الرئيسية

بصمات نسوية: الشيخة خربوشة، شاعرة المقاومة التي هزمت القائد بلا ”قرطاس”

من كان يتصور أن مجرد كلمات موزونة تخرج من فيه امرأة بدوية قادرة أن تتحول إلى سلاح قوي للمقاومة، بل وستؤدي إلى محاولة لإسقاط حكم قائد مستبد. بهاته الكلمات تغنت الشيخة خربوشة وتركت للتاريخ مثالا للمرأة المغربية الحرة التي تدافع عن حق قبيلتها ولو كان الثمن حياتها. 

مريم أبروش

قُسم رأس فقيه القبيلة قسمين ورُميَ أرضا، وبدم بارد توالت جثة الرجال في السقوط واحدة تلو الأخرى، وحتى من نجى بأعجوبة من القتل الغادر، قد رُفِس حد الموت بين الأرجل في مشهد تدافع مخيف. 

قُتل أبناء قبيلة “خربوشة”، ويُتِّم أطفال ورُمّلت نساء و استبيح دم الرجال. لم يكن لخربوشة سلاح تدافع به عن الحق سوى “العيطة”، فنظمت الكلام الموزون وصدحت بعلو صوتها:

من كان يتصور أن مجرد كلمات موزونة تخرج من فيه امرأة بدوية قادرة أن تتحول إلى سلاح قوي للمقاومة، بل وستؤدي إلى محاولة لإسقاط حكم قائد مستبد. بهاته الكلمات تغنت الشيخة خربوشة وتركت للتاريخ مثالا للمرأة المغربية الحرة التي تدافع عن حق قبيلتها ولو كان الثمن حياتها. 

امرأة اختارت الشعر سلاحا

في زمن تُقطع فيه ألسنة المعارضين ويُسفك فيه دم كل من سولت له نفسه الثورة على القهر، ويعذب كل داع لما لايتناسب والسلطة الحاكمة، انبثق صوت امرأة من دواوير البادية، تصدح بعلو صوتها بأشعار تقصف بها المستبدين والطغاة، غير آبهة بالتعذيب الذي سيطالها ولا بحياتها التي ربما ستهدر بدم بارد. بجرأة منقطعة النظير، وبشجاعة امرأة مغربية حرة لاتستبيح الظلم ولا الدماء، بين دواوير قبيلة “أولاد زيد” في عبدة، تجول خربوشة وتجول أصداء أشعارها بين أسوار البيوت وبين الشجر في الغابات. كانت “عيوط” خربوشة كالصفعة القوية التي توقظ النائم من سباته، وتجعله يستفيق بعيون جاحظة ليرى ما آلت إليه حياته من مآسي.

تختزن الذاكرة الشعبية المغربية شخصية خربوشة. خربوشة هي امرأة مغربية تنحدر من قبيلة “أولاد زايد” نواحي عبدة، عاشت في آواخر القرن 19. سميت ب “خربوشة” لأن وجهها كانت به ندوب من آثار مرض الجدري، كما كان يطلق عليها اسم “الكريدة” أي صاحبة الشعر الأجعد، و تعرف بلقب”زروالة” أي صاحبة العينين الزرقاوتين. اختلفت الأسامي وتعددت المصادر، إلا أننا أمام مسار امرأة أثرت بشكل كبير في المشهد السياسي التاريخي وفي الثراث الشعبي لتلك الحقبة. 

لم تكن طفولة خربوشة توحي بأي بوادر للتمرد، فقد انحدرت من عائلة متواضعة شأنها شأن معظم الأسر الفقيرة في نواحي زيد، عوائل همها الأكبر هو جلب قوت اليوم وحماية أبناءها وتربيتهم. كبرت خربوشة واشتد عودها، وشحُذ لسانها فبات ينطق بالكلام الموزون أو بالأحرى ما يسمى بالدارجة المغربية “العيطة”. 

القايد عيسى بن عمر

لا يمكن أن نعي حجم ثورة خربوشة وتأثيرها دون أن نتعرف على خصمها القائد عيسى ونحيط بالسياق التاريخي لقصتها.

فلولا هذه القبيلة وثورة أهلها لما اشتهر هذا القائد كل هذه الشهرة. عيسى بن عمر، أحد أهم القياد الذي مروا في تاريخ المغرب، وواحدا من كبار “القيّاد” الجهويين، ولد سنة 1842 من عائلة راكمت الثروة من التجارة والارتباط بالسلطة والقيّادة. تدرج عيسى بن عمر في سلم السلطة إلى أن أصبح قايدا على منطقة عبدة سنة 1879. 

