الرئيسية

الحماية الاجتماعية .. ورش ضخم يواجه صعوبات التعميم وتحديات التنفيذ

توقعت دراسة حول "تسقيف الدولة الاجتماعية"، أن تترتب عن تفعيل ورش الحماية الاجتماعية تأثيرات جانبية، تنتج وضعيات تمييزية، وتكرس بعض حالات الإقصاء في حق فئات عريضة؛ كما توقعت أن يتم استغلال إكراهات التمويل كمسوغ، لتبرير رفع يد الدولة عن المسألة الاجتماعية، وتكريس منظور “اقتصادوي”، قد يتعاكس مع الدينامية المطلوبة للتعاطي مع التعقيدات، التي تطبع السياسات العمومية الاجتماعية.

محمد تغروت

تعتبر الحماية الاجتماعية ضرورة ملحة لتحقيق العدالة الاجتماعية والاستقرار الاقتصادي في المغرب، حيث يعاني العديد من المواطنين من الفقر والبطالة، وبالتالي من ضعف إمكانات الولوج إلى التغطية الصحية والضمان الاجتماعي. وتتضمن الأهداف المعلنة لمشروع الحماية الاجتماعية في المغرب ضمان الحد الأدنى من العيش الكريم لجميع المواطنين، والمساهمة في الحد من الفقر والبطالة، وتعزيز التنمية الاقتصادية والاجتماعية.

وتُعرَّف الحماية الاجتماعية عادة على أنها مجموعة من السياسات والبرامج العامة، التي تهدف إلى ضمان مستوى معيشي كافٍ، والحصول على الرعاية الصحية طوال دورة الحياة. ويمكن تقديم استحقاقات الحماية الاجتماعية نقداً أو عينياً، من خلال نُظُم غير قائمة على اشتراكات شاملة أو مستهدفة، وأخرى قائمة على الاشتراكات، مثل المعاشات التقاعدية، وتدابير تكميلية تعمل على بناء رأس المال البشري، وإنشاء أصول منتجة، وتيسير الحصول على العمل.

غير أنه بالرغم من أهمية المشروع ورهاناته، إلا أن تنزيله في المغرب يواجه العديد من الإكراهات، عدم تجاوُزِها يجعل المشروعَ مجرد شعارات وأهداف على الورق، غير قابلة للتنزيل على أرض الواقع، وتظل بذلك العديد من الفئات الاجتماعية المهمشة (من بينها أرامل وأيتام وأشخاص في وضعية إعاقة وشيوخ) محرومة من أبسط ضمانات العيش الكريم.

وقد عملت تقارير رسمية ودراسات علمية على وضع الأصبع على بعض الإكراهات التي تعيق تنزيل مشروع الحماية الاجتماعية في المغرب بشكل يجعل من الممكن تحقيق أهدافه، وذلك ما سنحاول جرد بعض ملامحه في هذه المادة.

تقرير رسمي ينبه لمخاطر تواجه تعميم الحماية الاجتماعية

خصص المجلس الأعلى للحسابات، في تقريره لسنة 2022-2023، فصلا كاملا لهذا الموضوع تحت عنوان “منظومة الحماية الاجتماعية: تحديات ترسيخ حكامة فعالة وضمان التمويل لتحقيق الأهداف المقررة”. وأبرز التقرير أنه “بالنظر لكون تعميم الحماية الاجتماعية ورشا كبيرا وطموحا، فإن تحقيق أهدافه قد تواجهه بعض المخاطر، التي يمكن اعتبارها في آن واحد عوامل نجاح رئيسية للإصلاح، وتتجلى خاصة في التمكن من استقطاب جميع الأشخاص المستهدفين، والقدرة على تحقيق التوازن المالي لأنظمة التأمين الإجباري عن المرض، والإلمام الدقيق بالساكنة المستهدفة بالتأمين التضامني وضبطها، وقدرة القطاع العمومي على استقطاب جزء هام من طلبات العلاجات، وتواجد القدرات الضرورية التي يحتاجها الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، بالإضافة إلى توافر الحكامة الجيدة والفعالة”.

وبناء على هذه المخاطر والتحديات المتوقعة، أوصى المجلس “بإحداث الآليات المستدامة المناسبة لتمويل باقي مكونات الحماية الاجتماعية، وإعادة النظر في حكامة الحماية الاجتماعية بشكل عام، وفي حكامة الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي بشكل خاص”.

كما أعاد المجلس تأكيد التوصيتين اللتين أصدرهما في تقريره لسنة 2021، بشأن “اعتماد آليات التمويل الكفيلة بضمان استدامة واستمرارية التأمين الإجباري الأساسي عن المرض، وتمكين المؤمنين من حصة ملائمة لتغطية تكاليف العلاجات، بالإضافة إلى تطوير وتأهيل المؤسسات الاستشفائية فى القطاع العام، قصد توفير عرض العلاجات، وتحسين جودة الخدمات الصحية في هذا القطاع على صعيد جميع جهات المملكة”.

دراسات علمية تكشف مكامن ضعف المشروع

توقعت دراسة حول “تسقيف الدولة الاجتماعية”، أن تترتب عن تفعيل ورش الحماية الاجتماعية تأثيرات جانبية، تنتج وضعيات تمييزية، وتكرس بعض حالات الإقصاء في حق فئات عريضة، بسبب عدم حصولها على العتبة المطلوبة، أو بسبب ضعف مواكبة وتحيين منظومة الاستهداف، إضافة إلى احتمال توظيف الحزمة الجديدة لبرامج الدعم والحماية لحصر السياسات الاجتماعية ضمن تدابير مرحلية ضيقة.

كما توقعت الدراسة أن يتم استغلال إكراهات التمويل كمسوغ، لتبرير رفع يد الدولة عن المسألة الاجتماعية، وتكريس منظور “اقتصادوي”، قد يتعاكس مع الدينامية المطلوبة للتعاطي مع التعقيدات، التي تطبع السياسات العمومية الاجتماعية.

الدراسة التي أنجزها عبد الرفيع زعنون، الباحث في القانون العام والعلوم السياسية، ونشرت على منصة المعهد المغربي لتحليل السياسات، أوصت بتبني مقاربة استباقية للتعامل مع المخاطر التي قد تحرف السجل الاجتماعي الموحد عن مساره الحقيقي، أي تحوله من ضمانة لتعزيز فعالية السياسات الاجتماعية إلى آلية لتكريس الإقصاء في حق بعض الفئات الاجتماعية.

وللحيلولة دون انحراف السجل الاجتماعي الموحد عن مساره الحقيقي، اقترحت الدراسة مراجعة المقتضيات التشريعية والتنظيمية لضمان فعالية منظومة الاستهداف، بما يجعل السلطات العمومية مُلزمَةً بالإعمال الفعلي للسجل الاجتماعي الموحد،  في تصميم السياسات الاجتماعية وتتبعها وتقييمها.

كما دعت الدراسة إلى التحيين التلقائي والمنتظم لقواعد المعطيات السوسيو اقتصادية، حتى تعكس حقيقة الوضع الاجتماعي، وتلبي متطلبات الإنصاف والاستحقاق.

وأوصت الدراسة بتقوية الأدوات التدبيرية والمالية لتدخل الوكالة الوطنية للسجلات، لجعلها قادرة على التحقق من المعطيات المضمنة بالسجل الوطني الاجتماعي الموحد، مع تيسير المساطر المتعلقة بإعادة النظر في التنقيط، بما يضمن مصداقية وكفاءة منظومة الاستهداف.

وأبرزت نفس الدراسة ضرورة تأطير المعادلات الحسابية، المتعلقة بتنقيط الأسر، بضمانات جدية، تفاديا لاستخدامها كوسيلة لتضييق قاعدة المستفيدين من البرامج الاجتماعية، من خلال المراجعة المنتظمة للمتغيرات الاجتماعية والاقتصادية، مع تنويع الصيغ الحسابية للتنقيط بحسب التفاوتات المجالية.

ودعت الدراسة إلى توحيد الجهود الرامية إلى إرساء نظام شامل لشبكات الأمان الاجتماعي، عبر خلق بنية قيادية للتنسيق، بين مختلف آليات قيادة الحزمة الجديدة للبرامج الاجتماعية، بما يضمن استفادة المستحقين من الدعم الذي تقدمه الدولة، والمؤسسات العمومية، والجماعات الترابية.

وأوصت الدراسة بتهيئة الظروف المثلى للانتقال من التطبيقات السابقة إلى البرامج الاجتماعية الجديدة، لتجنب إقصاء الفئات التي تستحق دعم الدولة، كما حصل عند الانتقال من نظام ’’راميد‘‘ إلى نظام ’’أمو تضامن‘‘، مع إحداث لجان للمساءلة الاجتماعية، لضمان فرز واضح بين النسقين المساهماتي والتضامني لمنظومة الحماية الاجتماعية.

 وخلصت الدراسة إلى أن هذه الإجراءات المقترحة من شأنها أن تُمكِّن من رفع الأثر الإيجابي للسجل الاجتماعي الموحد، في تحقيق تكامل واندماج السياسات الاجتماعية، مع الحفاظ على التعزيز الفعَّال للعدالة الاجتماعية والمساواة، في توفير الدعم والحماية للأفراد في وضعية اجتماعية صعبة.

“تمويل تعميم الحماية الاجتماعية في المغرب”، هو موضوع دراسة أخرى، أنجزها كل من عبد الرحيم طميق، الباحث في سلك الدكتوراه، ونور الدين عبد الباقي، وهو أستاذ باحث في المدرسة الوطنية للتجارة والتسيير بجامعة ابن طفيل بالقنيطرة بالمغرب. وقد خلص الباحثان إلى أن تمويل نظام الحماية الاجتماعية في المغرب يعتمد على مزيج من مصادر التمويل العامة والخاصة، حيث تتمثل المصادر العامة في الضرائب والرسوم الحكومية، بينما تشمل المصادر الخاصة الاشتراكات من العمال، وأرباب العمل، والمساهمات من القطاع الخاص، والمجتمع المدني.

وأكدت الدراسة أن أبرز التحديات التي يواجهها نظام الحماية الاجتماعية في المغرب هو التمويل، إذ يتطلب تعميم الحماية الاجتماعية تمويلًا إضافيًا كبيرًا، قدرته بحوالي 51 مليار درهم سنويًا، مشيرة إلى أن الإجراءات المتخذة، أو المخطط لها لتمويل إصلاح تعميم الحماية الاجتماعية، تتضمن زيادة الضرائب والرسوم الحكومية، وزيادة اشتراكات العمال وأرباب العمل، وتوفير تمويل من القطاع الخاص والمجتمع المدني، منبهة إلى أن محدودية الوصول إلى المعلومات المحينة، حول تمويل هذا النظام، تجعل من الصعب تقييم التحديات المتعلقة بالتمويل بشكل شامل.

ومن أجل تحسين تمويل نظام الحماية الاجتماعية في المغرب، أوصت الدراسة بإجراء مراجعة شاملة للنظام، من أجل تحديد مصادر التمويل المحتملة الجديدة، وتعزيز الشفافية في المعلومات المتعلقة بالتمويل، وكذا وضع استراتيجية تمويل طويلة الأجل؛ معتبرة أنه من خلال اتخاذ هذه الخطوات، يمكن للمغرب أن يضمن التمويل اللازم لتوفير الحماية للجميع.

ولتجاوز التحديات المتعلقة بتمويل هذا الإصلاح في المغرب، اقترحت الدراسة عدة إجراءات ملموسة، مثل إصلاح أنظمة التقاعد، ووضع إطار تشريعي للتقاعد لأصحاب الأعمال الحرة، ووضع سياسة عامة تركز على زيادة إيرادات الحماية الاجتماعية، وإنشاء قانون للتمويل يخضع لرقابة البرلمان. وأوضحت أن هذه التوصيات ضرورية لتحقيق الأهداف الطموحة لتعميم الحماية الاجتماعية، والتي تشمل الحد من الفقر، وتعزيز مرونة الأسر، وتعزيز العمل اللائق، وتحسين رأس المال البشري، وتحفيز الثقة والانتعاش الاقتصادي، من خلال إنشاء حماية اجتماعية قوية وعادلة، تُمكن المغرب من مواجهة التحديات الاجتماعية والاقتصادية، مع تعزيز النمو الاقتصادي الأكثر شمولاً واستدامة.

وفي نفس السياق، نبهت دراسة، نشرها المعهد المغربي لتحليل السياسات، في ماي 2022، إلى أن عدم التناغم بين الجدولة الزمنية لمشروع تنزيل وتعميم منظومة الاستهداف، وتلك الخاصة بمشروع تنزيل مختلف برامج الحماية الاجتماعية، يجعل أكبر ورش للحماية الاجتماعية في تاريخ المغرب تحت رحمة ضعف الاستهداف. 

وبدوره، اشتغل الباحث حسن بويخف على الموضوع، في ورقة بحثية تحت عنوان “أكبر ورش للحماية الاجتماعية تحت رحمة ضعف الاستهداف”، تناول من خلالها الجدولة الزمنية لتنزيل منظومة الاستهداف، والتي لن تكون منزلة في جميع أقاليم المملكة إلا مع نهاية 2025، وقارنها بالجدولة الزمنية لمختلف البرامج الاجتماعية، سواء المتعلقة بأكبر ورش للحماية الاجتماعية، الذي أعلن عنه الملك في خطاب العرش لسنة 2020، أو التي جاءت في البرنامج الحكومي المتعلق بالولاية الحكومية 2021-2026، أو البرامج القائمة قبل ذلك، والتي ينبغي أن تخضع لمنظومة الاستهداف؛ حيث أن معظم هذه البرامج، وخاصة المشروع الملكي لتعميم الحماية الاجتماعية، من المفترض أن يتم تنزيلها في وقت لم تعمم فيه بعد منظومة الاستهداف، باعتبارها آلية الاستهداف الاجتماعي، لضمان نجاعة برامج الحماية الاجتماعية. 

وبناء على المقارنة المذكورة، كشفت الدراسة عن وجود خلل كبير يتعلق بعدم التناغم بين الجدولتين، مما سيجعل تنزيل معظم برامج الحماية الاجتماعية يتم في غياب منظومة الاستهداف. وأكدت الدراسة أن الأمر الطبيعي هو أن يكون نظام الاستهداف قائما وفعالا، لتأطير تنزيل برامج الحماية الاجتماعية، غير أن الذي تكشفه تلك المقارنة هو تأخر إعداد سجلات منظومة الاستهداف، ما يعني مواصلة حرمان برامج الحماية الاجتماعية من النجاعة.

إقرأوا أيضاً:

من نفس المنطقة:

magnifiercrosschevron-down linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram