أسامة باجي
“إن أقرب المقربين من المتصوف وغير المطلعين على حقيقة التصوف، يقابلونك بالنقد عن غير معرفة، وبشكل سلبي ورافض. أعتبر ذلك ضريبة “معرفة الله”، وهذا الأمر عانى منه عبر التاريخ كل “أهل الله” فهناك من قذفهم وهناك من سبهم، والقليل من كان يحسن بهم ويعاملهم بلين”. هكذا تحدث شاب مريد للطريقة الكركرية. هي طقوس وأوراد وبحث عن “إحسان” ما، تلتقطه هوامش أنفو في هذا الملف، من منظور “أهل الله”.
يقول خالد التوزاني، الباحث في التصوف والأدب والجماليات، ورئيس المركز المغربي للاستثمار الثقافي “مساق”، (يعتبر) في تصريحه لهوامش، “يفترض أن يكون النزوح إلى الصوفية مرتبطا بمقاصد دينية وأخلاقية ووطنية؛ تتمثل في العودة إلى الهوية المغربية في بعدها الديني الأصيل، ومعلومٌ بأنَّ التصوف في المغرب ليس مجرد طقوس أو زوايا أو طرق معينة، وإنما هو مكون أساسي من مكونات الهوية”.
في رحلتنا للتعرف أكثر عن “المتصوف”، والاجابة عن الأسئلة التي يطرحها العديد من الشباب حول ظاهرة نزوح البعض إلى مجموعات ”أهل الله” للانتقال من درجة “الإسلام” إلى ”الإحسان”، إلتقينا عبد الله (إسم مستعار) وهو من مريدي الطريقة الكركرية، لصاحبها أبو عبد الله محمد فوزي الكركري المعروف بالكركري، وهو مؤلف وأحد شيوخ الصوفية في المغرب.
“قبل تصوفي كنت أصلي وأعبد الله ومع ذلك كنت ضالا؛ كنت مدمنا على الجنس، وإذا لم أملك مالا كنت أقضي وطري في العادة السرية، واكتشفت حينها أني مدمن، ولم أجد حلا حتى دخلت للطريقة الكركرية، و”الورد” (جزء من القرآن) الذي أقرأه أعطاني قوة، ومنذ ذلك الحين ما استمنيت ولا ذهبت لبائعة جنس” يقول عبد الله.
وتهدف هذه الطريقة، حسب عبد الله “إلى إيصال العباد إلى تحقيق مقام الإحسان حتى يتمكنوا من الجمع بين العبادة والشهود. ويَفصل المريد عبد الله في حديثه لهوامش “بين التصوف “السني” النظري والتصوف التطبيقي”، ويقول “إن الطريقة الكركرية، تختلف عن باقي الطرق. إنها تزاوج بين النظري والممارسة”. أما باقي الطرق، في نظره، تقتصر على الجانب النظري فقط.
وفي موقع اليوتيوب لا تتوقف شهادات المريدين الذين يعتقدون أنهم “شاهدوا” النبي، والبيت المعمور والملائكة ومخلوقات غريبة، والأراضي والسموات السبع. ويقول مريد الزاوية الكركرية عبد الله أنه سمع شيخ الطريقة الكركرية يقول في إحدى حكمه: “من لم “يشاهد” لست أنا بشيخه وليس هو بمريدي”، ويضيف “كنت في مجمع الطريقة أقرأ “الوِرد” (جزء من القرآن) حتى بدأت أشعر بأن روحي خفيفة، كنت جالسا معهم وأشعر وكأني أحلق”.
يوسف المساتي، وهو باحث في التاريخ وعلوم الآثار والتراث بمركز مراجعات للدراسات والأبحاث ومهتم بالتصوف، يقول إن موضوع التصوف معقد، يسلتزم مقاربات متعددة تاريخية، أنثروبولوجية، وسوسيولوجية؛ معتقدا أن “نزوح شباب اليوم نحو التصوف يبدو عاديا وطبيعيا باعتبار سياقاته العامة، منها التشجيع السياسي للتيارات الصوفية كمقابل للتيارات الجهادية والمتطرفة، وهذا التشجيع يبدو واضحا من خلال تنامي الأدب والفن الصوفيين بشكل لافت في السنوات الأخيرة، وأصبحت الروايات والأغاني والأفلام ذات الطابع الصوفي تعرف إقبالا كبيرا من طرف الشباب وغيرهم”.
ويرى الباحث في التراث الصوفي، إن التصوف النظري أو العرفاني، لم يكن مدارسا أو زوايا، بل كان تأملات في الكون نهلت من مؤثرات إسلامية وغير إسلامية أيضا تعبر عنها أبيات ابن عربي: “لقد صار قلبي قابلا كل صورة”، وبالتالي هو نوع من التأمل أو الاجتهاد الخاص بأصحابه (طواسين الحلاج وإشراقات ابن عربي ومنطق الطير للعطار وغيرهم)، أما التصوف الطرقي فهو التحول نحو المدارس الصوفية التي تتضمن مقرات خاصة تمارس فيها طقوسها الخاصة والمتميزة وفق تراتبية اجتماعية او دينية او تعليمية ووفق قواعد منظمة. يمكن القول إنه التحول من التأمل والنظر الحر المستلهم من كل المنابع الفكرية الموجودة إلى المأسسة والتقعيد.
يقول (جمال) مريد آخر في بوح لهوامش “أجد في التصوف ضالتي، رغم أن البعض ينعتنا بالشرك والمبتدعة والكفر، الفرق الوحيد بين المسلم والمسلم المتصوف، هو الاجتهاد بالنوافل اليومية وقيام الليل”. ويضيف مستدركا “يجب على الإنسان أن يطمح للتصوف، ليصل إلى درجة الإحسان وأن يعبد الله كأنه يراه”.
