22 دجنبر/ديسمبر 2019. تدعو نبرة صوت إحسان القاضي الدافئ إلى الإصغاء فوراً. مديرٌ للمنبرين الاعلاميين المستقلين “راديو إم” (Radio M) و”مغرب إيمرجون” (“المغرب الكبير الناشئ”)، يتولّى الصحافي مهمة مقدم ومنشط برنامج “ضيف المباشر” (L’invité du direct) “على راديو إم”. على الهواء، يبدو مسروراً باستقبال ضيف اليوم.
«الأصدقاء مستمعي ‘إذاعة إم’، يسرّني أن أرحّب هذا الصباح، بضيف المباشر، الصّحافي المغربي المستقل عمر الرّاضي». بهذه الكلمات افتتح إحسان حواره، قبل أن يفتح نقاشاً حول واقع صحافة التحقيق في المغرب الكبير؛ المغرب على وجه الخصوص؛ وينتقل إلى مشروع التحقيق الذي يشتغل عليه عمر الراضي والمتعلق بعمليات نزع الأراضي في المملكة الشّريفة. كعادته، يدخل عمر مباشرة في صلب الموضوع دون أي التفاف : «أشتغل على تحقيقٍ حول قبيلة ‘أولاد سبيطة’ التي طردتها السلطات من أراضيها الزراعية بشمال العاصمة الرباط. تمّ تدمير الغابة وحلّ محلها ملعب للغولف. قاموا أيضاً بخصخصة الشاطئ (…) وبناء المئات من الفيلات والشقق الفاخرة. نحن أمام منطق افتراس عقاري».
أياماً بعد هذا اللقاء، لدى عودته إلى المغرب، استدعت الشرطة المغربية عمر الراضي واعتقلته بداعي تغريدة نشرها أشهراً من قبل على حسابه في تويتر ينتقد فيها قاضيا، بيد أنّ حملة التضامن الواسعة التي حظيت به قضيته أدّت إلى الإفراج عنه أسبوعاً فقط من اعتقاله. في تصريح لـ”قصص ممنوعة” أكّد عمر الرّاضي أن اعتقاله أتى «عقاباً له على مجموع مقالاته وأنشطته». لم يكن يتخيل ربما، وهو المعتاد على انتقاد جهاز الدولة وتتبع العلاقات المتداخلة بين المال والسلطة في بلاده، أن المشاكل ليست سوى في بداياتها.
قبل اعتقاله، كان عمر الراضي مُنكبّاً على التحقيق حول انتهاكات الحقوق العقارية في المغرب، خاصة تلك التي تتمّ عن طريق التلاعب بمفهوم “نزع الأراضي من أجل المنفعة العامة”. بفضل منحةٍ تحصل عليها سنة 2019 من مؤسسة بيرثا (منظمة غير حكومية جنوب أفريقية تسعى إلى «دعم النشطاء والصحافيين والمحامين المدافعين عن العدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان»)، كان ينوي أيضاً إطلاق موقع على شبكة الإنترنت (“أراضي”) باللغة العربية، لتجميع كل المعلومات المتعلقة بسياسات العقار في البلاد، يبد أن هذا المشروع لن يُسمح له أن يرى النور أبداً. ففي يونيو/حزيران 2020، كشفت منظمة العفو الدولية (أمنستي) و”قصص ممنوعة” أن هاتفه كان مخترقا ببرنامج التجسس “بيغاسوس”، لتبدأ محنة طويلة ستؤدي إلى الحكم عليه، في 3 مارس/آذار 2022، بالسجن ست سنوات بتهمة “المسّ بالأمن الداخلي للدولة” وتلقي “تمويل من الخارج” وأيضاً “الاغتصاب” – وهما قضيتان منفصلتان، تم التحقيق والبث فيهما معاً.
من لندن ، أجرى عمر الراضي مقابلة مع برنامج “Democracy Now!” في عام 2020 (الصورة: democracynow.org)
في القضية الأخيرة، تتهمه زميلة سابقة له في جريدة “لوديسك”، الذي اشتغل فيه عمر الراضي، باغتصابها ليلة 12-13 يوليو/تموز 2020، وهو ما ينفيه الصحافي الذي يتحدث عن علاقة رضائية. وفي القضية الأولى، يُتهم عمر الراضي بمقابلة مسؤولين هولنديين اعتبرتهم النيابة العامة (مكتب المدعي العام) “ضبّاط مخابرات”. وتشمل عناصر الإدانة الأخرى مهاماً أنجزها الصحافي لفائدة شركتين بريطانيتين للاستشارات الاقتصادية (مما جعله يُتّهم بـ”تزويدهما بمعلومات ذات طابع استخباري”)، ومنحة مؤسسة بيرثا لمشروع تحقيقه حول نزع أراضي الجموع. “حكمٌ جائر” حسب تقدير منظمة “هيومن رايتس ووتش” التي اعتبر مدير التواصل والمرافعة داخلها، أحمد رضا بن شمسي، أن «تُهم التخابر غير مقبولة لأنها لا تستند إلى أي شيء. أما تهمة الاغتصاب، فكانت تستحق محاكمة عادلة للمتهم والمشتكي على حد سواء».
في الواقع، تُدين العديد من المنظمات غير الحكومية والتحقيقات الصحفية توظيف النظام المغربي لـ”مكافحة العنف الجنسي” لأغراض سياسية وأمنية وكذريعة لإسكات المعارضين. إلى جانب عمر الراضي حوكم صحافيون آخرون بتهم الخيانة الزوجية أو الإجهاض أو ممارسة الجنس خارج إطار الزواج أو الاعتداء الجنسي، وتهم أخرى. وفقا لإحصاء منظمة مراسلون بلا حدود، يقبع حاليا 9 صحافيين و3 متعاونين في السجون المغربية.
تأخذنا أحد الخيوط التي تتبعها الصحافي، قبل أن تبدأ مشاكله القضائية، إلى أرض ساكنة دوار أولاد سبيطة؛ قريةٌ تقع على مسافة خطوات فقط من بحرٍ ساحر الجمال على بُعد حوالي ثلاثين كيلومترا شمال الرباط. اشتد الطّلب العقاري تدريجياً على هذه المنطقة وهو ما فتح شهية البعض، خاصة المستثمر العقاري شركة “الضحى” الذي وضع هذه الأراضي نصب عينيه ابتداء من خريف عام 2006 لإنجاز مشروعه “شاطئ الأمم”.
إحدى مظاهرات “أولاد سبيطة” ضد عملية نزع أراضيها قرب الرباط – 2019 (تصوير : عمر الراضي)
وقتاً قصيراً قبل اعتقاله، كتب عمر الراضي في مسودة مقاله أن «المكان يُجسّد فشل التنمية وسوء التنمية، ولكن أيضا الظلم والافتراس». على موقعها على الإنترنت، تفضّل “بريستيجيا”، الفرع الرّاقي لشركة “الضحى”، التحدث بافتخار عن «فضاءٍ استثنائي للعيش صيفاً وشتاءً». رغم محاولاتنا المتكررة والمُلِحّة، لم يستجب مسؤولو التواصل في الشركة ولا محاموها لطلباتنا من أجل إجراء مقابلة.
في وقت إطلاق مشروع “شاطئ الأمم”، كان الرئيس التنفيذي لشركة “الضحى”، أنس الصفريوي واحداً من أبرز أثرياء المغرب المقرّبين من محيط الملك محمد السادس. بشكل أكثر تحديداً، كان رجل الأعمال مقربا من منير الماجيدي، السكرتير الخاص للملك والمسؤول عن إدارة ثروته، الذي برز اسمه في “وثائق بنما”، عبر شركتين كان يديرهما، لكن “تم إنشاؤهما بطريقة شفافة وفي احترام تام للقوانين المغربية والأجنبية” وفقا لمحاميه.
شكّل قرب أنس الصفريوي من المحيط الملكي مصدر ازعاج لبعض منافسيه، كرجل الأعمال ميلود الشعبي، الذي ذهب قيد حياته إلى حدّ اتهام شركة “الضحى” بالاستفادة من امتيازات دعم الدولة”. في تلميح يكاد يكون صريحاً، هاجم الشعبي من وصفهم بـ”أولئك الذين يحظون بأراضٍ وعقارات مقابل أسعار رمزية”. في عام 2013، ذهب ابن عم الملك محمد السادس، الأمير هشام، في نفس الاتجاه عندما أكّد بدوره أن شركة الضحى «على صِلة بالقصر».
إذا كان أنس الصفريوي قد فقد هذه الحظوة سنتان بعد ذلك، إلّا أن شعبيته داخل المحيط الملكي في سنة 2007 كانت لا تزال في أوجها، وهو ما يفسّر إطلاق مشروع “شاطئ الأمم”. خلال هذا العام بالضبط “بدأت شركة الضحى تهتم بأرضنا”، يتذكر محمد بودومة، أحد السكان الذين خاضوا المعركة ضد الشركة، في تصريح لـ فرانس 24 في فبراير/شباط 2017. « تواصل مسؤولو الدولة مع قبيلتنا من أجل شراء الأجزاء الساحلية. قام مندوبون لم نخترهم بالتفاوض نيابة عنا مع وزارة الداخلية التي تملك الأرض، وفقا لقانون موروث عن الحقبة الاستعمارية، إذ لا نملك نحن سوى حق الاستغلال. بادعائهم أن هذه الأراضي، على طول السّاحل، سيشتريها الملك، خَدَعَنا هؤلاء المندوبون. في الحقيقة تم بيعها لشركة “الضحى” حتى تُنفّذ مشروعها “شاطئ الأمم” ».
صورة مأخوذة من مقطع فيديو التقطه عمر الراضي في ملعب الجولف “شاطئ الأمم” بالقرب من الرباط عام 2019 (الصورة: عمر الراضي)
شكّل هذا التلاعب نواة التحقيق الذي كان عمر الراضي يشتغل عليه. في سنة 2020، لخّص الصحافي لمؤسسة “بيرثا” العملية قائلاً : « ’أولاد سبيطة‘ قبيلة من الفلاحين تعيش في مكان جميل بالقرب من الرباط. في أحد الأيام تلقوا إخباراً بمصادرة أراضيهم لكن دون أن يُطلب منهم المغادرة. أوضحت لهم السّلطات أن صاحب الجلالة بحاجة إلى هذه الأراضي. وبما أن السكان المحليين صدّقوا أن الملك يريد هذه الأرض من أجل مصلحة الوطن، فقد وافقوا على ذلك وغادروا من تلقاء أنفسهم»، قبل يفطنوا للخدعة عندما رأى «أفراد القبيلة أن من أخذ الأراضي ليس سوى شركة خاصة ».
نساء دوار ولاد سبيطة في الصف الأول في المظاهرات. لديهن الكثير ليخسرنه أكثر من الرجال وغالبًا ما تكون تعويضاتهن أقل من تلك التي يحصل عليها نظرائهن – ماي 2017 (الصورة: هدى اوتراحوت)
تتمتع أراضي أولاد سبيطة بوضع خاص، فهي أراضي جماعية ينظمها ظهير 27 أبريل 1919 الذي يعود تاريخه إلى عهد الاستعمار. بموجب هذا المرسوم الملكي، تُعتبر هذه الأراضي غير قابلة للتصرف أو النقل أو التفويت، مع وضعها تحت وصاية وزارة الداخلية، أي من حق القبيلة الانتفاع والاستغلال دون الامتلاك. يُشرف على تدبير هذه الأراضي جمع عام من ممثلي الساكنة يُطلَق عليهم اسم “النواب” (مندوبون)، وهم نفسهم من شكّك محمد بودومة في شرعيتهم على “فرانس 24”. في الواقع، لا يُنتخب هؤلاء النواب بأي شكل من الأشكال، وإنما يتم بكل بساطة تعيينهم من قبل السلطات المحلية، وهو ما يجعلهم لا يتمتعون تقريباً بأية سلطة فعلية تسمح لهم بمعارضة أو رفض تعليمات الوزارة الوصيّة.
« بفضل وصايتها، تستطيع الدولة تعبئة جزء من الأراضي الجماعية لإنجاز مشاريع ذات مصلحة عامة »، يقول رجل القانون أحمد بن دلة. بعد الاستقلال، لم يطرأ تغيير كبير على ظهير 1919، بل على العكس، سيتحول هذا القانون الاستعماري إلى أداة في يد “المخزن” (تعبير مغربي يُستعمل لوصف النظام الإداري المركزي للبلاد، ملاحظة المحرر) تمَكّنه من حيازة وعاء عقاري منخفض التكلفة، خاصة أمام تضاؤل موارده الخاصة من العقار. «ولأن هذه الأراضي الزراعية والرعوية تمتد على مساحة تقدر بـ 15 مليون هكتار (وفقا لتقديرات وزارة الداخلية المغربية سنة 2013، ملاحظة المحرر)، كما تشرح ذلك ياسمين بريان، الباحثة في العلوم السياسية، فإنها تتعرض بشكل خاص اليوم للنهب الكثيف لصالح المشاريع الاقتصادية الواسعة النطاق ».
يتابع أحمد بنديلا موضحاً أن « التوسع الحضري جعل قيمة هذه الأراضي، التي كانت حتى الأمس ضعيفة، ترتفع بشكل فجائي وكبير. يمكن نقل ملكية الأراضي بشرطين، أن يتم لصالح هيئة عامة أو ولمشروع ذي منفعة عامة، مثل بناء مدرسة ومبان إدارية وطرق… »، وهي شروطٌ ستختفي مع تعديل القانون سنة 2019. لكن في عام 2007، عندما أسالت أرض دوار أولاد سبيطة لُعاب المنعشين العقاريين، لم تكن هناك أية مراجعة للتشريع، وبالتالي كان يستحيل على القطاع الخاص حيازة هذه الأراضي، على الأقل نظرياً.. لأن تحايلاً ماكراً، غطّت عليه الدولة، سوف تسمح لشركة “الضحى” ببسط يدها على أراضي أولاد سبيطة : بشكل قانوني قامت مؤسسة عمومية باقتناء الأرض من القبيلة، ممثلة في … كاتب الدولة في الداخلية (باسم وصاية الدولة على الأراضي الجماعية)، ثم قامت هذه المؤسسة العمومية بتسليم العقار إلى الشركة التي قدّمت مسبقاً مبلغ البيع، وهو ما وفّر لعملية الشراء ـ التي يفترض أنها ممنوعة ـ غطاءً قانونيا.
علو (يسار) يزور جارته كريمة. وقد تلقت أيضًا عدة إخطارات بالإخلاء ولكن ليس لديها مكان تذهب إليه. ترفض مغادرة منزلها على الرغم من ظروفه غير الصحية. – مايو 2017 (تصوير: هدى اوتراحوت)
تشرح متخصصة في الموضوع، طلبت عدم الكشف عن هويتها، الحيلة كالتالي : « بما أن عملية نقل الملكية بشكل مباشر إلى القطاع الخاص أمر غير قانوني، فإنها تتم أولا لصالح مؤسسات الدولة، التي تتنازل بعد ذلك عن الأرض للمستثمرين ». إنها طريقة للتحايل على القانون من أجل السماح للقطاع الخاص بالاستيلاء على الأراضي التي يُفترض أن الدولة تحميها. كان عمر الراضي بصدد تفكيك آلية اشتغال هذا التلاعب.
وفقا لوثيقة “الأمر بالحيازة” التي تحصّل عليها عمر الراضي : « بتاريخ 21 أكتوبر/تشرين الأول 2010، باعت ‘جماعة أولاد سبيطة’ ـ ممثلة بوزير الدولة الداخلية ـ لفائدة “صندوق الإيداع والتدبير” (CDG) ممثلا بمديره العام، كامل أراضي ’بلاد أولاد سبيطة’، التي تقع في سلا، بوقنادل، شاطئ الأمم، والتي تتألف من قطعة أرض عارية بمساحة تقريبية تبلغ 355 هكتارا ». في عقدٍ تلقاه المُوّثِّق في نفس اليوم، أعلن صندوق الإيداع والتدبير أن العقار المعني « تم تمليكه لفائدة شركة ’دجى الإنعاش مجموعة الضحى‘ التي دفعت مبلغ البيع بأكمله ». بمعنى آخر : لأن الجماعة لا يسمح لها القانون ببيع الحق أراضيها بنفسها، فإن الدولة ـ بحُكم وصايتها ـ هي التي تنازلت عن أراضي أولاد سبيطة لصالح صندوق الإيداع والتدبير (وهي مؤسسة عمومية) قبل أن تقوم شركة “الضحى”، التي دفعت المال مسبقاً، باستعادتها من صندوق الإيداع والتدبير. بخصوص السّعر الذي تمّت به الصفقة، لا تُشير الوثيقة لأي مبلغ.
لتتمة التحقيق يرجى الضغط على الرابط