الرئيسية

قلعة السراغنة..  نساء يكسرن الجوز من أجل كسرة خبز

وأنت تتذوق الجوز أو "الكركاع" محمصا أو نيئا أو مملحا، وتستمتع بطعمه اللذيذ، هل يخطر ببالك أن تلك الجوزة الشهية أخذت مسارا ورحلة طويلة عابرة للقارات كي تصل إلى طبقك، وأن من وراء إعدادها نسوة يكدحن يوميا من أجل فصل اللب عن القشرة، وبأجر زهيد، وخلف كفاحهن اليومي تتلخص قصص ومعاناة.

محمد الحراق

من الشيلي إلى قلعة السراغنة

نسوة يتعبن من شروق الشمس إلى غروبها، وعلى وجوههن ترتسم البسمة والأمل الممزوجين بالتعب اليومي، نساء قررن تقاسم هموم العيش، وتكاليف الحياة مع أزواجهن في أحد الدواوير الهامشية بإقليم قلعة السراغنة وسط المغرب، نساء اخترن تكسير الروتين اليومي بتكسير الجوز من أجل الحياة.

يقع دوار “دراوة” على تراب جماعة “زنادة” بإقليم قلعة السراغنة، على مقربة من الطريق الوطنية رقم 8، لكن ما يميز هذا الدوار، الذي يفتقر إلى البنيات التحتية الأساسية، انتشار أكوام وأكياس قشور الجوز أو “عين الجمل” في كل مكان، مما قد يولد الانطباع لدى كل زائر غريب عن الدوار أن المنطقة تتخصص في زراعة هذه الفاكهة الجافة، شأنها شأن قرية “ساكرامنتو” و”سان جواكوين” الواقعتين في ولاية كاليفورنيا، والمشهورتين بإنتاج الجوز بكميات كبيرة.

يحتوي كل كيس تتسلمه عتيقة وجاراتها، على 25 كيلوغراما من الجوز المستورد من دول عديدة كالصين والشيلي والولايات المتحدة الأمريكية، وإيطاليا ودول أخرى بأمريكا اللاتينية يتم جلبه وتخزينه بأحد المستودعات المتواجدة في المنطقة، حسب ما حكته مجموعة من النسوة اللائي التقتهم هوامش خلال إعدادها لهذا الربورتاج. 

نساء مهنتهن تكسير الجوز

تستيقظ عتيقة (43 سنة) كالعادة باكرا، فهي تكون على موعد كل صباح مع موزع أكياس الجوز، تعد وجبة الفطور للأبناء على عجل، تعيد ترتيب البيت وتنظيفه وإعداد عجين الخبز وبعد انصراف الأبناء إلى الدراسة والزوج إلى العمل، تبدأ عملها اليومي، وكلها أمل أن تنهي تكسير حصتها من أكياس الجوز قبل الموعد المحدد.

تتسلم عتيقة، الأم لثلاثة أطفال، من الموزع كل صباح كيسين إلى ثلاثة أكياس حسب طاقتها، ونادرا ما ترتفع الحصة إلى أربعة أكياس بعد أن تستعين بأبنائها، خلال العطل المدرسية، في تكسير الجوز وجمع القشور، وقضاء بعض الأشغال داخل البيت.

“أتسلم كل صباح كيسين أو ثلاثة من الموزع الذي أتعامل معه منذ سنوات، ونادرا ما أحصل على كيس رابع، فالعمل شاق ومتعب، وليس كما يعتقد البعض” تقول عتيقة، وهي تمسك الملقط بخفة، وتشرع في فصل اللب عن القشرة التي تترامى أمامها تباعا.  

وتتابع عتيقة حديثها لهوامش “هناك صعوبة كبيرة في التوفيق بين أشغال البيت، وبين عملية كسر الجوز خصوصا في غياب “العوين” (المساعدة)، لكن هذا خياري الوحيد لإعالة أسرتي ومساعدة زوجي، فليس لنساء المنطقة بديل اقتصادي ينتزعهن من براثن الفقر والحاجة”.

وتتطلب عملية تكسير الجوز وفصل اللب عن القشرة خفة ومهارة، وملقطا عبارة عن قاطع للأسلاك الكهربائية، فهي مهمة ليست سهلة كما يبدو، بل صعبة لأن عملية فصل اللب عن القشرة تقتضي الحفاظ على النواة كاملة، وتفادي تفتتها، فانشطارها إلى أجزاء صغيرة يعني فقدان ثقة الموزع، فالثقة هنا عامل أساسي في العلاقة التي تربط الموزعين بنساء دوار “دراوة،” وفقدانها يعني حرمان جزء من النساء من مدخول يومي.

عمل شاق وأجر ضئيل

بمجرد تسلم الأكياس، تدخل عتيقة ونساء الدوار في صراع مع الوقت من أجل إنهاء عملهن اليومي قبل حلول الرابعة مساء، فهو الوقت المحدد لجمع آخر حبات الجوز من نساء الدوار، السرعة مطلوبة والخطأ ممنوع تكراره حتى يستطعن تقديم الجوز للموزع وفق ما تم الاتفاق عليه. ويتم التأكد من وزنه، ووضعه في أكياس وتخزينه في مستودع خاص في ظروف ملائمة، ودرجة حرارة مناسبة لتفادي تلفه وتضرره، وهكذا تتكرر العملية كل صباح.

تستغرق بوشرى جارة عتيقة في عملية تكسير وفصل لب 25 كيلوغرام من الجوز ثلاث إلى أربع ساعات من العمل المتواصل، وفي الغالب تتعاون مع جارتها أو تشاركها الجلسة والحديث، حتى لا تشعران بالملل وبتعبير بوشرى “حديث ومغزل”.

“إن ما نحصل عليه نظير كيس من الجوز هو 25 درهما، وهو ما يعني أن المدخول اليومي لا يتجاوز 50 درهما في اليوم، وقد يرتفع قليلا مع بعض المناسبات كعاشوراء حيث يتزايد الإقبال على شراء الجوز، ويضطر الموزعون لرفع الثمن إلى 30 درهما لتشجيع النساء على العمل” تقول بوشرى، وهي تفرغ كيس الجوز في إناء بلاستيكي كبير.

وتضيف محدثتنا “رغم الأجر الضئيل الذي نحصل عليه يوميا، فإننا نحمد الله على حالنا اليوم، فقد استطاعت نساء الدوار أن يجنين مدخولا يساهمن به إلى جانب الأزواج في تدبير أمور البيت، في الوقت الذي كنّ فيه عالة على أزواجهن”.

وفي الزقاق المقابل، عاينت هوامش تجمعات للنسوة متحلقات حول صحون وأكياس مملوءة بالجوز، يتجاذبن أطراف الحديث وهن منهمكات في عملهن بحركات صارت تلقائية، في مشهد يكاد ينطبق على كل البيوت بدوار “دراوة”، حيث أصبح تقليدا متعارفا لدى الجميع في المنطقة، وفي الدوار الذي يجمع كل من صادفتهم هوامش، أن وضع أهله الاجتماعي تحسن بفعل “الكركاع”.

قشور لطهي الخبز

حينما تقودك الجولة إلى أزقة الدوار تستوقفك مشاهد قشور الجوز مرمية في كل مكان، وكأن لا فائدة منها، لكنها بالنسبة للأهالي شيء ثمين لا يتم التفريط فيه، لما توفره من مدخول إضافي تستفيد منه النساء. 

فبعد جمع الموزع اللب من النساء، يتم تجميع القشور في أكياس، ونشرها تحت أشعة الشمس حتى تجف، حيث يتم استعمالها في طهي الخبز، أو كحطب لتسخين الماء، أو بيعها لأرباب المخابز والأفران والحمامات من المنطقة أو خارجها.  

وفي هذا السياق يقول محمد زوج عتيقة، وهو يشير إلى أكوام القشرة أمامه “إننا نبيع القشرة لأرباب الأفران والمخابز والحمامات ويتم نقلها عبر شاحنات تأتي بين الفينة والأخرى، أما الثمن فلا يتجاوز 6 دراهم للكيس الواحد”. 

ويسترسل محمد “رغم أن القشرة تبدو غير ذات أهمية، ولكنها تنفع النساء في طهي الخبز في الأفران الصغيرة “إينور” والجزء الباقي يتم بيعه لتجار يزورون المنطقة بين الفينة والأخرى”.

لكن يضير زهرة وعتيقة ونساء الدور، انخفاض ثمن الكيس الواحد من قشرة الجوز، ولا يجدن عن ذلك بديلا، ويفضّلن طهي الخبز بهذه القشور السريعة الاحتراق، لكنهن يجهلن أن لهذه القشور خصائص طبية كبيرة، وخاصة في مجال التجميل. 

الرجال ينافسن النساء 

لم يعد تكسير الجوز وفصل لبه عن القشرة عملا مقتصرا على النساء بدوار “دراوة”، فقد دفعت الظروف بعض الرجال والشباب العاطل عن العمل إلى اقتحام هذا المجال الذي ظل حكرا على النساء منذ أزيد من عقد من الزمن.

لقد كانت الفكرة السائدة لدى أهالي الدوار، ولا زالت، أن تكسير “الكركاع” عمل من اختصاص النساء فقط، لكن في السنوات الماضية، وبعد توالي سنوات الجفاف، وتفشي البطالة في صفوف الشباب بدأ الرجال يزاحمون النساء في عملهن.

وفي هذا الصدد يقول عبد الله، وهو شيخ يغطي الشيب وجهه، صادفته هوامش منهمكا في تكسير حبات الجوز أمام منزله “لست محرجا مما أقوم به فالرجال بالدوار الذين لا يتوفرون على عمل، بدأوا كذلك يشتغلون في الكركاع، ومنهم من يتعاون مع زوجته في عملها اليومي”. 

ثم يؤكد عبد الله أنه، “أمام انسداد الأفق والجفاف، والبطالة، لم يعد هناك خيار أمام الجميع سوى العمل في أي شيء، ونحن محظوظون حين وجدنا العمل في الكركاع، وبفضله تحسنت أحوال الجميع هنا في الدوار رغم قلة ما نجنيه منه”.

أما لطيفة الراشدي أستاذة وفاعلة جمعوية بالمنطقة، فقالت في تصريح لهوامش “بحكم احتكاكي بنساء المنطقة، أقول إن هذه رحمة نزلت على نساء الدوار، بحكم أن المنطقة تعاني من انعدام تام لفرص الشغل سواء للرجال أو النساء”.

ثم تضيف “إن العمل في تكسير الجوز لا تستفيد منه النساء وحدهن، ولكن هناك شريحة كبيرة من الرجال أصبحت تستفيد منه أيضا، خاصة أن الجميع هنا بدوار “دراوة” كان يعتمد على الفلاحة بالدرجة الأولى كمورد للرزق”.

وأشارت الراشدي إلى أن الرجال اليوم أصبحوا يجلسون مع نسائهم، ويشاركونهن عملهن اليومي، بحكم غياب فرص الشغل، وذلك من أجل البحث عن لقمة العيش، وتوفير الحاجيات اليومية، في سياق الأزمة الاجتماعية والاقتصادية التي يعرفها المغرب والمتسمة بارتفاع في الأسعار.

إقرأوا أيضاً:

من نفس المنطقة:

magnifiercrosschevron-down linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram