الرئيسية

بصمات نسوية – آسية الوديع.. “أم السجناء” التي ناضلت من أجل وطن يتسع للجميع

هي المناضلة آسية الوديع، أو بالأحرى "ماما آسية" كما يحلو للكثيرين مناداتها. سيدة أثرت في حيوات الكثير من المعتقلين خاصة الأحداث منهم، ومثلت لهم بصيص الأمل الذي تشبثوا به ليعيشوا حياة أفضل خارج قضبان السجن.

مريم أبروش

بمدينة آسفي، سنة 1949 فتحت آسية الوديع عينيها لأول مرة لتجد نفسها في حضن عائلة لها تاريخ طويل في المقاومة والنضال. فالأب هو محمد الوديع الآسفي، وهو المناضل، الشاعر، الكاتب الصحافي والمعلم، أما الأم فهي ثريا السقاط، الأديبة الشاعرة القاصة، وهي الزوجة التي أبت إلا أن تشارك النضال مع زوجها من أجل مغرب الكرامة والديمقراطية. كانت آسية الفرحة الأولى لوالديها، ثم تلاها بعد ذلك ثمانية أشقاء وشقيقات.

عشقت آسية الأدب والكتاب، فكانت قارئة نهمة. وفي حوار لموقع هوامش مع صلاح الوديع، أخ آسية الوديع، يحكي لنا صلاح “كنا كلما اقتنى لنا الوالد كتابا، نتسابق على من يقرؤه أولا، وكانت ورغم مسؤوليتها في مساعدة أمي في أشغال البيت، إلا أنه لا يمكن لها أن تفوت الاستماع لسهرة أم كلثوم  مساء كل جمعة من كل شهر، فقد كانت عاشقة للأدب والموسيقى”.

وفي حوار مع قناة الجزيزة، تقول وفاء الوديع أخت آسية، “كانت آسية حريصة على اقتناء فيلم لنشاهده كل خميس، فقد كانت فنانة تعشق كل الفنون” . كانت آسية تحب قراءة الكتب والجرائد، وكان لها راديو صغير يلازمها لتستمع من خلاله إلى الأخبار وما يدور من أحداث في البلاد.

السلام على الملك

طابور طويل، ومسؤولون متسارعو الخطى وعلى أهبة الاستعداد للحدث العظيم، فملك البلاد سيزور المؤسسة السجنية اليوم. الكل يتسابق ليتقدم الجميع في صف طويل أغلبه رجال، تتوسطهم امرأة خمسينية العمر، قصيرة القامة، لا يتجاوز طولها المتر والخمس والخمسين سنتيمترا، تقف بكل ثقة واعتزاز. وصل دور السيدة القصيرة، اقترب الملك للمصافحة، إلا أنها وسط دهشة من الجميع لم تنحني، ولم تقبل اليد. وقفت آسية منتصبة القامة، عيناها مثبتتان على عيني الملك، محتضنة يده بين يديها بحرارة، مع ابتسامة صادقة تعلو محياها تشع ثقة وتقديرا.  اندهش الجميع من تصرف آسية، وعوتبت بشدة من طرف زملائها، فمن ذا الذي يجرؤ على رفض الانحناء لملك البلاد، وهم لم يتخلصوا بعد من مخلفات الرعب والخوف من النظام الملكي الصارم لحقبة الحسن الثاني.

في المساء، تلقت آسية استدعاء للحضور للقصر الملكي، وفي هذا الصدد، تروي زميلتها في العمل المدني الدكتورة التيجانية فرتان “لقد عشنا إرهابا حقيقيا آنذاك، فقد كنا نتساءل ما إذا كانت سترجع آسية أم لا، لأننا كنا ما نزال قريبي العهد بحقبة الملك الحسن الثاني، فمن يؤخذ لا يعود”. ساد الخوف أسرتها وتباطأ الزمن فجأة، الكل يترقب ما إذا كانت آسية سترجع لبيتها سالمة أم أنها قد ساقت نفسها بنفسها إلى قدرها المحتوم. 

لكن حدث ما لم يتوقعه أحد، فالملك الشاب قد رحب بآسية، واحتفل بها في القصر واحترم فيها شجاعتها وعدم خضوعها، بل وطلب منها مرافقته ووزير عدله في زيارة تفقدية غير معلنة لأحد السجون. رافقت آسية الملك لداخل الزنزانات و أرته حياة المعتقلين دون زيف ولا تجميل. لم تكن آسية ذات قابلية للإخضاع، إذ أن كل تصرفاتها نابعة من اقتناع تام وواع. كانت زيارة الملك منعطفا حاسما في مسار المناضلة، فبعد الزيارة، تبرع الملك محمد السادس لجمعية مدنية ترأسها بشيك قيمته مليار درهم أنفقتها آسية في اقتناء حاجيات السجناء ولوازمهم. 

هي المناضلة آسية الوديع، أو بالأحرى “ماما آسية” كما يحلو للكثيرين مناداتها. سيدة أثرت في حيوات الكثير من المعتقلين خاصة الأحداث منهم، ومثلت لهم بصيص الأمل الذي تشبثوا به ليعيشوا حياة أفضل خارج قضبان السجن.

آسية و القضاء 

أحبت آسية دراسة الأدب، إلا أن الظروف قادتها لدراسة الحقوق. في سنة 1970 حصلت آسية الوديع على الإجازة في القانون من كلية الحقوق بالدار البيضاء، وتقلدت بذلك منصب قاضية بالنيابة العامة بالمحكمة الابتدائية بالدار البيضاء ما بين سنتي 1971 و1980. غير أن حبها للمحاماة جعلتها تنضم إلى هيئة المحامين بسطات بين سنتي 1982-1984، ثم إلى هيئة المحامين بالدار البيضاء 1984-2000 بعد قضائها لفترة تدريبية بالمدرسة العليا للقضاء بباريس.

قررت آسية تقديم استقالتها من القضاء تآزرا مع إخوتها صلاح وعزيز إثر اعتقالهما، وعلى الرغم من تلقيها، في ما بعد، لعرض تولي منصب قاضية بالمجلس الأعلى، إلا أنها اختارت أن تهب حياتها لخدمة الضعفاء وتشتغل كموظفة سامية في إدارة السجون التي اهتمت في إطارها بمراكز الإصلاح وإعادة تربية القاصرين الشباب.

لم تقتصر آسية على مسؤوليات المهنة فحسب، بل كانت عنصرا فاعلا في المجتمع المدني، فقد شغلت منصب عضوة مؤسسة وكاتبة عامة للمرصد المغربي للسجون. كما تعد عضوة نشيطة في العديد من منظمات المجتمع المدني على رأسها مؤسسة محمد السادس لإعادة إدماج السجناء، جمعية أصدقاء مراكز الإصلاح وجمعية مركز الاستماع والتوجيه للنساء ضحايا العنف.

الطفلة الجريئة

اتسمت آسية بجرأتها وصراحتها منذ الطفولة، يحكي صلاح الوديع، “كانت آسية جريئة منذ الصغر، ولا تسكت على كلمة حق أبدا، بل وكانت تجادل وتدلي برأيها وهي لم تتجاوز العاشرة من عمرها بعد”. فقد تأثرت آسية بوالديها أيما تأثر، وتشربت من أبيها مبادئ النضال والتمرد على الظلم والاستبداد، وأخدت من أمها ثريا حب الأدب والشعر. 

تميزت آسية بذكاء متقد وروح إنسانية عالية، فلم تنتظر أن تكبر حتى تتخد مواقف جريئة سابقة لعمرها. ففي حادثة لم تتجاوز فيها بعد العشرة ربيعا يحكي صلاح “في طريقها للمدرسة في أحد الأيام، صادفت آسية طفلة حافية القدمين، فما كان منها إلا أن أتت بها إلى المنزل كي تمنحها حذاء جديد لم ترتديه بعد”. كانت هذه واحدة من المواقف الإنسانية الكثيرة التي أبانت فيها الطفلة الصغيرة عن حب لا مشروط تجاه الآخر وتعاطف لا متناه مع معاناة أي إنسان.

