الرئيسية

قرية “إمي ن تالا”.. قد تكون الثلوج أكثر قساوة من الزلزال

لعل ما حدث لقرية "إِمي نْ تَالَا"، من أفظع الأحداث المأساوية التي خلفها زلزال الحوز،  إثر انهيار جزء من جرف كان ماثلا فوقها يزن عدة آلاف من الأطنان على المنازل. هوى الجرف وسوّى مع الأرض أغلب منازلها، وتسبب في وفاة 84 شخصا، أغلبهم من الأطفال والشيوخ. بعد مرور ما يزيد عن مائة يوم تزور "هوامش" المنطقة، وتقف على ما تبقى من القرية، وما آل إليه وضع من تبقى من ساكنتها.

متابعة| محمد تغروت

انطلقت سيارة الأجرة التي تقلنا من مراكش على الساعة الثامنة والنصف صباحا، وبعد حوالي 45 دقيقة من السير بلغنا “لالا تاكركوست”، هذا هو مفترق الطرق المؤدية الى المناطق الاكثر تضررا من الزلزال: يسارا “مولاي ابراهيم”، و”أسْني”، و”ويرْڭانْ”، وتْلاتّْ نْ يْعقوبْ”، و”إغيلْ”؛ ويمينا “أمزميز” والقرى المجاورة لها. انعطفنا هذه المرة يمينا، حوالي 15 دقيقة كانت كافية للوصول إلى أمزميز، صادفنا في طريقنا سيارة لنقل مستخدمي شركة مناجم، وأخرى عبارة عن “وكالة متنقلة” للقرض الفلاحي، تسيران في نفس الاتجاه.

الدرب الصعب

وجهتنا هذه المرة قرية “إمي ن تالا”، وهي كلمة أمازيغية معناها “فم العين”، سميت كذلك نسبة إلى منبع ماء تشتهر به المنطقة. لم نتمكن من العثور على وسيلة نقل مرخصة، سيارة “النقل المزودج” التي تربطها عادة بامزميز، تشتغل، كما قيل لنا تزامنا مع السوق الأسبوعي، الذي يصادف يوم الثلاثاء، وصلنا بعده بيوم إذن، ليبقى البديل “القانوني” الوحيد المتوفر لقطع مسافة في اتجاه القرية القابعة في على سفح جبل أنكاد هو السير على الأقدام، وهو أمر ليس يسيرا، إذ يتطلب الأمر الغوص في جبال الأطلس الكبير، ساكنة القرية تلجأ عادة إلى “خدمات” النقل السري، مكرهين لا أبطالا؛ في النهاية صادفنا أحد أبناء البلدة، وتطوع ليقلنا إليها.

لا تفصل “إمي ن تالا” عن أمزميز سوى 20 كلم، غير أن قطعها ليس بالأمر الهين، فهي عبارة عن مسلك، يبدو أنه تم تعبيده منذ زمن بعيد، عرضه لا يتجاوز 3 أمتار، ويصبح أقل في بعض المقاطع، ويتميز بكثرة المنعرجات الحادة، ما يمنع رؤية السيارات القادمة من الاتجاه المعاكس، ويفرض على السائق استعمال المنبه بين الحين والآخر، لتفادي الاصطدام، كما لا يمكنه تجاوز سرعة 40 كلم في الساعة.

“إمي ن تالا” قرية تابعة إداريا للجماعة الترابية “أنگال”، وهي كلمة أمازيغية تعني “المرئي من كل الاتجاهات”، اشتهرت قبل الزلزال بالطبيعة الخلابة لجبل أنگال، ومجرى مياه ينبع من عين “إمين ن تالا”، يناهز ارتفاعها عن سطح البحر 1429 متر. على الخريطة “إمي ن تالا” ليست بعيدة جدا عن “إغيل”، مركز الزالزال، غير أن المسالك التي يمكن أن تربط بينهما تتراوح مسافتها ما بين 99 كلم (3 ساعات و8 دقائق)، و142 كلم (3 ساعات و44 دقيقة)، و136 كلم (3 ساعات و50 دقيقة)، بينما تبعد بـ 75 كيلومترًا عن مدينة مراكش.

وأنت في الطريق إلى “إمي ن تالا” يمكنك أن تعاين معاناة الناس، عدد كبير منهم لم يستفد من الدعم المخصص للأشخاص المتضررين من الانهيار الجزئي أو الكلي للمنازل، وأغلبهم هنا من الشق الثاني، هذا الدعم الذي يربطه الجميع بالتعويض المتعلق بإعادة الإعمار، يقول لحسن أمداح (شاب من أبناء المنطقة) “الناس هنا متضررون، خصوصا الذين لم يستفيدوا من الدعم الموجه للضحايا، وهم هنا كثر”، مضيفا “الناس مباغيينش إديروا الاحتجاج، كيتسناو ياخذوا ديالهم -يقصد الدعم المستحق- بلا صداع”، كل من سألته في الموضوع يجيب بنفس العبارة “كاين اللي شد وكاين اللي مشدش، ونسبة المستفيدين أقل بكثير من المستفيدين” كما حكى لنا عزيز المدير، وهو شاب من أبناء المنطقة.

 ما أن تتوغل بمسافة لا تتعدى كيلومترين، في اتجاه البلدة حتى تبدأ شبكة الإنترنت في التلاشي؛ قبل القدوم إلى هنا، ينبغي أن تسأل عن اسم شركة التي تغطي المنطقة بالشبكة الوحيدة للهاتف والأنترنيت، دون ذلك لا يمكنك الاتصال بأحد، حتى لو كان في نفس المنطقة، وهو ما حصل معنا، إذ لم نتمكن من الالتقاء بأشخاص من المنطقة نسقنا معهم قبل الوصول إليها.

قبل الزلزال كانت المنطقة تشهد زيارات من السياح الراغبين في الاستمتاع بالمناظر الطبيعية التي تتميز بها البلدة ومحيطها من الدواوير المجاورة، لكن كل ذلك أصبح جزءا من التاريخ منذ فاجعة ال8 من شتنبر الماضي، فما وجدناه بعد وصولنا لم يكن سوى أطلال.

لم يبق من البلدة سوى كومة من الحجارة والتراب والأخشاب، ووسط الحطام تظهر بعض الأدوات التي تشير إلى آثار الحياة التي كانت هنا قبل الزلزال المروع الذي ضرب المغرب مساء الجمعة، بقايا أدوات مطبخ، ملابس، ثلاجة، بل وسيارة تحطمت عن آخرها، الأمر أشبه بمستودع للمتلاشيات.

صادف وصولنا إلى البلدة انطلاق أشغال تنقية ركام المنازل الناتج عن الزلزال، وهنا على عكس قرية ويركان، تم تخصيص أربع جرافات لمباشرة العمل، إحداها تابعة للجماعة الترابية، بالإضافة إلى 3 شاحنات لنقل الركام، غير أن هذه الأشغال، وفق ما أخبرنا به أيت أوكادر ابراهيم، ابن المنطقة، لم تنطلق سوى منذ أسبوع، ما يعني ضياع 3 أشهر و15 يوما قبل انطلاق عملية الهدم وإزالة الركام وتحضير الأرضية لإعادة الإعمار.

سكان البلدة على غرار كافة المناطق التي عانت من فاجعة الزلزال، اضطروا للإقامة في خيام بلاستيكية، منتظرين نزول عملية الإعمار من التصريحات والشعارات على التلفاز إلى واقعهم المرير، لتقيهم شر البرد القارس الذي تتميز به هذه المناطق الشاهقة العلو، والأسوأ الذي لم يأت بعد، الثلج، وأقوى ما سمعناه في هذا الصدد “إلا جاب الله كان الثلج  غيتكرفسوا الناس أكثر من الزلزال”، قالها لحسن أمداح، سائق السيارة التي أقلتنا إلى البلدة، موضحا أنه قبل الزلزال، عندما كان الثلج يتساقط على منازلها كانت الساكنة تزيحه لتتيح المجال لمزيد من التساقطات، متسائلا “دابا مع الكياطن الا كان الثلج فين غيلوحوه؟ فين غيمشي.”

“التكرفيس” هي نفس الكلمة التي يصف بها، عزيز المدير، معاناة الشيوخ والأطفال مع أجواء البرد القارس، مضيفا أن “الشباب يمكنهم التحمل والصبر، في حين أن الوضعية الصحية للشيوخ والأطفال تجعل قدرتهم على التحمل أقل بكثير”.

في هذه القرية المدمرة، ينام الناجون داخل الخيام أو حولها، ويحدق البعض منهم في السماء بحذر وخوف، وبعد أن كانوا قبل الزلزال يمنون النفس بسقوط الأمطار والثلوج لتنتعش الفرشة المائية ومعها مصدر دخلهم الوحيد والأساسي، الفلاحة وتربية الماشية، أصبحوا يعيشون على أمل ألا تحدث عواصف رعدية تعقد حياتهم أكثر مما عقدها الزلزال وفاقمتها إجراءات إعادة الإعمار وبطئها. 

غياب تصور لإعادة الإعمار

كنا ننوي سؤال أهل القرية عن رؤيتهم لإعادة البناء، هل يفضلون الاستغناء عن استخدام الخرسانة، والحفاظ على هوية المنطقة، باعتبارها “أحد التحديات في إعادة تأهيل الدواوير الجبلية التي دمرها الزلزال القوي الذي ضرب المغرب قبل بضعة أشهر، للجمع بين الاستدامة واحترام العمارة التقليدية”، كما يتردد في الندوات التي تعقد في الفنادق المصنفة في الرباط والدار البيضاء.

يتحدث المهندسون المعماريون، في تلك الندوات ويبدون أفكارًا لإعادة بناء يحترم المأوى التقليدي في هذه المناطق النائية والمحرومة بشكل كبير، بعضها برعاية “وزارة إعداد التراب الوطني والتعمير والإسكان وسياسة المدينة”، وأخرى من تنظيم مؤسسات جامعية، بعيدا عن المعنيين المباشرين ودون الاستماع إليهم، غير أن ما عايناه هو أن لا أحد تحدث إليهم عما يتم التخطيط له في هذا الباب، بينما كان بلاغ سابق أصدره الديوان الملكي أكد فيه على أهمية “الاستماع المستمر إلى السكان المحليين” واحترام “التراث الفريد” و”التقاليد” في كل منطقة، أثناء عمليات إعادة الإعمار.

في ذات السياق قال عبد الحميد بجيح، المكلف بالإعلام في تنسيقية الحوز للائتلاف المدني من أجل الجبل، لهوامش، جوابا على سؤال حول إعادة بناء المساكن بالطين، إن السلطات لم تمنح بعد أية تراخيص لإعادة البناء، وشدد المتحدث على ضرورة التسريع بإنزال توصيات الخطاب الملكي القاضي بصون كرامة سكان الجبال دون أي تغيير، ووضع نموذج من الأبنية يضمن سلامة الساكنة مع الحفاظ على الهوية الثقافية لكل منطقة على حدة.

هيئات مدنية تدق ناقوس الخطر

وكان الائتلاف المدني من أجل الجبل قد دعا في نداء، أصدره بمناسبة اليوم العالمي للجبل يوم 11 دجنبر الماضي، إلى التسريع في تنزيل البرنامج الوطني لتعويض وإيواء المتضررين وإعادة إعمار المناطق المتضررة، و”إيجاد حلول ناجعة ومستعجلة لإنهاء معاناة أهالينا بتلك المناطق” يضيف النداء، وكان الائتلاف قد عقد مجلسا وطنيا، في أواخر شهر أكتوبر الماضي، أسماه “دورة أمزميز”، تحت شعار “من أجل مغرب منصف ومتصالح مع جباله”. 

كما سجل فرع جهة مراكش آسفي للجمعية المغربية لحقوق الإنسان، في بلاغ أصدره في أواخر شهر أكتوبر، حول تطورات الأوضاع المتعلقة بزلزال الأطلس الكبير بعد مرور حوالي شهر ونصف، بناءً على ما تمّ رصده ومتابعته ميدانيا وإعلاميا، ومن خلال شكايات المواطنين، بطء وتأخّر معالجة مخلفات الزلزال بشكل فعّال، واستمرار نفس السياسات والبرامج السابقة العقيمة و المفلسة، و”هدر الزمن ممّا يزيد من تعميق عزلة الساكنة المتضررة وارتفاع منسوب معاناتها الإنسانية”، حسب نص البلاغ.

وسجلت الجمعية في ذات البلاغ ما اعتبرته “تخلي الدولة والسلطات في الكثير من المناطق المتضرّرة عن مسؤوليتها في مدّ الدعم وخاصة المتعلّق بالمواد الغذائية الكافية والأغطية والأفرشة المناسبة والخيام الكافية والانكباب – لحد الآن – على التخزين في مخازن بعضها يفتقر لشروط ملائمة، لتبقى الساكنة المتضرّرة تعيش من إمدادات الجمعيات والفعاليات”.

وطالبت الجمعية “الدولة بالإسراع بتحمّل مسؤولياتها في إيواء السكان المتضرّرين في شروط ملائمة وتوفير الدعم الكافي من المواد الأساسية وكل متطلبات العيش الكريم”.

إقرأوا أيضاً:

من نفس المنطقة:

magnifiercrosschevron-down linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram