عبداللطيف المرتضى
بتقاسيم حزينة يملأها الحنين إلى الماضي، يحكي صالح كيف كانت قريته مليئة بالمروج الخضراء وكيف كانت مرتعا للماشية دون الحاجة لتقديم العلف لها، وهو يشير بأسف بيديه الخشنتين نحو بقرته بجسمها النحيل وهي تلوك بقايا عشب متناثرة منذ السنة الماضية هناك.
لا حديث في منطقة أولاد رياح بإقليم الفقيه بن صالح إلا عن شح الأمطار. تبدو مظاهر الجفاف أكثر استفحالا في هذه المناطق التي كانت تعرف بخصوبة الأراضي وكثرة المراعي، وبإنتاجها الكبير للشمندر وزيت الزيتون. ومع استمرار هذه الحالة عرفت المنطقة حسب الفلاحين تراجعا كبيرا في حجم المياه الجوفية، حتى بدت بعض الآبار جافة بشكل كامل، ممّا دفع بالكثير منهم إلى الهجرة نحو المدن أو تغيير أنشطتهم بحثاً عن لقمة العيش.
يحكي الشرقاوي، وهو من فلاحي المنطقة، أنهم يحفرون آبارًا بعمق 250 مترًا دون أن يجدوا ماء. في حين يضيف أن المنطقة يعمل 80 في المئة من سكانها في المجال الفلاحي وتربية الماشية، وحيث أن قلة الماء لا تتيح تنويع المزروعات حسبه. يؤكد الشرقاوي أن الفلاح لم يعد قادرا على ضمان أمنه الغذائي واستقراره المعيشي في هذه المناطق على جميع المستويات. وختم الشرقاوي حديثه بأسف: “الفقر شتّت أسرنا، والجميع يفكر في ترك القرية”.
ومع استمرار قلق الفلاحين بكل ربوع المملكة، أكد الوزير المنتدب لدى رئيس الحكومة المكلف بالعلاقات مع البرلمان الناطق الرسمي باسم الحكومة، مصطفى بايتاس، أن الحكومة ستطلق “قريبا” مجموعة من المبادرات تهم الموسم الفلاحي الحالي. وقال بايتاس خلال ندوة صحافية عقب اجتماع مجلس الحكومة “إن الحكومة تتابع موضوع تأخر التساقطات المطرية بالجدية المطلوبة، وستطلق في هذا الصدد مجموعة من المبادرات قريبا”.
بعصاه التي يهش بها على غنمه، يعدّ “التامي” أغنامه بكل حسرة بعد أن اضطر أغلب “الكسّابة”، حسب هذا الستيني، إلى بيع مواشيهم بأثمنة بخسة بفعل ندرة الأمطار، الشيء الذي استحال معه المحافظة عليها نظرا لغلاء الأعلاف. وأضاف “التامي”، وهو الذي عاصر سنوات الرخاء والشدة بمنطقة بني عمير، أن الدولة مطالبة بالتدخل لدعم هذه الفئة.
وأوضح التامي أن المحصول الزراعي، بما فيه السقوي، لكافة الفلاحين مهدد بعد انقطاع مياه سدّ بين الويدان الذي كان يزود المنطقة، مبرزا أن الماشية بدورها لم تجد ما تروي به عطشها، وأن إعادة مياه السد من طرف المسؤولين أصبح أمرا ضروريا وفي القريب العاجل. وتابع وهو متكئ على عصاه بأن “الكسابة” يواجهون حاليا مشكلا حقيقيا مع المياه لإرواء الماشية خاصة أنها تحتاج لكميات كبيرة من الماء في ظل الحرارة التي يعرفها إقليم الفقيه بن صالح.
ارتفعت أسعار الأعلاف في جميع أسواق المغرب مع امتداد موجة الجفاف، حيث بلغ ثمن النخالة العادية بالمحلات التجارية المختصة في بيع الأعلاف خمسة دراهم للكيلوغرام الواحد، فيما ارتفع سعر كيس الشمندر من فئة الــ 50 كيلوغرام إلى 210 دراهم، أما التبن فتراوح ثمنه في السوق ما بين 30 و 35 درهما للقطعة الواحدة من “البال” (اقل من متر واحد في الطول)، ودفعت هذه الوضعية عددا من مربيي الماشية الصغار إلى تقليص عدد رؤوس الأغنام والأبقار لتخفيض النفقات الموجهة لتغذيتها.
وطالب أغلبهم الوزارة باتخاذ إجراءات تمكن من استفادتهم ومرافقتهم ودعمهم إلى حين تجاوز هذه الأزمة، لأن ما قد تجهله الوزارة أن عملية توزيع الأعلاف وغيرها من المواد التي توجه للفلاحين لا يتوصل بها أغلبهم ويتم التلاعب بها وتسخيرها لفئات دون أخرى.
يعتبر “عام البون” وهي الفترة الممتدة بين عامي 1944 و 1945 من أسوء أعوام الجفاف كارثية في المغرب، حينها عانى المغاربة من المجاعة والأوبئة إضافة إلى ويلات الضغوطات الاقتصادية التي فرضتها الحماية الفرنسية على توزيع الموارد الغذائية حينها، حتى أن بعض الروايات الشفاهية والمكتوبة تحدثت عن تناول بعض القبائل لحشرة الجراد من أجل البقاء.
ومنذ أوائل عقد الثمانينيات من القرن الماضي، عاش المغرب حالات جفاف صعبة، استمرت خلال بعض الفترات خمس سنوات أو أكثر، وكان المغاربة حينها في كل مرة يقيمون صلاة الاستسقاء طلبا للغيث. وكانت سنة1981 من أشهر السنوات التي لم تشهد تساقطات مطرية وكانت سنة كارثية في التاريخ المغربي.
يقول محمد سعيد قروق، أستاذ علم المناخ بجامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء، أن المغرب سجل تأخرا في هطول الأمطار خلال فصل الشتاء، وهو وضع يعزى إلى تكون مرتفع جوي فوق شمال إفريقيا وجنوب غرب أوروبا، منع حدوث عملية التكاثف. وأوضح ذات المصدر في تصريح أدلى به لوكالة المغرب العربي للأنباء، أن الحالة الجوية بالمملكة تميزت خلال فصل الشتاء بوجود مرتفع الآصور، بمنطقة ذات ضغط جوي مرتفع تقع في شمال المحيط الأطلسي، وتمتد إلى جنوب أوروبا وحوض غرب البحر الأبيض المتوسط والمغرب.
وحسب المديرية العامة للأرصاد الجوية، فإن متوسط التساقطات المسجل على المستوى الوطني من فاتح شتنبر 2021 إلى 31 يناير 2022 بلغ 38.8 ملم، مقابل معدل مناخي طبيعي يبلغ 106.8 ملم. حيث تم تسجيل عجز في كمية التساقطات مقارنة بالموسم السابق 2020-2021، بلغ 53 في المائة.
وفي حديثه عن الحالة الجوية الحالية قال محمد سعيد قروق أنها “مختلفة قليلا” عما عاشه المغرب خلال الفترة ما بين 2006-2018، والتي شهدت استقرارا في “انتقال المنخفض الجوي على مستوى نصف الكرة الشمالي”، مما سمح بتساقط الأمطار بمنطقة شمال إفريقيا. وأبرز أن الأمطار في تلك الفترة لم تدم لوقت طويل نظرا لـ “تكون سلسلة من الكتل الجوية المرتفعة فوق منطقة شمال إفريقيا وجنوب غرب أوروبا، مما منع حدوث عملية التكاثف. وأشار قروق إلى أن المنطقة التي تقع فيها المملكة تتميز بـ “جفاف هيكلي” تتأثر طبيعته الجوية بوجود كتل جوية عالية، وهو ما يسبب فترات جفاف متكررة. كما أورد أن “البلاد تعرف فترات جفاف منذ وقت طويل، وما علينا إلا التكيف وتدبير الحاجة وفقا للوضع الطبيعي الراهن”.
انتقل مشكل الجفاف الذي يتخبط فيه الفلاحون الصغار والكبار إلى قبة البرلمان، وطالبت المعارضة في رسائلها بضرورة حضور وزير الاقتصاد والمالية، ووزير التجهيز والماء، ووزير الداخلية، ووزير الفلاحة والصيد البحري والتنمية القروية والمياه والغابات، للاجتماعات المتفرقة التي من المرتقب أن تعقدها اللجان البرلمانية في الموضوع. موضحة أن للجفاف تداعيات اقتصادية واجتماعية، لاسيما على القدرة الشرائية للمواطنين، ومن ثم فالحكومة مدعوة إلى بلورة برنامج استعجالي للتخفيف من آثار هذه الآفة، ومراجعة اختيارات وتوجهات السياسة المالية للحكومة في هذه الأزمة، لدعم الفئات المتضررة بالعالم القروي والجبلي.
وأشارت إلى أن الشحنات المدعمة من الأعلاف للماشية، لا تفي بالغرض، الأمر الذي يهدد القطيع بالنفوق، كما حدث في العديد من مناطق المملكة، علاوة على ما يطرحه هذا الأمر بالنسبة لوفرة بعض المنتجات الغذائية كالحليب ومشتقاته، ناهيك عن الوضعية المتأزمة للفلاحين بسبب المديونية إزاء القرض الفلاحي ومختلف الإكراهات الاجتماعية.
ورغم القلق والخوف الذي ينتاب فلاحي “أولاد رياح” خصوصا في ظل غياب أي إجراءات حكومية جدية لمواجهة تبعات التأخر الحاصل في سقوط الأمطار، يبقى الأمل لازال قائما لتجاوز هذه المحنة. ووسط هذه الأزمة وعلى أمل سقوط قطرات من الغيث على أرضه، يفكر العم “صالح” في بيع بقراته كلها وهي التي لم تعد صالحة حسبه لأي شيء سوى لاستنزاف جيوبه المهترئة من المال، وفي ظل شح الأمطار ينتظر الفلاحون صبيب الأمل أن تأتي به السحب من فوقهم لتزيل الفقر الجاثم على صدر الحياة القروية ولتعود بني عمير غارقة في مروجها الخضراء من جديد وتعود حياة العم صالح كما كانت صالحة للعيش.