لم يكن المغرب حينها في أفضل أحواله. فقد عرف المغرب في تلك الفترة أزمة مالية جد خانقة بل ومهددة لغزو استعماري. فبعد وفاة السلطان الحسن الأول سنة 1894، تولی ابنه المولى عبد العزيز العرش وهو طفل في الحادية عشرة سنة من عمره، الشيء الذي جعل الصدر الأعظم الوزير أبا احماد يغتنم الفرص ويعيث في الأرض فسادا وطغيانا. لم تستطيع القبائل الصبر على المذلة والفقر، فاختارت سبيل الثورة والتمرد. وما زاد الطين بلة هو نهج المخزن سياسة فرض الضرائب على المواطنين عله بذلك ينقذ خزينة البلاد المفلسة، الأمر الذي أشعل نيران “السيبة” في نفوس الرعية. 

تدهور حال المواطنين، وبطش القياد أيما بطش، ففُرضت ضرائب قاسية، وسُلبت الأراضي وفُقرت القبائل، في حين أن أصحاب السلطة كانوا يعيشون في نعيم ورخاء. ذاع صيت القايد عيسى بن عمر، إذ كان هو الحاكم المطلق في المنطقة موسعا دائرة نفوذه بها، وبالتالي أصبح يضرب به المثل في القمع والاستبداد إلى درجة أن المؤرخ أحمد بن محمد الصبيحي أفرد له كتابا خصصه فقط لجبروته وطغيانه، تحت عنوان “عیسی بن عمر وفظائعه”، معتبرا إياه الحجاج بن يوسف الثقفي الثاني لشدة ما سفك من دماء وأزهق من أرواح.

ياعيسى بن عمر.. ياوكال الجيفة.. يا قتال خوتو

عايشت قبيلة “خربوشة” أي فخدة ولاد زايد الويلات، إذ كانت ظروفهم المادية والاجتماعية في حالة مزرية. جرد القائد أهل القبيلة من أسلحتهم وانتزع منهم أراضيهم وماشيتهم بل وكلفهم برعي ماشيته الخاصة. عذب المعارضين وزج الباقي وراء قضبان السجون، لدرجة أن العديد من رجال القبيلة هربوا بشكل جماعي، الفترة التي تسمى بعام الهربة. لقد ذاق ولاد زايد طعم الذل والتهميش، فما كان لهم إلا أن ينتفضوا في وجه الظلم. 

ثارت قبيلة ولاد زيد، واحتجوا ضد الظلم والجور الذي سلط على قبيلتهم كاللعنة. بينما كان الرجال يحاربون بالسلاح والخيل، تسلحت خربوشة بلسانها ونظمت من الكلام الموزون مايحمس الجنود ويشعل فتيلة الشجاعة في نفوسهم. كانت تلتقي بهم ليلا في الغابة حين كان يستريحون بعد يوم من الكر والفر، فكانت تحمسهم بشعرها وتحثهم على عدم الاستسلام. كانت حويدة تردد كلماتها على شكل عيطة تتغنى بها وسط أفراد فخدة أولاد زيد، ثم تنتقل بسرعة من مكان إلى آخر فيرددها الناس فرادى وجماعات، وهذا ما أعطى نفسا ودعما للانتفاضة، واستعادوا سندهم المادي والمعنوي.

طالت مدة التحارب، ففي ظل هذه الفوضى العارمة، دعا باشا المدينة السيد حمزة بنهيمة زعماء أولاد زيد للاجتماع بالمخزن التاجر “خورخي” الاسبنيولي بالرباط قصد عقد الصلح بين المتقاتلين، وقد حضر الجميع. وبنية الصلح، طلب من قبيلة ولاد زياد الحضور متجردين من أسلحتهم، وهذا ما حدث بالفعل، فلم يكونوا عالمين بالنية المبيتة للقايد، وأنهم سيلقون حتفهم هناك ذلك اليوم. إلا أن القايد عيسى ورجاله نهجوا خطة الغدر، فسرعان ما أشهروا أسلحتهم وقتلوا أسياد القبيلة وأسفكوا دماء الرجال هناك. وحتى الفارين منهم، ماتوا بسبب التدافع القوي أمام أبواب المدينة المغلقة، وهو العام الذي عرف بعام الرفسة.

اغتيال القصيدة

خضعت الحرب للمنطق، فلا يتساوى من حضر بنية الفتك ومن أتى عاريا من سلاحه يترجى الصلح. كانت كفة الحرب لصالح القايد عيسى، فبعدما انتقم من رجال قبيلة ولاد زايد، حان الوقت ليتفرغ لقضية تلك المرأة التي ماتزال تزعجه بأشعارها.  

خافت خربوشة، وعلمت أن دورها في العقاب قد حان، فلم يكن أمامها  من خيار سوى مغادرة قبيلتها والاحتماء في  وجهة أخرى علها يد القائد الباطش لا تطاله. اختارت حريودة الهروب لقبيلة أخوالها، قبائل ولد سعيد بالشاوية ناحية سطات. وبالرغم من كل تلك الفوضى وحالة الخوف والترقب، إلا أن خربوشة أخدت على عاتقها إيصال صوت كل من قتل و هجر من مأواه بسبب تعسف القايد، فكانت مستمرة في ترديد مقاطع من فصول عيوطها أمام أولاد سعيد، ونقلت معها إلى هناك التفاصيل الدقيقة لهذه «الملحمة»، وفضحت كل أشكال العنف والتنكيل والقتل الذي تعرضت له قبيلتها، فقالت:

لعبت “خربوشة” دور الصحافي، فنقلت كل أخبار مجزرة إخوانها وأولاد قبيلتها للقبائل المجاورة، وحكت لهم عن كل الانتهاكات التي مارسها القائد عيسى بن عمر في حقهم. وبالرغم من أن القائد قد ضرب بيد من حديد الرؤوس الكبرى التي تزعمت الانتفاضة، إلا أن صدى عيوط خربوشة مايزال حيا، فكان كلما ولى وجهه إلا ويسمع أحد يرددها.

جن جنون القائد بن عمر، واستشاط غضبا شديدا، غضب لن يطفئه إلا الحصول على رقبة خربوشة. بحث عنها في كل بيت وخندق، حتى وصل إليها فأرسل إليها جماعة من أتباعه تمكنوا من الظفر بها واقتيادها مكبلة مقهورة بين أيدي القايد عيسى بن عمر، الذي أمر بسجنها في الحين وتعذيبها. لذلك، لا نستغرب من إشارة الصبيحي الذي يقول بأنه بحث ونقب كثيرا عن الكلمات التي كانت ترددها حويدة، لكنه لم يعثر إلا على النزر القليل منه، مما يدل على أن القايد عيسى قد تمكن بسطوته وجبروته من أن يستأصل الكثير من عيوط الشيخة، بعدما أمر بقتلها، وإسكات صوتها نهائيا.

خربوشة في عداد القتلى

 لم يدون الكتاب والمؤرخون عاقبة “خربوشة”، فالروايات في هذا الصدد متعددة. فقد اكتفى أحمد بن محمد الصبيحي بالإشارة إلى أن القايد عيسى بن عمر أمر بقتلها، دون أن يفصل في الطريقة أو الشكل. ولأن حكاية خربوشة كانت حبيسة الذاكرة، فقد ذهبت بعض الروايات الشعبية إلى أن القايد عيسى بن عمر أمر بإشعال النار حول الغرفة التي كان يعتقلها فيها، وحكم عليها بالحرق!، وبعض الروايات تقول أن القائد قد دفن خربوشة وهي حية ترزق، و البعض ذهب مع فرضية أن الجلاد الخادم عند القائد هو من تفنن في تعذيبها بالسوط إلى أن أزهق روحها. 

على عكس الصبيحي، الذي يشير إلى ثبات خربوشة في سجنها، يشير إبراهيم كريدية إلى أنها استرحمت القائد عيسى بن عمر دون جدوى، لينتهي بها المطاف قتيلة. ثم يؤكد أن الرواية الشعبية ذهبت مذهبا آخر في تناول نهاية الشيخة خربوشة، فتذكر أنها ما تركت بابا يمكن منه الولوج إلى قلب القايد إلى طرقته، طلبا لصفحه ورحمته. فمرة استعطفته بواحدة من أعز بناته، قائلة:

تأثير العيطة على المشهد السياسي

يعد فن العيطة فنا ضاربا في التاريخ المغربي، فهو ثراث شفهي كان له تأثير واضح خاصة في فترة الاستعمار الفرنسي. فأصل كلمة “عيطة” في العاميَّة المغربيَّة يعود إلى “العياط”، وتعني النداء والاستغاثة بصوت عالٍ. كأن شيوخ وشيخات العيطة حين يغنون فإنهم ينادون على الآخر لسماعهم وللاستماع للأخبار الجديدة، كما ينادون على أسلافهم من أجل مد يد العون إليهم والتبرُّك بهم. لقد لعبت العيطة دور المتنفس للناس في تلك الحقبة، فكانت مساحة للتعبير عن الواقع القروي البسيط ومعاناته في بنية جغرافيَّة تعاني الإقصاء وصعوبة العيش.

لم تدون كتب التاريخ الشيء الكثير عن فن العيطة، فظل ثراثا شفويا ينقل من جيل لجيل، ولم تبدأ الأقلام بالاهتمام به إلا مطلع ثمانينيات القرن الماضي.  في هذا الصدد يصف الكاتب المغربي حسن نجمي الذي يُعدّ أهم الباحثين في هذا المجال في كتابه “غناء العيطة الشعر الشفوي والموسيقى التقليديَّة في المغرب”، فن العيطة بأنه “ذلك النفس الساخن الصاعد من الدواخل، عبر الأصوات البشريَّة والإيقاعات والألحان الآسرة، هو الذي أسعف على ميلاد شعر شفوي ظل يخرج من الجراح الفرديَّة والجماعيَّة مثل النزف الدافئ، ويلتصق بذوات وبمصائر الفلاحين والمزارعين والرعاة، والقرويين عموماً”

و يذهب إبراهيم کريدية، في كتابه «القائد عیسی بن عمر وثورة أولاد زید وواقعة الرفسة»، إلى القول “كانت في حمى ثورة بني قومها، تجلس الشيخة خربوشة إلى مقاتلي أولاد زيد ليلا حين يخلدون للراحة بعد عودتهم من معارك الكر والفر، فتنشدهم قصائد (عيوط)، كلها تحميس لهم وتحريض على متابعتهم القيام ضد السي عیسی تحثهم فيها على الصبر والثبات والمبادأة في الهجوم والطعان. وفي نفس الآن، كانت تكيل للقائد هجوا قاسيا وبذيئا، ولم يكن نظم الشيخة حويدة وغناؤها يبقى حبيس رواة أولاد زيد، بل كانت تشیع قصائدها وتنتشر بين قبائل عبدة بل تتسرب حتى إلى قبائل الجوار. فكان الناس يرددونها فرادی وجماعات، ما أعطى لهذه الثورة دعما معنويا كبيرا، قلما ظفرت به قبيلة أخرى”

تقول خربوشة في إحدى قصائدها، محمسة مقاتلي أولاد زيد من أجل الحرب، وتدعوهم إلى التجلد حتى الوصول إلى عقر دار القائد عیسی بن عمر:

الشيخة ليست راقصة

لعبت الشيخة دورا جوهريا في حقبة الاستعمار وما قبلها من تسلط للقياد وبطشهم على الضعفاء والمقهورين، فكانت الشيخة آنذاك تتسلح بلسانها الذي ينظم الكلام الموزون وتعبر عن معاناتها ومآسي قبيلتها بالشعر والنظم. وارتباط فن العيطة بالأرض وبالقبيلة جعله مرآة تعكس ما يعتمل داخل المجتمع من قضايا ومشكلات وهموم الناس.

فلقب “الشيخة” كان يعد آنذاك تشريفا رفيعا لا يمنح إلا لمن تستحقه، فالشيخة هي امرأة حرة مثقفة، ذات صوت شجي يطرب الآذان ويحمس الأفراد ويوصل المعاناة بصدق. فما كانت الشيخة ترقص في مجالس الرجال ولا كانت تعرض جسمها ومفاتنها للجمهور، بل بالعكس، فالشيخة سيدة ذات كاريزما، تتفن في ارتداء القفاطين المغربية العتيقة، ولا تقول كلاما ناقصا.

إن النظرة الدونيَّة التي طبعت فن العيطة كانت أساسا نتيجة الاستعمار الفرنسي. فقد حاول المستعمر جاهدا تشويه صورة الشيخة والحط من قدرها ومكانتها أمام الجميع، وجعلها حكراً على أوكار الدعارة، إلى جانب أن الباشوات والقواد كانوا يتباهون بامتلاكهم الشيخات. فقد شكل فن العيطة تهديدا للمستعمر، وذلك لقدرته على تجييش الشعب وتوجيه الرأي العام وإيصال الأخبار للقبائل المجاورة وتحميس الأفراد على المقاومة باستماتة، إذ كانت الشيخة تستعمل رسائل مشفرة ومعاني لا يفهمها إلا المقاومون. لم تكن الشيخة تخاف ولا تخشى على نفسها، بل كانت تحمل على عاتقها مسؤولية إيصال صوت الحق إلى الناس مهما كلف الثمن.

أيا كانت حقيقة قصة موت الشيخة خربوشة، إلا أنها تركت خلفها صورة للمرأة المغربية الحرة، التي تدافع بالكلمة وتضع روحها على كفها وتمضي في الحياة نضالا. ماتت خربوشة لكن عيوطها لم تمت، وتركت إرثا ثقافيا غنيا يشهد أن الشيخة لا تبيع لحم جسدها للقياد، ولا ترقص أمام الرجال ترجيا لبعض الدراهم التي ترمى عليها أو لبعض الأوراق الزرقاء التي تعلق في صدرها. الشيخة مقاومة دافعت عن حق قبيلتها بسلاح الكلمة، كما تقول خربوشة: “هاك الدق بلا قرطاس”.

إقرأوا أيضاً:

من نفس المنطقة:

magnifiercrosschevron-down linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram