الرئيسية

هل تحولت المؤسسات التعليمية إلى مشاتل للاستغلال؟

لم تجد فاطمة أمامها من بدائل، وهي المسؤولة عن إعالة طفليها بعد رحيل زوجها، سوى توقيع عقد عمل مع إحدى الشركات المكلفة بتدبير قطاع النظافة والطبخ، بالمديرية الإقليمية للتربية الوطنية بخنيفرة (وسط المغرب). كان أمل فاطمة، ذات الخمسة وأربعين عاما، الحصول على عمل يمكنها من العيش بكرامة هي وطفليها، لكنها لم تكن تتوقع، وهي تلج عالم الشغل، أنها ستنتظر أحيانا شهورا للحصول على أجرها، كما لم تكن تتوقع أن العمل شاق جدا، ويجري في ظروف أقرب إلى العبودية. 

هوامش

“نشتغل في ظروف قاسية”، “الأجور زهيدة جدا”، ” لا استقرار في العمل”، جمل ترددت على لسان فاطمة، كما ترددت على لسان كل من التقتهن، وتواصلت معهن منصة “هوامش”، حيث تم تفويت قطاع النظافة والطبخ والحراسة إلى شركات خاصة.

هدية للشركات الخاصة

لجأت وزارة التربية الوطنية والتعليم الأولي والرياضة (وزارة التربية الوطنية سابقا)، في سياق أجرأة أحد مرتكزات المخطط الاستعجالي، إلى تفويت خدمات قطاع النظافة والحراسة والبستنة وتدبير المطاعم المدرسية والداخليات والمقاصف، بالمؤسسات التعليمية، إلى الشركات الخاصة، وخاصة بعد ترقية الأعوان الذين كانوا مكلفين بهذه المهام إلى درجة مساعدين تقنيين، مما أدى إلى ترك المؤسسات التعليمية فارغة من اليد العاملة التي كانت تقوم بهذه الأعمال.

وحسب نماذج حصلت عليها هوامش، يوقع العمال على عقود عمل “توافق” فيها الشركة المشغلة على تشغيلهم “دون الحاجة إلى تنبيه أو إنذار بانتهاء المدة، ودون الحاجة إلى اتخاذ أي إجراء قانوني أو قضائي”، على أن يكون للشركة الحق في أن تعهد للعامل/ة “بأي عمل آخر يتفق مع طبيعة مؤهلاته أو أن يصبح أهلا لأدائه”، فضلا عن أن للشركة الحق في نقل العامل لأي فرع من فروع الشركة وكذا إلى شركة أخرى تابعة لها “أيا كان موقعها”.

إضافة إلى ذلك، يعين العمال حسب نفس العقود “تحت الاختبار لمدة ثلاثة شهور، وخلال هذه الفترة أو عند انتهائها يكون للطرف الأول (الشركة) الحق في إنهاء أو فسخ هذا العقد فورا، دون الحاجة إلى إخطار سابق ودون دفع أية مبالغ بصفة تعويض أو مكافأة”.

كما أن العامل حسب نفس نموذج العقد “يقر ويعلم أن تعيينه غير مرتبط بمنطقة أو مدينة محددة، ويمكن نقله إلى أية جهة عبر التراب الوطني دون أي تعويض، وأن أجرته الحالية تأخذ بعين الاعتبار هذه الحالة”، كما أن للشركة الحق في فسخ العقد في أي وقت تشاؤه “إذا ثبت عدم صلاحية العمل فنيا وذلك بمعرفة الطرف الأول (الشركة)، أو من ينوب عنه”.

ولا تتضمن العقود التي يوقعها العمال على مبالغ الأجرة أو أية إشارة إليها، كما أنها لا تشير إلى التعويضات أو المكافآت أو الترقيات.

وحسب نقابيين فقد “أدى هذا الوضع إلى اتساع رقعة الاستغلال ضد هذه الفئة من العمال والعاملات، في ظل القوانين المؤطرة لعملية التدبير المفوض لهذه الخدمات، وتراخي الجهات الموكول لها قانونا مراقبة التزامات الشركات بدفاتر التحملات وحماية وضمان حقوق العمال والعاملات”.

وأشارت تقارير وبيانات نقابية، اطلعت عليها هوامش، أن هذه الفئة من العمال والعاملات تعاني من الأجور الهزيلة، وتملص أرباب الشركات المتعاقدة من التصريح بهن في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، والعمل لساعات طويلة دون تعويض، والهشاشة، وعدم الاستقرار النفسي، والتهديد بفقدان منصب الشغل، والاستغلال. 

مولاي الكبير قاشا، عضو المكتب الوطني للجامعة الوطنية للتعليم – التوجه الديمقراطي، يقول في تصريح لهوامش: “أدى التفكيك المتدرج لوزارة التربية الوطنية في أفق التخلص منها، لتفويت العديد من أنشطة القطاع لمستثمري النهب وتبديد المال العام، والذين لا يقدمون للمدرسة العمومية والمرفق العام أية قيمة مضافة، بقدر ما يراكمون أموالا سائبة، ويعودون رجال ونساء التعليم على الفظاعات والانتهاكات، وخرق كل الضوابط القانونية، ودفعهم للتطبيع مع ما ينتظرهم، مستفيدين من الفساد المستشري في القطاع، وانتفاء المراقبة واحترام مدونة الشغل على علاتها وكذا دفاتر التحملات.”

ويسترسل قاشا “هذا الوضع أفرز أنماط عمل مشوهة لا تتمتع فيها العاملات في قطاع الطبخ والنظافة بأية حماية، بل هن محرومات حتى من الحق في المرض أو الحمل أو الولادة فبالأحرى بالاستقرار”.

صرخة العاملات: “نحن نعاني كثيرا” 

“نحن نعاني كثيرا، نحن نمضي ما بقي من العمر في عمل بلا حقوق، الأجور التي تتلقاها عاملات الطبخ والنظافة هزيلة جدا، ماذا تعني 800 درهم في الشهر لأرملة أو مطلقة، أو عاملة مريضة لديها أبناء يدرسون، في الوقت الذي تعرف فيه الأسعار ارتفاعا مهولا”، كانت هذه صرخة أطلقتها نادية (اسم مستعار) عاملة بإحدى المؤسسات التعليمية بالمديرية الإقليمية للتربية الوطنية بخنيفرة، وهي تخوض اعتصاما رفقة زميلاتها للمطالبة بمستحقاتها.

ثم تضيف “العمل متعب جدا ورغم المرض نضطر للعمل، وأرباب الشركات قد يستغنون عنا في أية لحظة. نحن متضررات كثيرا، وحالتنا مزرية، وليس هناك من يحس بأوضاعنا أو يسمع صوتنا أو يلتفت إلى معاناتنا”، وتسترسل المتحدثة “حقوقنا تتعرض للهضم من أصحاب الشركات الذين لا يأبهون لأوضاعنا”.

أما فاطمة (اسم مستعار) فتقول “إن ما نملكه هو الصبر، لأنه ليس لدينا من خيار لإعالة أسرنا سوى العمل بهذه الشروط”، وتستدرك المتحدثة، وهي تطلق زفرات الحسرة، قائلة “إلى متى سيستمر هذا الوضع المزري الذي تعيشه عاملات الطبخ والنظافة”.

تشتغل فاطمة، أرملة وأم لثلاثة أطفال، مثل باقي عاملات النظافة أربع ساعات في اليوم، طيلة أيام الأسبوع، لكنها لا تتقاضى سوى 800 درهم في الشهر، وأحيانا قد لا يصل راتبها إلى هذا المبلغ، وقد يخصم منه حسب أي طارئ قد يحدث.

مبلغ يظل، بحسب فاطمة، هزيلا لا يكفي لسد مصاريف البيت، وتمدرس الأبناء، والأدوية، وكل ما تحتاجه العاملات في تدبير معيشهن اليومي، بل يجبرن في الكثير من الأحيان على العمل ساعات إضافية دون تعويض، وكثير منهن يتعرضن للطرد التعسفي دون أسباب للتملص منهن، حسب ما استقته هوامش من تصريحات.  

شروط عمل قاسية

في تقرير لها حول “ظروف العمل في قطاعي الأمن والنظافة في المغرب“، نشر في ماي من سنة 2022، كشفت منظمة أوكسفام أن عمال النظافة وحراس الأمن، يعانون أبشع صور الحيف والاستغلال والهشاشة من طرف مشغليهم، الذين يحرمونهم من أبسط الحقوق الاجتماعية، وخاصة النساء العاملات في قطاع النظافة والطبخ. 

وكشف التقرير عن هشاشة العمل، وغياب آليات الحماية الاجتماعية لهذه الفئة، التي تقدم خدمات كثيرة بأجور زهيدة، ليظل المستفيد من هذه الصفقات هي الشركات المكلفة بتدبير هذه القطاعات، بالمؤسسات التعليمية، بمختلف المديريات. 

ووفق ما استقته هوامش من مصادر نقابية، تهتم كل عاملة نظافة، داخل مجموعة من المؤسسات التعليمية، بما بين 20 إلى 30 قاعة دراسية، وتتوفر كل مؤسسة على 3 إلى 4 عاملات نظافة، يبدأن عملهن على الساعة السابعة صباحا، حيث يتكلفن بكنس الأقسام وترتيب الطاولات قبل دخول التلاميذ، وتبقى أمامهن ساعة لإتمام عملهن، في حين تتكلف العاملات الأخريات بنظافة المراحيض وفق جدول أعمال محدد، 3 مرات في الأسبوع، أو بالأقسام الداخلية بالتناوب بينهن. 

أما أدوات العمل، تضيف مصادر نقابية، فلا تتعدى مكنستين ودَلْواً و3 لترات من محلول “جافيل”، مجبرات على استعمالها مدة 3 أشهر، رغم ما تتطلبه عملية تنظيف المراحيض من مياه ومواد نظافة كافية، أما اللباس فهو عبارة عن وزرة تحمل اسم الشركة، تضطر كل عاملة إلى استعمالها طيلة السنة، ونادرا ما يحصلن على قفازات للوقاية خلال قيامهن بهذه الأعمال، مما “يعرضهن لمخاطر المحاليل التي يستعملنها في التنظيف” حسب تقرير أوكسفام.

وإذا كانت عاملات النظافة يعانين، خلال الأربع ساعات التي يقضينها داخل المؤسسات التعليمية، فإن عاملات الطبخ هن الأخريات يعانين كثيرا، ويضطررن إلى العمل من 6 صباحا إلى 10 ليلا، ولمدة تتجاوز أحيانا 12 ساعة بالداخليات في المؤسسات التعليمية، حيث يتكلفن بإعداد وجبات الفطور والغذاء والعشاء، ولا يتقاضين أي مقابل عن الساعات الإضافية التي يعملنها، كما يشتغلن طيلة أيام الأسبوع دون توقف.

وتعيش أغلب العاملات، اللائي استمعت إليهن “هوامش”، ضغوطا داخل المؤسسات التعليمية من خلال تكليفهن ببعض الأعمال الشاقة كالبستنة، بشكل لا يتماشى والأجر الهزيل الذي يتقاضينه خلال عملهن اليومي، والذي يبقى دون الحد الأدنى للأجور الذي نصت عليه مدونة الشغل، والاتفاقيات المبرمة بين الحكومة والنقابات في إطار جلسات الحوار الاجتماعي، أو خلال الحوارات القطاعية، والمحدد في 14.81 درهم للساعة. 

حفيظة عاملة في عقدها الخامس تقول “نضطر في الكثير من الأحيان إلى القيام بأعمال خارج أوقات العمل المحددة، وأحيانا بمهام إضافية دون تعويض عن ذلك”.  

وتضيف حفيظة، أن قيامهن بهذه الأشغال راجع إلى تخوفهن من فقدان الشغل، وهن في أمس الحاجة إليه، لإعالة أسرهن ومواجهة تكاليف الحياة الصعبة. 

هذا الأمر كشف عنه قاشا لهوامش حينما قال إنه في إحدى المؤسسات التعليمية التابعة للمديرية الإقليمية لخنيفرة “تم طرد عاملات نظافة بسبب احتجاجهن ومطالبتهن باحترام دفتر التحملات من طرف الشركة المشغلة”. 

يشتغلن كثيرا ويتقاضَين قليلا

تلجأ الكثير من الشركات إلى التملص من التصريح بالعاملات في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي والتغطية الصحية، وصرف تعويضاتهن العائلية، ومنحهن تعويضات عن العطل، والتأمين عن حوادث الشغل التي يتعرضن لها أثناء عملهن، كما لا يتم احترام الحد الأدنى للأجور، فضلا عن عدم توصلهن بالأجور في وقتها، وعدم التعويض عن الساعات الإضافية، وغيرها من الالتزامات الواردة في دفاتر التحملات، كما تشير تقارير ومراسلات حصلت عليها هوامش.

ورغم هزالة الأجور، يجدن أنفسهن ينتظرن شهورا لصرف هذه الرواتب، وأحيانا يتم صرف جزء منها وينتظرن أشهرا أخرى للتوصل بالباقي، وقد يكتفي أرباب هذه الشركات بتحويل نصف الأجر الشهري فقط، رغم ما يترتب عن ذلك من نتائج اقتصادية تؤثر على الاستقرار الاجتماعي والأسري للعاملات، في غياب تام للجهات المسؤولة، التي لم تتدخل في كثير من الأحيان لتوجيه ومراقبة هذه الشركات. 

وفي هذا الصدد يقول قاشا “الأجور في هذا القطاع، على مستوى جهة بني ملال خنيفرة، على سبيل المثال، ولا تبلغ حتى نصف الحد الأدنى للأجور، أي لا توفر الحد الأدنى للعيش أمام ارتفاع تكاليف الحياة، هذا الواقع يدعم تجريد عاملات النظافة والطبخ من حقوقهن كعاملات أولا، وكمواطنات ثانيا، وكبشر أخيرا من طرف هؤلاء الذين يغرزون أظافرهم في المدرسة”. 

هذا الوضع مستمر منذ 15 سنة على الأقل، حسب مراسلات للنقابات التي تؤطر هذه الفئة، حصلت عليها هوامش، وهو ما يؤكده العمال والعاملات الذين قابلتهم هوامش، يقول حسن، وهو حارس أمن في إحدى المؤسسات التعليمية، “هذا هو الوضع منذ بداية عملي في هذا المجال، قبل أكثر من 10 سنوات، ولم يتغير رغم كل الوعود التي تلقيناها، بل إن المديريات الإقليمية تجدد الصفقات لهذه الشركات أو لأصحابها بشركات جديدة دون الحرص على أن نأخذ حقوقنا أو أن تكون العقود منصفة”.

أمام هذا الوضع تلجأ العاملات إلى تنظيم وقفات احتجاجية واعتصامات أمام المديريات الإقليمية لوزارة التربية الوطنية، لتنبيه المسؤولين إلى ما وصلت إليه حالتهن جراء غياب تطبيق القانون، وفي الكثير من المناسبات عليهن انتظار نتائج الدعاوى المرفوعة ضد بعض الشركات، كما هو الشأن بالنسبة لعمال شركة “سيراز ديكوراسيون” في ملف الدعوى التي عرضت على أنظار المحكمة الابتدائية بالفقيه بن صالح تحت رقم 214/213، والذي صدر بصددها حكم لفائدة العمال سنة 2014.

وضع تقول عنه إحدى العاملات التي قابلتهن هوامش: “إنه وضع صعب لأن أغلب تلك العاملات إما مطلقات أو أرامل ولديهن أطفال، ويرغبن في العيش بكرامة (طرف الخبز بالحلال)، لكنهن يفاجأن أنهن يشتغلن كثيرا ويتقاضين القليل، وفي أحايين كثيرة يتقاضين خلال أربعة أشهر، أجرة شهر واحد فقط، أي ما يعادل حوالي 1000 درهم”.

وتضيف المتحدثة، أن “هناك من عاملات الطبخ من يشتغلن أزيد من 12 ساعة بدون أي تعويض، وهناك من تضطر إلى بيع أثاثها لمواجهة المصاريف اليومية للحياة، كل هذا يحدث على مرأى ومسمع من المسؤولين”. 

وتواصل المتحدثة “لقد وجهنا الكثير من المراسلات والشكايات للعديد من المؤسسات المعنية، بشأن الخروقات التي تطال حقوق العاملات لكن دون جدوى”.

“إن التجاهل وهضم الحقوق هي المكافأة التي تحصل عليها هؤلاء العاملات، وهن يكدحن داخل المؤسسات التعليمية العمومية، من أجل إعداد الوجبات للتلاميذ الداخليين وجعل المدارس نظيفة”، تختم حديثها.

إقرأوا أيضاً:

من نفس المنطقة:

magnifiercrosschevron-down linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram