– محمد حميدي –
رشيد آيت وزارن، تاجر يملك محلا لبيع المواد الغذائية بأمزميز، والحديث إليه متشعب. فهو لا يكاد يبدأ في إطلاع “هوامش” على وجه من أوجه معاناة التجار هنا في اقليم الحوز، جراء عدم استفادتهم من أي تعويض عن خسائرهم، حتى يُخرج من رحم الحديث وجها آخر. فضلا عن ذلك فالرجل ينزع، بين الفينة والأخرى، جبة التاجر ليرتدي جبة النقابي، حيث أنه النائب الثاني للكاتب الإقليمي للاتحاد العام للتجار والمهنيين.
لا يستطيع محدثنا، الذي يزاول البقالة في هذا المحل، منذ اثنتين وثلاثين سنة، تقدير قيمة ما خسره جراء الزلزال، بالنظر إلى كثرة السلع التي أتلفها الركام، واضطراره إلى إغلاق محله منذ الثامن من شتنبر، لذلك فهو يتجه يوميا إلى ضيعات الزيتون قرب “أمزميز” أملاً في جمع الغلة وبيعها لحل مشاكله.
لكن رشيد آيت وزارن يُسجل أن “هناك من التجار من فقد سلعا بقيمة 10 آلاف درهم، وهناك من هم أقل ومن هم أكثر، حسب طبيعة التجارة التي يزاولها كل تاجر”. ويضيف: “فوق ذلك، من بين هؤلاء من عليه ديون مستحقة لأشخاص في أمس الحاجة لأموالهم، وأخرى لفائدة مؤسسات التمويلات الصغرى، التي اكتفت فقط بتأجيل سداد قروضهم حتى شهر يناير 2024”.
هذا “المعروف” الذي تقول المؤسسات المقرضة إنها أسدته للتجار، يقابله محدثنا بسؤال استنكاري: “المحلات مقفلة منذ أربعة أشهر، وإذا أراد التجار إصلاحها أو إعادة بنائها، في حال الحصول على رخصة البناء، سيكلفهم الأمر ما لا يقل عن أربعة أشهر أخرى. أي معروف هذا؟” يتساءل رشيد، قبل أن يضيف بنبرة تبرز قلة حيلة التجار “شْهر يناير مابقَا ليه والُو.. ومالين القروض (يقصد المؤسسات المذكورة) غادي يزيّروهم”.
نسأل رشيد آيت وزارن، عن حجم الديون المستحقة عليه فيجيب “لم أتفقد مطلقا ذاك الدفتر (الذي يتضمن الديون المستحقة عليه من الموردين)… إن فعلت، سأمرض”.
وحسب هذا التاجر، لا يملك تجار أمزميز، إمكانية الحصول على ما يدينون به على الزبناء، بغية سداد ديون الموردين ومؤسسات التمويل؛ حيث أن الزبناء المدينين “بينهم قتلى ضحايا الزلزال، وآخرون لا دخل لهم حاليا سوى المساعدة الحكومية (2500 درهم شهريا)، وهي بالكاد تكفيهم لتسديد الإيجار. فيما بعض الزبناء لا يحصلون على هذه المساعدة الاستعجالية حتى الآن”.
“سوف تجن فعلا، إذا أردت حل هذه المعادلة (التي نحن إزاءها) ، وطرفاها: ما هو مستحق لك من ديون عند الزبناء، وما هو مستحق عليك لفائدة الموردين (تجار الجملة) ومؤسسات التمويل؛ فالدفتر الخاص بديون الزبناء ممتلئ هو الآخر، ولكن بالنظر إلى وضعهم كما أسلفت القول لا يمكنني أن أطالبهم بشيء في الوقت الراهن” يقول محدثنا.
عدّاد خسائر التجار ما يزال مشتغلا
بخلاف الوضع بالنسبة للمحلات المنهارة كليا، ما يزال “عداد” خسائر السلع مشتغلا داخل المحلات التي تحول الشقوق أو التصدعات الكبيرة دون فتحها؛ بينما كنا نتحدث رشيد، توقف لحظة، وغاب داخل محله، ثم عاد محملا بأربع علب جبن، وأطلعنا على تاريخ صلاحيتها الذي انتهى قبل ثلاثة أسابيع. “يبلغ سعر هذا النوع من الجبن 60 درهما، قد تصل كمية ما خسرته منه 2000 درهم”، يقول رشيد، لافتا إلى أنه “في حالة أصحاب البقالات (الحوانيت) إذا فسدت علبة واحدة منها فهي تعتبر خسارة كبيرة”.
أمام محل رشيد، تقف ثلاجة مغبرة سيجتها خيوط العنكبوت، وما تزال قنينات المشروبات الغازية متراكمة داخلها، تماما كما تركها الزلزال. مشهد يحكي عن خسائر هذا الرجل قبل الدخول إلى المحل؛ حيث لم تشتغل هذه الثلاجة منذ ما يناهز أربعة أشهر، ما يعني أن المشروبات الغازية التي تحتويها “ستكون قد فسدت، لا محالة” وفقا لتقدير الرجل الذي لم يبق له سوى أن يحصي خسائره.
وتتضاعف المعاناة بالنسبة للتجار الذين تضررت منازلهم كليا بسبب الزلزال، حيث يضطرون إلى الاحتفاظ بمحلاتهم المستأجرة والتي تضررت جزئيا، بغية تخزين السلع التي لم تفسد أو لن تفسد؛وهو الأمر الذي يفرض استمرارهم في دفع إيجار محلات لا تدر عليهم أي مدخول؛ “على أية حال. لن يعفيك صاحب المحل من دفع الإيجار، سوف تُكابد وتدفع”، يقول رشيد آيت وزارن “لهوامش”.
يرتدي محدثنا قبعة النقابي؛ فيحدثنا عن “تضرر 90 في المئة من المحلات التجارية ومحلات المهنيين بأمزميز، جزئيا أو كليا، جراء زلزال الحوز”. وهذا يعني حسب أيت وزارن، “أن ما لا يقل عن 100 تاجر، و30 من المستخدمين معهم على أقل تقدير، قد فقدوا مورد رزقهم وقوت عائلاتهم”.
وبعد سلسلة شكايات وملتمسات رفعها المتضررون إلى غرفة الصناعة والتجارة والخدمات لجهة مراكش آسفي، خاضوا بدعوة من الكتابة الإقليمية للاتحاد العام للتجار والمهنيين، إضرابا يومي 23 و24 أكتوبر الماضي. ورغم أن لجانا تقنية تشكلت من موظفي الوزارة الوصية، والغرفة المهنية، وأعوان سلطة، وموظفي العمالة، قامت بعد الإضراب بأيام، بتفقد محلات التجار والمهنيين المتضررة، فإن رشيد آيت وزارن يجزم “لهوامش” أنه “لا جديد في وضع التجار حتى الآن، وما زال الجميع يقول لهم عبارة ما عندنا ما نديرو ليكم”.
اللجان التي أشار إليها رشيد آيت وزارن، أحصت حسب رياض مزور، وزير الصناعة والتجارة، تضرر 2910 نقاط بيع خاصة بالتجارة والخدمات؛ تتوزع بين 2323 بجهة مراكش آسفي، و587 بإقليم تارودانت؛ 45 في المئة من هذه المحلات تعرضت للهدم الكلي أو مهددة بالانهيار، فيما 51 في المئة تعرضت لأضرار متفاوتة.
وسجل الوزير خلال جلسة لمجلس المستشارين، يوم الأربعاء 27 دجنبر 2023، أن زلزال الثامن من شتنبر أتلف سلع 51 في المئة من التجار الذين شمل الإحصاء محلاتهم، بينما ألحق بسلع 45 في المئة منهم، أضرارا متفاوتة.
وأضاف الوزير في نفس الجلسة أن 36,4 في المائة من المحلات تخص التغذية العامة (البقالة)، و15,6 في المئة مقاه ومطاعم، فيما تختص 6.3 في المئة في بيع اللحوم، فضلا عن محلات لبيع الملابس وأنشطة أخرى.
إضافة إلى جرد التجار المتضررين، فإن الوزارة، يؤكد مزور، أخذت علما بانتظاراتهم المجملة في “ترميم أو إعادة بناء المحلات، والدعم المالي من إجل إعادة المخزون من السلع، ومواجهة انخفاض النشاط وتغطية ديون الزبناء والموردين”؛ ولذلك قامت الوزارة بإعداد “برنامج، هو الآن قيد التقييم، وسيتم الشروع فيه في أقرب وقت”، يضيف مزور.
“كيف سيكون شكل هذا البرنامج؟ وكيف تم وضعه؟ ما التعويض الذي سيأتي به؟ وهل سينهي محنة التاجر المتضرر أم لا؟ ” أسئلة تؤرق بال التاجر والنقابي رشيد آيت وزارن، حول البرنامج المذكور. يطرحها في حديثه مع “هوامش”، قبل أن يجزم: “إذا لم يتم إشراك التجار في وضع هذا البرنامج الملفوف بالغموض، سواء المهنيين أو النقابات، فلنكن على يقين مسبقا أنه لن يفي بالغرض وربما زاد الطين بلة”.
الحداد إدريس.. لا أكسب أكثر من 50 درهما في اليوم
غير بعيد عن محل التاجر رشيد آيت وزارن، على بعد مئتي متر تقريبا، تقع محلات الأخوين إدريس وإبراهيم أعراب، هناك التقينا أولا إدريس، الذي يعمل حدادا. تحدث إلينا الرجل الأربعيني في البداية، عن الصدأ الذي طال مهنته، حتى قبل أن يحل الزلزال: “أكثر من عشرين سنة وأنا أزاول الحدادة.. ولم أدخر منها شيئا..تزوجت منها فقط”.
ويضيف هذا الرجل، وهو أب لثلاثة أطفال: “محلي الآن متهالك، ويحتاج بشهادة اللجنة إلى إصلاح، ومع ذلك أضطر للعمل بداخله كي أجلب قوت أطفالي، خاصة وأني لم أستفد حتى الآن من المساعدة الاستعجالية (2500 درهم)، وعلى أية حال أقوم فقط بأعمال إصلاح أو لحام، أو إذا دعاني أحدهم لبعض الأعمال الجزئية (السودور، تركيب الأبواب، وغيرها) وأغلب هذه الأعمال لا يتعدى مدخولي منها أحيانا 50 درهما”.
عاينت هوامش تضرر كل الآلات التي يشتغل بها إدريس جراء سقوط ركام الزلزال عليها، إما كليا أو جزئيا. ويُفصل إدريس أعراب: “خسرتُ “البوست” Poste a souder (محطة اللحام) بالكامل، وقيمته 3 آلاف ردهم. وخسرتُ “لامون” (أداة قطع الحديد) وقميته 1200 درهم، أما “الشنيور” (المثقاب) وقيمته 600 درهم، فبالكاد يعمل بعد أن قمت بإصلاحه وترميمه كيفما اتفق”.
ولحسن حظ هذا الحداد البسيط، الذي يُناشد وزارة السياحة والصناعة التقليدية والاقتصاد التضامني، والغرفة الجهوية للصناعة التقليدية، من أجل تعويضه عن خسائره وإصلاح محله، فقد أعاره أحد أصدقائه، غداة الانتهاء من عمل جزئي في أحد المنازل، “البوست” الخاص به ريثما يتمكن من شراء جهاز جديد.
“مستحقات التأمين قبل التعويض”..النجار إبراهيم: من أين سنأتي بها؟
ورشات نجارة الخشب التي يملكها إبراهيم أعراب، تقع خلف محل أخيه الأصغر إدريس، وقد طالتها هي الأخرى شقوق وتصدعات بسبب الزلزال. غير أن توقف آلات النجارة عن الأزيز في محلات إبراهيم، لا يعني توقف قوت أسرته فقط، بل “قوت ما لا يقل عن 60 فردا، من عائلات 8 معلمين يشتغلون في هذه الورشات، بالإضافة إلى عدد من المتعلمين (مستخدمون في طور تعلم الحرفة)”، وفق ما يفيد به هذا النجار، في حديثه لـ “هوامش”.
ويؤكد الرجل “الوزارة الوصية والغرفة الجهوية للصناعة التقليدية، لم تمدني بأي تعويض، حتى الآن، عما لحق ورشاتي من أضرار، رغم إيفادهما من قبلُ لجانا تقنية إلى كل ورشات الحرفيين والحدادة والنجارة، بما فيها ورشاتي، بغية الوقوف على حالتها بعد الزلزال”.
وأضاف إبراهيم أعراب، وهو أمين النجارين بأمزميز، أنه إثر زيارة اللجان “تم الاتصال بي للالتحاق بمقر غرفة الصناعة التقليدية لجهة مراكش آسفي، بنية الاستفادة من التعويض عن الأضرار. إلا أنني حين توجهت رفقة عدد من المهنيين إلى مقر الغرفة، أكدت لي موظفة أنه لم تتم برمجة أي تعويض حتى الآن، وأنه قبل الاستفادة منه يجب على المهنيين أداء واجب الانخراط في التأمين لدى الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي”.
“حينها سألنا الموظفة، هل هذه الظرفية ملائمة لكي تطلبوا منا أداء واجب الانخراط؟ محلاتنا مقفلة منذ الزلزال، ولا نملك حتى واجب الكراء لهذا نعيش في الخيام. من أين سآتي بـ 140 إلى 150 درهما شهريا؟”، يضيف إبراهيم أعراب في تصريحه “لهوامش”.
يتحدث إبراهيم أعراب لهوامش عن عدم استفادته من المساعدة الاستعجالية التي تبلغ قيمتها 2500 درهم. ويضيف وهو يشير إلى كيس يحتوي مؤونة غذائية، وضع أمام منزله، المجاور للورشات: “حائرون تدبر قوتنا، وحدهم بعض المحسنين مازالوا يتكفلون بذلك”.
ومن المؤكد بالنسبة لكافة المهنيين الذين التقتهم “هوامش” أن استمرار إغلاق محلاتهم “يهدد أيضا بفقدان زبنائهم لصالح المنافسين” ؛ التاجر رشيد آيت وزران، على سبيل المثال، قال لنا “إذا أقعدت الإنسان الحمى يوما، فتلزمه أربعة أيام على الأقل للرجوع إلى حالته الصحية المعتادة، كذلك نحن، مع اختلاف بسيط؛ أنه في حالتنا إذا ذهب زبناؤنا إلى وجهة أخرى، فمن الصعب استعادتهم”.
بينما كنا ننهي لقاءنا مع رشيد، انهار الرجل فجأة وانهمرت الدموع من عينيه، مبددة تلك الابتسامة التي تماسكت طيلة اللقاء، تماسك قليلا وختم حديثه إلينا بالقول “كل هذه المشاكل والإكراهات لم نكن نتوقعها ونحن نرى الزخم والتحركات التي كانت حولنا في البداية، لم نتوقع البتة أنه سيأتي يوم يصل فيه المرء إلى وضع لا يجد في جيبه حتى عشرة دراهم، هادشي صعيب”.