء المغربيات المنتميات للطبقة “العامة” في مقاومة الاستعمار والتضحية من أجل استرداد أرض حرة ومستقل. وبالرغم من كل هذه البطولات التي أبانت عن حنكة المرأة وبراعتها في العمل النضالي، إلا أننا ولحد الساعة نجد قلة من يحتفي بمواقفها البطولية. فلا يسلط الضوء على هاته الشخصيات ولا يحتفل بهن في المناسبات ولا تدرس سيرتهن في المناهج المدرسية، ولا نصادف حتى شارعا أو مؤسسة تعليمية أو جمعيات المجتمع المدني تحمل اسم مقاومة أو مناضلة مغربية عملت بشق الأنفس لدعم الكفاح الوطني وهذا أضعف الإيمان. وهنا نطرح السؤال الإشكال، ألم يحن الوقت بعد للإشادة بجهود النساء المغربيات المقاومات إنصافا لهم واعترافا بتضحياتهن؟