آسية ورائحة السجن

كان لتاريخ عائلتها تأثير كبير على شخصية آسية ومسارها المهني. فالاعتقالات المتعددة التي تعرض لها والدها وإخوتها في مختلف فترات حياتها قد رسخت في شخصية آسية حساسية تجاه السجن وتمردا على الظلم. 

كانت الأم ثريا السقاط حريصة على اصطحاب آسية لزيارة أبيها أثناء فترة اعتقاله وهي ما تزال طفلة الأربع سنوات. يحكي صلاح الوديع “أثناء إحدى الزيارات للوالد، رافقت آسية أمي وهي ماتزال طفلة صغيرة، وبطلب من أبي سُمح له بمعانقة ابنته، ولأن آسية كانت صريحة فسألته بكل عفوية “لماذا أشم فيك رائحة غير مستحبة؟”، كانت تلك رائحة السجن، وربما منذ حينها فهمت آسية الظروف والأوضاع الصعبة التي يمر بها المعتقلين وزرعت فيها شوكة النضال لتأخد على عاتقها هم الدفاع عن حق الضعفاء في حياة كريمة”. 

ماما آسية

بالرغم من نظام السجون الصارم والصلب، انخرطتْ آسية في العمل الإنساني وكانت تعطي فيضا من المحبة لا حدود له. وقد تمكنت آسية الوديع من زعزعة ذلك النظام المبني على القمع والمحسوبية وتجريد السجناء من كرامتهم وآدميتهم، فدخلت للسجون وتمكنت من التواصل المباشر مع المعتقلين.

كانت آسية تستمع لكل سجين بكل إمعان واهتمام، وتأخذ كل مشاكلهم بعين الاعتبار وتسعى جاهدة لحلها بكل الإمكانيات التي تملكها، فقد كانت تضحي براحتها ووقتها من أجل مساعدة طفل سجين.

آمنت آسية بأن مبدأ حرمان الطفل من حريته لا يعني حرمانه من كرامته، وقد سعت إلى حفظ كرامة السجناء و تمكينهم من الالتحاق بالتكوين المهني وحثهم على تطوير مهاراتهم وقدراتهم. كما كانت أول من زود المؤسسات السجنية بالمجلات وأجهزة التلفاز والأفلام وغيرها من وسائل التثقيف والترفيه.

شغف آسية بعملها كان منقطع النظير. يحكي صلاح “بعد تقلدها المسؤولية لم تعد آسية تقضي معنا الأعياد وإنما تقضيها مع السجناء، وتبذل جهدها لجمع التبرعات لتحضر لهم خرافا وعجولا تنحر لهم في السجن، وتعوضهم بذلك عن الحرمان العائلي”.

وبالرغم من انشغال آسية الدائم، إلا أن حب عائلتها لم يتزعزع قيد أنملة. في هذا الصدد يضيف صلاح “لم نحس أبدا أن نضال آسية قد سرقها منا، أو أنها تفرط في مسؤوليتها كابنة وأخت وأم، بل كانت ذات طاقة وقلب كبيرين، إذ أن مسألة التطوع والنضال هي أمور بديهية في عائلتنا، فلم تكن قلة اللقاءات مشكلا، فما يربطنا أكبر وأقوى” ويضيف “آسية هي مصدر فخر لنا، واستماتتها في خدمة الصالح العام مدعاة للتقدير” 

شهادات في حق آسية

يقول غسان نجل آسية في حوار له مع قناة الجزيرة “إنه الحظ العظيم الذي جعلني أكون ابن ماما آسية”

كانت لآسية قدرة على حب الجميع بدون أي حواجز بشهادة كل من عرفوها. يحكي صلاح” بالرغم من أني في فترة كنت غير متفق مع الوالد، إلا أن قلب آسية كان يجمع حبنا جميعا دون أي تمييز، فعلاقتنا تفوق الأخوة، هي علاقة انصهارية، إذ كانت لها قدرة على فهمي دون أن أتحدث حتى، لدرجة أنهم كانوا يلقبوننا بالتوائم “.

وفي إحدى تدوينات الأخ صلاح كتب عن آسية قائلا: “أنت روح ترفرف بين البشر وأنا لا أتمالك نفسي من حبك. وأشكر الله أن جعلك في كل منعطفات حياتي. دموعي تسبقني إليك وأداريها فلا أستطيع وأعلن استسلامي. أنظر إليك فأتيقن أن الخلود امتدادٌ عموديٌّ لا أفقي… الخلود أن نعيش لحظة وجودنا الإنساني إلى آخر نبض في العروق ونحن نعلم، ونحن ندرب”

باسم العائلة، تحدث يوسف الشهبي عن آسية الأم وقال “إن البسطاء يحسون بالصادقين.. بعيدا عن التعاطي مع القضايا المغلف بالرياء”، مذكرا بتاريخ أسرته الحافل بالصراع من أجل المساواة. يوسف قال أن البلاد تبكي رحيل والدته مما جعل الأسرة غير نادمة على تقاسم حبها مع الغير.

و يقول عبد العزيز بلماحي، المنسق العام وعضو المجلس الإداري لمؤسسة محمد السادس لإعادة إدماج، “سوف يكون فيه شيئ من المبالغة إذا تجرأت وقلت أننا نشتغل بنفس الحماس ونفس نكران الذات مثل ما كانت تشتغل به الأستاذة آسية”

شهادات تبرز  مدى تضحيات آسية الوديع و نضالها من أجل ضمان حياة تحفظ كرامة المعتقل و تمكنه من الاندماج بشكل سلس داخل المجتمع. 

دقت ساعة الفراق

تمكن مرض عضال من جسد آسية، غير أن روحها ما تزال حرة معافاة. لم يعقها المرض من الاستمرار في متابعة المساجين وخدمتهم، فبالرغم من أنها كانت على فراش المرض، إلا أنها كانت توصي إخوتها باستقبال مكالمات السجناء وتسجيل مشاكلهم إلى أن تستفيق فتحرص على حلها.

“أتمنى أن يمهلني الله قدرا من الوقت أستطيع فيه أن أكمل رسالتي، وحتى إذا حضر الموت، أتمنى أن لا يكون مناسبة ألم” تقول آسية .. . غير أن الموت إذا قدم لا ينتظر. فقد انتقلت آسية الوديع الآسفي إلى ذمة الله في تمام الساعة الثالثة صباحا من يوم الجمعة 2 نونبر 2012، على إثر مضاعفات مرض عضال لم ينفع معه علاج. وانطلق موكب جنازتها من بيت أبيها المناضل الوديع الآسفي، بحضور شخصيات بارزة في الساحة السياسية والفنية والرياضية وكذا عائلات المعتقلين و الأقارب من كل مدن المغرب. ووريت الثرى بمقبرة الشهداء بمدينة الدار البيضاء.

تقول آسية “من الأنانية أن يعيش الإنسان لنفسه فقط”.

استطاعت آسية بقلبها المحب وقوة شخصيتها وتفانيها في عملها إلى بصم المشهد الحقوقي المغربي بنضالها من أجل إعادة الاعتبار للسجناء وإدماجهم داخل المجتمع مع الحفاظ على كرامتهم وكل حقوقهم المشروعة. 

 “الطريق طويل وشاق، علينا جميعا أن نستوعب هذا لنقف في وجه كل خرق لحقوق الانسان ولنحقق الكرامة والعزة والحقوق التي ناضل من أجلها جيل كامل من شباب هذا البلد”. هذه كانت وصية المناضلة آسية قبل أن ترحل عن الحياة بعد أن سخرت وقتها وطاقتها وحياتها من أجل أبناء وطنها. مناضلة جمعت بين حب الأم اللامشروط الذي تكنه للجميع وبين تضحية الأب الذي يهب حياته فداء لأبنائه، وكانت بالفعل أما لكل أطفال المغرب.

وداعا “ماما آسية”!

إقرأوا أيضاً:

من نفس المنطقة:

magnifiercrosschevron-down linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram