مريم أبروش
في إحدى القرى النائية في مضايق دادس في عمالة تنغير الواقعة جنوب شرق المغرب، ولدت فاطمة ملال سنة 1968. من عائلة متوسطة، عاشقة لكل الفنون. مرت طفولة فاطمة كطفولة كل بنات القرية، تشغل يومها ما بين أشغال المنزل من طبخ وكنس وتنظيف وما بين أشغال الحقل والاعتناء بالماشية وجمع الحطب. وكما هو حال جل الفتيات في القرى، لم تطأ قدما فاطمة حجرة الدرس، بالرغم من حماسها الشديد، إلا أن الظروف آنذاك حالت بينها وبين ولوج المدرسة.
في تصريح لمنصة “هوامش أنفو” تحكي الفنانة فاطمة ملال ” كان عمري آنذاك عشر سنوات، فلم يكن مسموح لي بولوج المدرسة إذ أنه حينها كان شرط القبول هو أن لا يتجاوز التلميذ السابعة من عمره. حاول أبي رحمة الله عليه تسجيلي، لكن الإدارة لم تقبل، إضافة أن فتيات القرية حينها لا تلجن المدرسة، فقد كنا نلزم أشغال البيت والحقل” . كانت الأسرة هي السند الأول والأعظم الذي اتكأت عليه فاطمة لتنطلق رحلتها في عالم الإبداع. فمن حسن حظها أنها ترعرعت في كنف أسرة تقدر الفن و تؤمن به، الأمر الذي حررها من قيود مجتمعية تبخس من قيمة الأنثى. كبرت فاطمة في بيت به خمسة ولم تحس يوما أن أحدهم مميز عليها أو يحتقرها.
فقد حرص الوالدين على العدل بين أبنائهم وتربيتهم على مبادئ الاحترام. تحكي فاطمة “تربيت على أن كوني فتاة لا يعيق طموحي أبدا، فلم يميز أبي يوما بيني وبين إخوتي الذكور، وعلى هذا المنوال كبرت وبنيت شخصية عصامية وقوية” . آمن الأب بأن ابنته فاطمة ستحقق ذاتها ذات يوم وسيعترف بموهبتها أكبر الفنانين العالميين. فهكذا هم الآباء يحسون. حيث لم يبخل عليها بتشجيعاته بمجرد اكتشافه موهبتها، وإلى جانبه الأم، التي لم تذخر جهدا في مساعدة أبنائها على البوح بما لديهم من طاقات إبداعية، ودون تمييز منها بين الذكور والإناث.
كبرت فاطمة وكبرت طاقتها الإبداعية، فتاة تحب الخضرة والمياه وتعشق الألوان وتهيم في كل ما تجود به الطبيعة. فكانت كلما فرغت من أشغال المنزل، تذهب رفقة نساء القرية لنسج الزرابي. كانت الزربية الحب الأول في حياة فاطمة، كانت بوابتها الواسعة لعالم الفن. فقد كانت تنسج الزربية بعشق كبير، ولا تأبه بالعياء والتعب، ولا بالأيام الطوال التي يجب أن تصبر حتى تكتمل الزربية. لم تكن الزربية في منطقة تنغير مميزة بأشكال معينة كالزربية الزيانية والزربية الخريبكية، الأمر الذي ضمن لفاطمة مساحة أوسع للتعبير الحر. تقول فاطمة “لم تتميز زريبتنا بأي شكل محدد، لذا كنت دوما ما أحاول أن أدمج بكل حرية وأريحية ما بين أشكال الطبيعة وبين الرموز الأمازيغية التي تميز منطقتنا”.
واصلت فاطمة شغفها في نسج الزرابي، غير أن “الزربية” لم تعد كافية لتحتضن خيالها. فبدأت برسم الرسومات أولا على الأوراق ثم تطبيقها بعد ذلك على الزربية. ولقلة الحيلة، اشتغلت فاطمة بكل المواد الطبيعية المحيطة بها، فبدأت ترسم بالحناء والفلفل الأحمر والكركم وتزين لوحاتها بأوراق الشجر. لم تكن قلة الإمكانيات عائقا أمام هيام فاطمة بالرسم والألوان. ولأن الأسرة كانت وماتزال الداعم الأول في مسيرة فاطمة، حرص أخوها “موحا ملال” على اقتناء كل ما يلزمها من صباغات وفُرش وأقمشة لتأخذ بفنها لمستويات عالية تحس فيها فاطمة أنها حرة طليقة لا يكبح شيء إبداعها.
رسمت فاطمة ملال العشرات من اللوحات، فكانت كلما وجدت فرصة تهرع إلى مرسمها لترسم هناك لساعات طوال. ترسم أمام الجبال أو قرب الواد، فالطبيعة هي ملهمتها الأولى وصوت خرير المياه وحفيف الأشجار يأخذها لعالم تكون فيه هي والفرشاة لوحدهما، فتخلق لنفسها العالم الذي تود أن تحيى فيه. تصف فاطمة لحظاتها مع الرسم :” حين أرسم، صدقا أفقد الإحساس بما يحيط بي، أفقد الإحساس بالزمكان، وكأني أنتقل إلى عوالم أخرى. أحيانا أقضي هناك اليوم بطوله، من الصباح إلى أن تغرب الشمس، دون أن أحس بتعب أو ملل”.
رسمت فاطمة ولم تنضب ريشتها، رسمت لأنها تحب الرسم وتعبر من خلاله عما يجول في خاطرها من أفكار تعجز عن التعبير عنها كلاما. ولأن الصدفة خير من ألف ميعاد، سيكون لقاؤها بسائحة سويسرية نقطة المنعطف التي ستغير مسار حياتها.
تلتقي فاطمة مع سياح من كل مناطق العالم بحكم أن أسرتها تسير نزلا صغيرا. في أحد الأيام، سيسوق القدر سائحة سويسرية إلى مضايق دادس، وتحديدا إلى نُزل فاطمة. ستتعرف على فاطمة وستنبهر من الزرابي ومن رسوماتها المتفردة، فلن تبخل عليها من تشجيع وتحفيز. تقول فاطمة ” تعرفت على سيدة سويسرية خلال زيارتها لقريتنا وعندما رأت الزرابي التي نسجتها، عبّرت لي عن إعجابها بما أقوم به واقترحت عليّ نقل تلك التجربة إلى الصباغة بالألوان على القماش”.
سعدت فاطمة باعتراف السائحة بإعجابها بفنها إلا أنها لم تكن تعلم أن ذاك اللقاء بالتحديد سيغير حياتها. عادت السائحة أدراجها محتفظة برقم الهاتف الثابت لمنزل فاطمة، وأخذت فاطمة بالفعل تجرب الرسم على القماش. مرت الأيام وبعض الشهور، فإذا بالسائحة تتصل حاملة معها بشرى “مرحبا فاطمة، أنت مدعوة إلى سويسرا لتنظيم معرضك الأول”. لم تستسغ فاطمة الخبر حينها، إذ لم تكن تتصور يوما أن لوحاتها ستخرج من حدود قريتها الصغيرة إلى رحاب العالم الواسع.
سنة 2002، استقلت فاطمة الطائرة لأول مرة في حياتها، وكانت الوجهة من قريتها النائية جنوب شرق المغرب إلى معرض عالمي يجمع نخبة الفنانين التشكيليين في دولة سويسرا. تحكي فاطمة: ” اختلطت علي المشاعر، فلم تسعني الدنيا فرحا بأن حلمي يشارف على التحقق، بقدر ما سعدت بقدر ما انتابتني مشاعر الخوف، إذ كانت تلك أول مرة أسافر فيها في حياتي كلها، لكن التجربة كانت تستحق”.
لم تقتصر لوحات فاطمة على المعارض في سويسرا، بل حلقت في مختلف بلدان العالم وجالت. أتيحت لفاطمة فرص كثيرة لعرض لوحاتها في أكبر المعارض في إسبانيا، هولندا، فرنسا، الولايات المتحدة الأمريكية والبحرين. سافرت والتقت بفنانين تشكيليين من كل بلدان العالم، وتعرفت على ثقافات مختلفة وعرضت فنها بكل ثقة وعرفت بالرموز الأمازيغية الأصيلة وبقضايا المرأة القروية المغربية. غير أنه وبالرغم من احتكاك فاطمة بالفنانين العالميين إلا أنها لم تتأثر واحتفظت بأسلوبها المتفرد وبالمواضيع التي تعبر عنها عن طريق لوحاتها. في هذا الصدد تقول فاطمة: “حاولت الحفاظ على بصمتي المتميزة، وبالرغم من أني رأيت العديد من اللوحات العالمية إلا أني أمتاز ببصمتي الخاصة والتي لن تتغير أبدا”.
لم تحظى فاطمة بفرصة التمدرس، فشأنها شأن معظم فتيات القرية، إلا أن السفر خارج حدود المملكة جعل فاطمة تكتشف عوالم جديدة ولغات مختلفة. الأمر الذي جعل من تعلمها أمرا ملحا. عادت فاطمة إلى القرية وكلها إرادة في التعلم، فتعلمت بالفعل اللغة العربية كتابة وبدأت تتواصل بشكل سلس. وبعد سنوات من السفر والمشاركة في المعارض العالمية، فطنت فاطمة بضرورة تعلم اللغة الفرنسية، فَهَمَّتْ بكل عزيمة وإرادة حقة للتعلم. لم تعقها تضاريس القرية ولا قلة الإمكانيات ولم تحفل بالسن، فيكفي أنها وضعت الهدف أمام عينيها لتشق طريقها نحو التعلم.
ولأن شغفها لا يطيق الانتظار، طلبت فاطمة الأستاذ داوود الزيتوني، وهو معلم يدرس في المدرسة العمومية، طلبت منه تدريسها بعد أن ينهي عمله ليلقنها بعضا من اللغة الفرنسية. لم يرد الزيتوني طلبها بل رحب به وشجعها على التعلم وكان لها السند والعون في طريقها للتعلم. يقول الأستاذ داوود الزيتوني: “معجب جدا بهمة وإرادة فاطمة، فبالرغم من كونها لم تتعلم في المدرسة، إلا أن هذا الأمر لم يعقها يوما” ويضيف ” فاطمة امرأة تتمتع بذكاء متقد، فلم يستغرق تعليمها سوى ستة أشهر حتى بدأت تتواصل باللغة الفرنسية بشكل جيد، وصدقا أنا فخور بها أيما فخر، فهي قدوة لنساء القرية ومثال يحتذى به في التحدي والإرادة”. وفي هذا الصدد تضيف فاطمة ” الحمد لله تعلمت بعضا من اللغة العربية والفرنسية وأستطيع الآن التواصل بشكل سلس مع الأجانب، لهذا أطمح لتعلم اللغة الإنجليزية أيضا وكلي شغف للتعلم، فلا شيء يمكن أن يعيق الإنسان الشغوف”.
باتت اللوحات الفنية جواز سفر لفاطمة، فأضحت تزور مختلف بلدان العالم، وتتعرف على ثقافات جديدة ولغات متعددة، إذ يمكن أن يطول سفرها في البلد الواحد ما بين شهر إلى شهرين أو أكثر. ومن البديهي أن الفرص هناك أكثر، وأن استقرارها بإحدى تلك الدول سيمكنها من الشهرة وبدء مسار عالمي لها، إلا أنها وبالرغم من كل تلك المغريات، دوما ما تعود أدراجها وترتمي في حضن قريتها النائية بكل حب وافتخار بانتمائها. تقول فاطمة ” لم أرغب يوما في الاستقرار في أي بلد آخر، بل وفي أي منطقة أخرى غير قريتي. لا أحلم بالهجرة، ولا أود أن أغادر هذه القرية التي إلى أرضها أنتمي، وهنا رسمت أولى لوحاتي. لا بأس في السفر للتعرف على ثقافات مختلفة وأعرف بثقافتنا وفني أيضا، إلا أن قريتي هي الملاذ الأول و الأخير”.
لم تحتكر فاطمة موهبتها، بل أصبحت تنظم ورشات لتعليم الرسم لفائدة أطفال القرية، أملا أن تكون يد العون التي تمد للجيل القادم وتحتضن مواهب جدد تفتح أمامهم أبواب التطور وإثبات الذات. ما يزال طموح فاطمة عاليا، وما تزال في أولى خطوات نجاحها بحسب تعبيرها، تقول فاطمة: “حلمي أن أؤسس معرضا خاصا بي، يكون مفتوحا أمام الجميع على مدار السنة، أعرض فيه لوحاتي وإبداعاتي وأفتح المجال للفنانين آخرين لعرض أعمالهم”. الآن تحول بيت فاطمة إلى ورشة لطالبي تعلم لغة الجمال في منطقة تفتقر إلى مرافق ثقافية، بحيث تقول: ” بعد أن كان الناس ينظرون بازدراء إلى الفن بشكل عام وإلى إلى الإبداع الفني للمرأة بشكل خاص، أصبحت لديهم رغبة في تعليم بناتهم أصول وقواعد الفن التشكيلي”.
استطاعت فاطمة أن تبهر العالم بلوحاتها وإبداعاتها المتفردة. لوحات زاوجت بين البساطة والعمق، وبين ألوان الطبيعة وقضايا النساء القرويات. وتمكنت- بالرغم من كل العراقيل والتحديات- من تجاوز حدود قريتها النائية لتصبح من بين أهم الفنانات التشكيليات على مستوى العالم.