كان الجو بارداً كعادة شهر فبراير في جبال تنغير، لكنه كان أكثر حرارة على مستوى تعبئة قبائل الجنوب الشرقي استعدادا لمعركة العمر. بعد أن قرر القبطان “هنري بورنازل” الهجوم على أراضي أيت عطا بداية سنة 1933.
فطن الأهالي إلى المحاولات المتكررة للجيش الفرنسي لإخضاع أكثر المناطق مقاومة بالجنوب، فتجمهر رجال ونساء بأزيائهم التقليدية وعتادهم البالي في جبل بوكافر، استعدادا للدفاع عن أرضهم. لم يكن عددهم يتعدى الـ 12 ألف مقاوماً من الرجال والنساء مقابل 80 ألفاً من القوات الفرنسية التي طوقت الجبل بالكامل.
كان عسّو أوبسلام يعرف أن عتاد الجيش الفرنسي يفوق إمكانيات جيشه التقليدية، لكنه خبر الجبال، فأمر رجاله بالتحلي بالصبر والإيمان بالانتصار. لم تكن خطته سوى الاحتماء بثغور بوكافر، التي يعرف تفاصيل تضاريسها كما يعرف حروف وجهه المنهك بالاستعمار. مر أسبوعان وبدأ رجال “عسو” يشعرون أن القوات الفرنسية نجحت جزئيا في منع المؤونة عنهم بعد تطويق “بوكافر”، وأن الاتصال بالضفة الأخرى (مركز القبائل) أصبح مستحيلا، فلم يتبق أمامه سوى خيار المواجهة إلى آخر رمق. وتذكر “عسو” حينها أن الاستعمار الفرنسي كان قد فشل سابقا لما استعان بالتهامي الكلاوي لترهيب قبيلته عام 1918 بالتدخل العسكري في وادي تودغا، إذ لم تحقق هذه العملية النجاح المتوقع، نظرًا للجودة الحربية لآيت عطا والموقع الجغرافي الصعب (الأطلس الكبير).
قائدان لم يعرف لهما التاريخ مثيلا يتواجهان لأول مرة في عمق الجنوب الشرقي للمغرب.:المقاوم الأمازيغي عسو أوبسلام و قائد الجيش الفرنسي هنري بورنازيل.
وُلد عسّو أو بسلام عام 1890، وخلف والده علي بسلام كـ”أمغار” (قائد القبيلة) عام 1919. تنحدر عائلة أوبسلام في الأصل من قبيلة امازيغية من جبال صاغرو آيت عطا (الأطلس المغربي الصغير). لعبت هذه العائلة دورًا حاسمًا ضد الاحتلال الفرنسي في بداية القرن العشرين–يصف المؤرخ الفرنسي “هنري بوردو” عسو أوبسلام على أنه “رجل وسيم’، ذو جسم رشيق وعضلي، لم يكن عاطفيا ولا مباليا، لكنه ظل فخورا بأصوله وأرضه ونسبه، وكان يضع كرامته فوق كل اعتبار. وبات عسو الشاب يحمل مشعل المقاومة الامازيغية بعد الهزيمة النهائية لقبائل ”زيان” بقيادة موحا أوحمو الزياني.
أما الثاني فهو قائد الجيش الفرنسي هنري بورنازيل. لم يكن ضابطاً عاديا حسب الأستاذ الجامعي والصحافي سعيد السالمي، بل “يعتبر أسطورة الجيش الفرنسي في تلك الفترة. عرف وسط زملائه بلقب “الشيطان الأحمر” أو “الرجل الأحمر”، فيما يلقبه المغاربة بـ “بو فيستة حمرة” (أي “صحاب السترة الحمراء”)، نسبة إلى الرداء الأحمر الذي تميز به، والذي اضطر إلى إخفائه في بوڭافر تحت جلباب رمادي، بأمر من الجنرال “جيرو”. بيد أن هذا لم ينقذه من عاصفة الرصاص التي أودت بحياته وحياة الضباط الذين كانوا معه في معركة بوكافر. يحتفي الفرنسيون ببورنازل كضابط عظيم، إذ تحمل العديد من الشوارع والأمكنة الفرنسية اسمه”.
انطلق هجوم الجيش الفرنسي في 13 فبراير، إلا أنه فشل الجيش الفرنسي في إخضاع المقاومين، ثم أعاد الكرّة في 23 فبراير لتليه هجومات أخرى يومي 24 و25. غير أن المقاومة المحتدمة فرضت على “غوميي” تحت قيادة هنري بورنازل أن يتفاوض من أجل حث قبائل آيت عطا على الاستسلام، غير أن عسو بسلام فضل الموت على الاستسلام. في الـ 27 من الشهر، وبأمر من الكولونيل ألفونس جوان، شنّ الجنرال هوري هجوماً عنيفاً، كان الأكثر دموية إذ خلّف أزيد من 64 قتيلاً بين صفوف الفرنسيين، من بينهم قائد العملية هنري بورنازل.
“قُتِل في المعركة بين الساعة السابعة صباحا والسابعة والنصف، ومع ذلك استمر زملاؤه في القتال الى حدود الساعة الثانية عشرة، حيث قتل خمسة ضباط منهم القبطان ‘پول فاشو’، والعشرات من الجنود، وإذاك أصدر الجنرال ‘هوري’ آمره بالعودة الى معاقلهم والاكتفاء بمحاصرة الجبال لان الكلفة باتت باهضة. استمر الحصار لمدة 45 يوما قارسا حتى صار المقاومون يشربون الماء من البئر ممزوجا بدماء اخوانهم الذين استشهدوا تحت نيران القصف الجوي”. يقولسعيد السالمي.
انتهى الحصار في 25 مارس1933 بوقف إطلاق النار، وبعد ذلك قدم عسو أبو السلام للجنرال هوري شروطًا عديدة مقابل إلقاء السلاح، وهي الشروط التي قبلها الأخير جميعًا. وانتهت المفاوضات بإعلان الهدنة وتقرر فيها الخضوع لسلطة المخزن المغربي وتعيين عسو بسلام قائدا على المنطقة وإبعاد سلطة الباشا الكلاوي عن أراضي أيت عطا وإبقاء الأسلحة في أيدي السكان.
قتل في المعركة 327 مغربيا بينهم 127 امرأة.