ميمون أم العيد
مع بداية موسم الصيف وتخفيف إجراءَات الطوارئ الصحية ستبدأ الأعراس الفردية والجماعية في القرى وهوامش الجنوب الشرقي، كما تبدأ في كل المدن والحواضر. لكنها في مداشر الجنوب تعرف ظواهر عجيبة ومنها ذلك الصراع الفرجوي بين “إِسْنَايْن” و”إِقطّاعْن” في أعراس الكثير من القبائل بالجنوب.
هناك سلطة لحظية يتمتع بها “إقطاعن” في الأعراس التقليدية بالجنوب المغربي، يتم استعمالها في أماكن كثيرة لإهانة “إِسْنَايْنْ” دون وجه حق والتسبب في الكثير من المتاعب لأشخاص آخرين.
أسْنَايْ (يقال بأن أصلها أَمْسْنَايْ)، هو الشخص الذي يأتمنه أهل العريس ويتم إرساله لجلب العروس. إنه مندوب تم تعيينه ليمثل العريس وأهله، ومعناها الحرفي: الذي يقوم بإركاب شخص ما على دابة ما، قد يساعد العروس حتى تتمكن من ركوب البغلة أو الجمل أو الحصان، ويتجه بها نحو بيت الزوجية. وجمع أسناي : إِسْنَايْنْ. وهم بمثابة الوزراء الذين يساعدون العريس في شؤون العرس، هم محددون عددا ومعروفون بلباسهم ويحظون بالتوقير والتقدير من قبل أهل العروس، فهم من يقدم لباس العروس والهدايا التي تسلموها من الذي كلفهم بهذه المهمة، فيخصص لهم أهل العروس فور وصولهم “شاة إِسْنَايْنْ” تم ذبحها خصيصا لهم.
أما “إقطاعن” فمعناها اللصوص ومفردها “أقطاع”، وقد جاءت من “قطّاع الطرق”. فإذا كان أسناي معينا بظهير شفوي ليصبح مسؤولا عن أمن العروس وأمها وأهلها طوال الطريق(على افتراض أن والدها يبقى في المنزل ولا يغادره غالبا حتى يعود الأهل)، فإن إقطاعن لا يُعَينهم أحد، بل هم من يمنح لأنفسهم هذه الصفة، إنهم مثل بعض مناضلي الفايسبوك، يعطون أنفسهم الحق في شتم الجميع.
قد يكونون من عائلة وجيران العروس أيضا، وقد يكونون من الفضوليين الذين يملكون الكثير من الوقت والجرأة للتطاول على الناس. وقد يكون بينهم مُتيّم قديم بالعروس وقرر أن ينغص عليها فرحتها انتقاما من تعاليها عليه ذات يوم. يمنعون الموكب الذي يحمل العروس من التقدم، يسمحون له تارة ويمنعونه أخرى.
قديما كان الأمر أشبه بمسرحية في الهواء الطلق، يعبر فيها إقطاعن رغم لقبهم القدحي عن مشاعر راقية للعروس وأهلها، فهم يختبرون إِسْنَايْنْ إن كانوا يملكون القدرة على العبور بالموكب في أمان، فيختبرون مقدار تسلحهم، فيطلقون البارود الحقيقي في السماء ويطالبون من إِسْنَايْنْ أن يفعلوا الأمر نفسه، ليتأكدوا بأنهم يحملون بنادق و”تساعيات”. إنه استفزاز متعمد لمعرفة إن كان “الأسناي” قادرا على مواجهة عدو مفترض في الطرقات الوعرة والمفازات الصعبة .يطلق ” الأقطاع” من بوشفره عيارا ناريا في الهواء، ويصيح:
– مانزا تينون أ إِسْنَايْنْ؟ بمعنى هاتوا طلقاتكم يا إِسْنَايْنْ.
يخرج “الأسناي” بندقية من تحت جلبابه، يشحنها، يشير بفوهتها للسماء، ثم يضغط على الزناد.
تحدث الطلقة صوتا رهيبا وتخلف دخانا، وتنثر رائحة البارود في الأرجاء. يتبعه من شاء من الإسناين ليطمئن أهل العروس بأن هؤلاء الرسل قادرون على حمايتهم إذا باغثهم عدو في أيام السيبة تلك.
مع استتباب الأمن في البلاد ونزع أسلحة القبائل والثوار وترسيخ الدولة المدنية، تم تعويض طلقات بوشفر بـ”الفرشي”. والفرشي مايقتلشي كما قالت الشيخة. وتم الاحتفاظ ببقية الطقوس، وتنافس الناس للحصول على الفرشي لترسيخ نفس الطقس الفرجوي.
يتأكد “إقطاعن” من أن إِسْنَايْنْ يتوفرون على ما يكفي من طلقات الفرشي، وكذلك يتأكدون من أن هندامهم يوافق الشروط التي توارثتها الأجيال من عمامة بيضاء وجلباب أبيض وبلغة، وتزيّن الأسناي بالكحل وغير ذلك، وأي إخلال بشرط من شروط اللباس والزينة يعرض الأسناي لعقوبة ما. عقوبة رمزية طبعا.
وإن كان القدماء لم يحددوا لائحة للعقوبات فإن ذلك مسنود للسلطة التقديرية لـ”لإقطّاعن”، عقوبات ممازحة لخلق جو من الدعابة والمرح دون غلو..
لكن ! في السنوات الأخيرة مع اختفاء “الفرشي” من الأسواق، وظهور “الحراقيات” و”المفرقعات” التي تترك ألوانا ضوئية في السماء للتباهي، وبلغت تكلفة “الحراقيات” في أعراس عشرات أضعاف ما أخذته العروس من مهر وصداق. طغا “إقطاعن” على “إِسْنَايْنْ”، وتجبروا عليهم بسبب كثرة عدد إقطاعن، وكذلك لغياب مرجعية يمكن العودة إليها في حالة وجود خلاف.
مثلما يمكنك أن تكون معارضا وقتما شئت، لا تستطيع أن تكون مُنتخبا إذا لم يصوت عليك المواطنون، يمكنك أن تختار أن تكون “أقطّاعا” فتُحدث الفوضى دون أن يكلفك أحد بذلك، لكنك لن تفرض على أهل عرس ما أن يُعينوك “أسنَايًا”.
كما يتزايد عدد اللصوص والفاسدين في الإدارات والمحاكم تزايد عدد “إقطاعن” في السنوات الأخيرة في أعراس الدواوير البعيدة . بدأ إقطاعن يفرضون عقوبات غريبة على إِسْنَايْنْ لإذلالهم وإضحاك الحاضرين والتقاط صور لهم ونشرها على الفايسبوك ومختلف الوسائط.
تراجعتِ النساء الجميلات إلى الخلف، وأخفين زينتهن بطرف “تاحْرويت” خوفا من ظهور غير متفق عليه في منصة ما. وبدأت العفوية تندثر في سلوكات الناس في الأفراح. بدأت النسوة يفرحن بحذر شديد ولا يفتحن فمهن بـ”الأحيدوس” إلا عندما يتأكدن أن الكاميرا لا تترصدهن.
في أعراس مختلفة في السنوات الأخيرة تم إرغام إِسْنَايْنْ على أكل سردين معلب بواسطة تلك المصاصات التي يحبها الأطفال “كوجاك” بهدف إضحاك الناس من لاشيء! وفي عرس آخر تم إرغام أسناي على مص الحليب من رضاعة، وإجبار آخرين على إشعال نار للإستدفاء به رغم حر شهر غشت، وفي آخر إجبار أشخاص على حمل سيدة عجوز والطواف بها، أو ارتداء ملابس نسائية وغير ذلك. عم الضحك الباسل القرى والمداشر وأصبح هدفا للكثير من إقطاعن الذين يستعينون بمواد مخدرة ومسكرة لخلق المرح وأحيانا القرح.
رغم أن البعد الفلسفي الذي كان الأجداد يرومونه من كل طقس “أحاصر ن إسناين” هو التعبير عن القيمة المرتفعة للعروس، وأن تزويجها لن يتم دون متاعب، ولا يمكن نقلها هكذا مثل متاع دون بعض التمنع والمنع والشروط.
يمنعون الموكب لإنشاد وغناء، أو لتحدي أحد الإسناين في عدد طلقات الفرشي، ثم يستمر السير نحو الأمام، يحدث ذلك لبعض الوقت فقط، للتأكيد على أن هذه الفتاة غالية وعزيزة على أهل الدوار والعشيرة والعائلة. وليس كل هذه العقوبات البهلوانية التي ترغم الناس من نساء وأطفال على المكوث لساعات تحت لهيب أشعة الشمس، أو داخل سيارات غير مكيفة تحت رحمة إقطاعن يبحثون عن المتعة الفرجوية ولو على حساب راحة الآخرين.
(تذكر عزيزي الأقطّاع، أن داخل السيارات نساء قدمن من منطقة بعيدة وبرفقتهن أطفال، وللجميع حاجيات طبيعية أقلها زيارة المرحاض).
إن الغاية من كل هذه الطقوس هو نشر الفرْح بتسكين الراء كما ينطق في المنطقة، لذلك على “إقطاعن” وهم أشخاص لم يخترهم أحد، ولم يعينوا بظهير، أن يوقروا إسناين وهم الذين تم انتخابهم أو تعيينهم على الأقل، لأن وراءهم موكب من أشخاص كثر، وتنتظرهم مسؤوليات جِسام.
وطبعا ألف مبروك للعرسان الجدد.. وأَيْزوورْ ربّي ياويد الخير..