يركز هذا المريد على مسألة روحية محضة. يحكي أن التصوف نقلته من درجة سفلية إلى مقام عال. “الطريقة غيرت مني كثيرا، وهذا هو التصوف؛ هو مجاهدة النفس والارتقاء من شقها الأمّار بالسوء إلى شقها اللوام، ثم بلوغ شكلها الأرقى.
حسب ما أوضحه الباحث يوسف المساتي لهوامش، فإن التشجيع أو الدعم السياسي المباشر وغير المباشر وحده لا يفسر اعتناق الشباب للصوفية، بل هناك سعي من منهم للبحث عن أجوبة فشلت المؤسسات الفقهية في تقديمها، خاصة مع التحولات المتسارعة. إضافة لهذا، فقد كان من الطبيعي أن تحرك مشاهد الدماء المقترنة بالعنف الديني، الرغبة في البحث عن تدين أكثر إنسانية، وهنا يرتبط التصوف بالجانب النفسي للشاب، ففي ظل عولمة المنظومات القيمية، أصبح الاتجاه نحو المشترك الإنساني حاضرا بقوة، وذلك مكمن قوة التصوف، إذ يجمع بين المشترك الجماعي الإنساني والفردانية.
المساتي، الذي يعتنق التصوف المنفلت من ضوابط الزوايا، يرى أن التصوف حاضر في تاريخ المجتمعات (على اختلاف تسمياتها) منذ قرون، كان يمتد أحيانا ثم يخبو أحيانا أخرى، بحسب السياقات العامة، بل نحن في لحظة انتعاشة للمد الصوفي قد تعقبها لحظة انحسار أو ربما انفتاح على أفق انساني يتضمن تصورات تنهل من المشترك الإنساني وتسهم في تطور التجربة الدينية والروحية للأفراد والجماعات.
غير أنه علينا أن نرصد شيئا أساسيا، حسب المساتي، وهو أن “الموقف من التصوف تحكمه عادة الخلفيات والمنطلقات الأيديولوجية والذاتية، وعلى العموم يمكن أن نجمل الرافضين للتصوف، في المؤسسة الدينية التقليدية التي ترى التصوف خروجا عن النسق القويم، والتيارات السلفية التي تعتبر التصوف انحرافا وبدعا، وحتى في بعض رجال التنوير (الجابري بالخصوص) الذين اعتبروا أن التصوف مجرد عرفان لا عقلي يلغي العقل ويبطله، في المقابل هناك من رأى في التصوف أداة لتطوير الخطاب الديني (نصر حامد أبو زيد)”.
يقول خالد التوزاني، الباحث في التصوف والأدب والجماليات، ورئيس المركز المغربي للاستثمار الثقافي “مساق”، في تصريحه لهوامش، إن التصوف من صميم الهوية المغربية، ولا غرابة أن يكون التصوف ضمن اهتمامات الشباب المغربي المتدين، وخاصة ذلك النمط المتشبّع بقيم الوسطية والاعتدال والمتشبث بالعادات والتقاليد المغربية، فنجده يطرب بالسماع الصوفي ويحمل السبحة بين يديه، ويرتدي اللباس المغربي التقليدي، وقد يرتدي بعض الأزياء الصوفية كما هو مألوف عند بعض الطرق وعلى رأسها الكركرية.
لكن، ثمة فرضية ثانية يعتقد الباحث أنها قد ترتبط بمقاصد علمية ومعرفية؛ تتمثل في دافع الاكتشاف والاستجابة لداعي الفضول ومعرفة خبايا الزوايا وخفايا الشيوخ والأولياء، باعتباره موضوعاً معقداً يصعب فهمه دون الدخول إليه.
كما يقدم الباحث فرضية ثالثة، يعتبرها “مرتبطة بغايات نفسية، مثل تحقيق الشعور بالانتماء والإحساس بروح الجماعة وبلوغ الأمن الروحي والاطمئنان القلبي عن طريق الممارسات الصوفية وعلى رأسها الذكر والحضرة وغير ذلك من أدوات التصوف، التي تلبي الحاجات النفسية وتحقق نوعاً من الأمن وخاصة تلك الأجواء الأخوية التي تطبع العلاقات بين المريدين والشيخ، وتحقّق التواصل وتبادل المنافع بين المنتسبين للطريقة الواحدة، بحيث يشعر المريد بالحماية”.
من بين الفرضيات الأخرى، التي يذكرها التوزاني، ما هو متصل بعوامل اقتصادية، “إذ يعاني بعض الشباب من البطالة ويبحث في التصوف عن بعض الفرص الممكنة، أو الاقتراب من شيخ الطريقة أو بعض أقاربه أو المريدين ممن لديهم المؤهلات المادية بغية مساعدة هؤلاء الشباب في مشاريع أو توجيهات ضمن تبادل الخبرات، خاصة وأن الانتماء إلى طريقة واحدة يساعد على التواصل من هذا النوع”.
و يعتقد الباحث أن البعض من هؤلاء الشباب يرتمي في أحضان الإلحاد فيُنكر كل شيء ويجد ذاته في العودة إلى نقطة الصفر، لتأسيس معرفة عقلانية، قد تقود إلى الإيمان، وقد لا تقود إليه. أما الانتماء للتصوف فيخضع للفرضيات السابقة، وفق التوزاني، في حين أن الإلحاد يمثل تمرداً على الحركات المتشدّدة، وهنا ليس بالضرورة أن تكون إسلامية.