الرئيسية

تحقيق : “هوامش” تقتحم عالم استغلال المهاجرين المغاربة بضيعات “الفريز” في إسبانيا 

(ويلبا)، جنوب غرب إسبانيا. مدينة مينائية جميلة هادئة تميزها عمارات أندلسية راقية مطلة على البحر. غير بعيد من ويلبا، انطلقت الرحلة الاستكشافية الأولى لكريستوفر كولومبوس. لكن، خلف تاريخها العريق وجمالها الطبيعي، تختفي الكثير من القصص المأساوية التي يعيشها اليوم مهاجرون ومهاجرات مغاربة في مزارع الفراولة ("الفريز"). (هوامش) اقتحمت عالم استغلال المهاجرين غير النظاميين والتقت ضحاياها الذين يحكون لأول مرة، بالصوت والصورة وبعيداً عن لغة الخشب، قصصاً درامية لحياة أقسى أحياناً مما تركوه خلفهم في المغرب، لكن يتحملونها "طوعاً" أملاً في وضعية أفضل وصوناً لما تبقى من الكرامة. تحقيق.

أحمد الشرقي   

معاناة البدايات 

محطة ويلبا Huelva (جنوب غرب اسبانيا)، الخميس 10 مارس 2022، الساعة العاشرة ليلاً، المكان شبه خالٍ إلّا من بعض المسافرين والمارة. عليَّ الآن أن أستقل حافلة إلى الحي الذي استأجرت فيه شقة “آير بي إن بي” لبضعة أيام. عدم تمكني من اللغة الاسبانية لم يسهل مهمتي في طلب المساعدة. كل الذين توجهت إليهم بالسؤال بدوا مستعجلين ولم يفهموا كلامي. اضطررت للمشي حوالي أربعين دقيقة في طقس ممطر وبارد. مستعيناً بهاتفي الذكي تمكنت أخيراً من إيجاد العنوان. العمارات أندلسية فاخرة ولا أثر لأي شكل من أشكال المعاناة التي سمعت عنها والتي جئت لتغطيتها. من وطأة التعب الذي خلفته رحلة من عشرات الساعات خلدت للنوم.

مدينة ويلبا Hawamich©

اليوم الأول : ” كل هذا كي أرسل المال لوالدتي الفقيرة”

الساعة التاسعة من صباح “الجمعة” انطلقت مهمتي للإجابة عن العديد من الأسئلة. وأول ما تبادر إلى ذهني هو التظاهر بالبحث عن عمل. خرجت إلى شوارع “ويلبا”، ولم يكن سهلاً البحث عن شخص يتكلم لغتي الأم (العربية) أو حتى الفرنسية أو الانجليزية. بعد أن كدت أفقد كل أمل، لمحت شاباً إفريقياً مبتسماً بدت عليه ملامح اللطف وسألته بلغة فرنسية “هل يمكنك مساعدتي في إيجاد أشخاص يتكلمون اللغة العربية لمساعدتي في الحصول على عمل؟” لم يتوانَ ذلك الشاب عن تقديم المساعدة. قام بأخذي نحو مكان قريب، موضحاً أنني سأجد ضالتي هناك. بينما كنت أودعه شاكراً، اتجه نحوي شاب بملامح مغاربية وبادرني بالسؤال : “خويا علاش كاتقلب؟” أجبته سريعاً أنني أبحث عن عمل، ثم بدأنا نتعارف. اسمه “عمر: وهو في أواخر العشرينيات من عمره. حكى لي “عمر” أنه وصل قبل خمس سنوات إلى إسبانيا عبر قوارب الموت. ” كل هذا كي أرسل المال لوالدتي الفقيرة وأرد لها بعضاً من الجميل. قضيت في البحر زهاء (72) ساعة…”، يتذكر عمر بعيون حزينة. اختار الشاب عمر إسبانيا لأن القانون الإسباني يتيح لحامل الجنسية المغربية إقامة شرعية بعد ثلاث سنوات من وجوده على الأراضي الإسبانية. لوضع كل فرص النجاح إلى جانبه، قام “عمر” بتوكيل محامي ليقوم بإجراءات طلب الإقامة التي تتطلب جمع كل الوثائق اللازمة لإثبات تواجده في الأراضي الإسبانية، منذ وصوله إلى إسبانيا قبل خمس سنوات. ” كل الأوراق تفيد في تقديم الطلب : شهادة السكن، إيصالات تحويل الأموال للمغرب، وحتى وصفات الطبيب”. يقول ” عمر” : ” أعمل في الفلاحة بإقليم أندلسية نواحي ويلبا. “…” العمل شاق للغاية هنا. أنا أشتغل (7) ساعات يومياً مقابل (42) يورو” (443 درهم).

زقاق ويلبا Hawamich©

ما بين حسن الضيافة والاستغلال

عندما سألت عمر عن إمكانية حصولي على عمل، أخبرني بأن الأمور ليست بتلك السهولة التي أظن، بالأخص على الذين لا يملكون أوراقاً. لكنه وافق على مساعدتي من أجل المحاولة. اقترح اصطحابي إلى “موغير” المعروفة بتجمعات مغربية. صعدنا الحافلة، ولم يتوقف “عمر” عن مفاجأتي بـ”حسن ضيافته” إذ، على الرغم من وضعه المادي المتواضع، أصرّ على دفع قيمة تذكرتي. مقدراً موقفه الكريم، رفضت وشكرته كثيراً. 

وصلنا إلى “موغير”. المكان أشبه بقرية بأبنية أندلسية. شعرتُ أنني في المغرب. مجموعات من الشباب المغاربة يفترشون الأرض حتى في محيط الطرقات. نبهني” عمر” أن أنتبه وألا أقترب كثيراً منهم وقال “المنطقة موبوءة والشباب يتعاطون المخدرات. يكفي أن تتوقف سيارة شرطة فيدس لك أحدهم المخدرات في أغراضك”. قبل أن يفارقني، طمأنني “عمر” أنني سأجد عملاً هنا، ولكن بأجر متواضع وأقل من المعتاد، وتمنى لي حظاً موفقاً.

مدخل موغير Hawamich©

يتجمع العديد من المغاربة في “موغير” أمام محل “ميركادونا” الاسباني في انتظار سيارات تقلهم مجاناً نحو مكان سكنهم أو إلى مزارع “الفريز” غير بعيد توجد حانة يتجمع الشباب أمامها لاقتناء الحشيش أو السجائر. مشاهد الشباب وهم يدخنون السيجارة الواحدة تغني عن أي وصف لأحوالهم المادية. رغم ذلك، تنتشر بكثرة في “موغير” وكالات تحويل الأموال مع لوحات إشهارية مكتوبة باللغة العربية “أرسل أموالك إلى المغرب”. كما يمكن للمغاربة التسوق من المتاجر والمجازر العربية التي توفر المواد “الحلال”.

إشهارات : ارسل اموالك للمغرب

خلال رحلتي لاكتشاف ظروف عمل المغاربة هنا في إسبانيا، توجهت نحو الساحة المركزية لـ”موغير”. المغاربة هنا يطلقون عليها “لا بلاصا” (أي “الساحة” بالاسبانية). أثار انتباهي مجموعة من الشبان يتحلقون حول سيدة مغربية، في منتصف الأربعين من العمر. بلباس عصري وحجاب ووجه تغطيه مساحيق التجميل، تتحدث السيدة بكاريزما كبيرة فيما ينصت الجميع إلى نصائحها وتوجيهاتها عن كيفية الحصول على عمل في الفلاحة، خاصة جمع الفراولة (الفريز). بصوت مرتفع نبهتهم السيدة إلى أن إيجاد عمل دون أوراق أمر مستحيل. وتكمل قائلة: “يمكنكم، في المقابل، الحصول على أوراق عبر شرائها من شخص آخر”. يتّبع بعض المغاربة هذه الطريقة في سبيل الحصول على أوراق أوروبية تمكنهم من العمل. يشترون عقداً من شخص مغربي آخر مقابل إعطائه نصف أجرتهم من العمل. لم تكمل السيدة كلامها إذ اقتربت أربعة عناصر من أفراد الشرطة مستفسرة، على ما يبدو، عن سر وجود كل هؤلاء الناس حولها. دار الحديث باللغة الإسبانية، لذلك لم أستطع فهم كل ما دار بينهم. انصرفت الشرطة فقامت السيدة بطمأنة الشباب أنهم سألوها فقط حول ما تفعله، وتابعت ببساطة أنها تحاول مساعدة هؤلاء الشباب للحصول على فرص عمل.

ساحة موغير Hawamich©

دفعني حديثها هذا إلى التجرؤ والاقتراب منها. سألتها كي أتأكد “هل يمكنني أن أحصل على عمل دون أوراق؟” أجابتني بسرعة وثقة: “الآن، مستحيل!” ثم تابعت “أن ذلك ممكن ولكن في الشهر الرابع، حينها يمكن للجميع العمل فالطقس يصبح دافئاً، وهذا يساهم في سرعة ‘نضج “الفريز” ، وحينها سيحتاجون الكثير من العمال”. ثم تختم قائلة “أنا فقط أريد مساعدة الناس لوجه الله”.

لابلاصة- موغير Hawamich©

“عيشة الدبانة فالبطانة” 

انصرفت السيدة فاقترب مني شاب اسمه ” طارق” يعمل في قطف “الفريز”. شرح لي أن شراء أوراق أمر لا مفر منه للحصول على عمل. بجسم نحيل، يبدو ” طارق” متعباً رغم أنه في الأربعينيات من عمره. وصل “طارق” إلى إيطاليا رفقة اخوته عندما كان يبلغ الثالثة عشر من العمر، قبل أن ينتقل إلى إسبانيا.

يقول إنه أصيب بالصدمة بسبب قدومه إلى أوروبا. “كنت عايش عيشة مزيانة في المغرب” (كنت أعيش حياة جيدة في المغرب). فضوله لاكتشاف أوروبا هو الذي دفعه ليخوض المغامرة في هذا العمر الصغير. 

يحدثني عن المعاناة التي يعيشها في القرى حول “ويلبا” ، “ما لقيتش الخدمة. المعيشة صعيبة بزاف على الناس اللي ما عندهمش أوراق. وحتى اللي عندهم أوراق كيما تنقولوا غير كايسلكوا” (لم أجد عملاً. الكثيرون بلا أوراق والحياة صعبة على من ليس في وضعية قانونية. حتى أولئك الذين يتوفرون على أوراق ليست أمورهم على ما يرام). “الناس هنا تستطيع تدبر أمرها لتوفر سبل العيش” يكمل لي” طارق” حديثه عن القرية ولماذا قد تكون وجهة لأغلب المغاربة. “إن وجود عدد منهم هنا يجعل المرء مطمئناً لوجود من يساعده. نحن نتضامن مع بعضنا البعض كثيرًا”. ليست فرص العمل المتاحة في هذه البلدة هي السبب الوحيد لوصول أعداد كبيرة من المغاربة. هناك أيضاً إمكانية الحصول على الإقامة الذي يعد سبباً رئيسياً، فعندما يحصل المهاجر غير النظامي على ”كونترا” (عقد عمل)، يمكنه التقدم بطلب أوراق الإقامة، وبالتالي التحرر من عبودية الاستغلال.

من المبيت في العراء إلى السقوط في الإدمان 

يتابع “طارق” : “الأوراق النظامية هنا ليست بحاجة دائماً إلى المال.” 80% من الناس يشترون أوراقهم، وفقط 20% منهم يحصلون على الإقامة بدون مال، وبالطبع هناك سماسرة يستغلون هذه الأوضاع”. يعطي “طارق” مثال التشغيل بأجور أقل الذي “ينضاف الى التفاوت الموجود أصلاً بين العامل الإسباني والمغربي”. 

تجاذبت أطراف الحديث مع “طارق” بخصوص ظاهرة تشغيل الأطفال القاصرين الذين يصلون إلى هنا هرباً من الأوضاع العامة في المغرب. 

يتحسر” طارق” على حالهم في هذه المدينة إذ يأتون بلا عائلة معرضين أنفسهم لأخطار عديدة دون أن ترعاهم الحكومة رغم أعمارهم الصغيرة. ” ينامون في الشوارع لفترة قبل أن يكتشفوا الخمر والحشيش بأسعاره المنخفضة. منهم من يسرق أحياناً من أجل العيش…”. يقول “طارق” أن “ويلبا” هي البلدة الوحيدة هنا التي يخال المرء أنها أفريقية”.

تشكل النساء نسبة هامة من عاملات الحقول. يرسل المغرب كل سنة ما يعادل (15) ألف عاملة “في إطار المحادثات التي جرت بين المغرب وإسبانيا بخصوص الموسم الفلاحي 2022 والتي توصل فيها الجانبان إلى اتفاق يتم بموجبه انتقال (15) ألف عاملة مغربية إلى إسبانيا للاشتغال في حقول الفراولة”..

بحسب “طارق” لا ينال هؤلاء كل حقوقهن ولا يتوفرن على مقومات العيش كما أنهن يتعرضن للتحرش الجنسي والإغتصاب. عندما تطرقنا لموضوع السكن والعيش في القرية، تنهد ” طارق” قائلاً : “المأساة التي رأيتها هنا في إسبانيا والله لم أرها في أي مكان آخر. إنهم عديمو الإنسانية مع الصغير والكبير”.

ظروف سكن مأساوية : عندما يعجز اللسان عن التعبير 

سكن المهاجرين المغاربة في موغير Hawamich©

في صباح يوم السبت الموافق للثاني عشر من مارس قررت التوجه نحو مدخل المدينة كما نصحني بذلك “طارق”. هناك يجتمع العمال باكراً، كل صباح، في انتظار أرباب العمل لنقلهم إلى المزارع وباقي أماكن العمل الأخرى. إلا أنني عندما وصلت إلى هناك فوجئت أني لم أجد أحداً، وعندما سألت “طارق” أجابني أن الجو بارد وكما يبدو ليس هناك عمل اليوم. 

عدت إلى وسط المدينة مجدداً في محاولة جديدة لرؤية أشخاص قد يساعدوني على ايجاد عمل لإقتحام عالم قطف “الفريز” وظروف العمال المغاربة. لكن الجو في الخارج لم يكن جيداً، ولا أثر للناس في المكان. توقفت على مقربة من ثلاثة شبان كانوا يتفاوضون مع رجل مغربي كبير السن حول إيجار المنزل. العجوز كان يطلب (350) يورو شهرياً فيما كانوا يحاولون تقليصها إلى (300) يورو. رغم الأخذ والرد لم يصل الطرفان إلى أي اتفاق. اقتربت منهم أسألهم عن أحوالهم بشكل عام وأخبرتهم أنني أبحث عن عمل هنا. ردوا أنهم يعيشون في منطقة بعيدة ولكنهم يريدون الانتقال إلى “موغير” للعمل في جمع الثمار الحمراء. كانوا ثلاثة علال وهشام وشاب ثالث لم يفصح عن اسمه. طلب الأخير من علال أن يقرضه النقود لشراء دخان (سجائر). بعد إصرار قام بإعطائه المال لشراء علبة سجائر سحبوا منها سيجارة واحدة تناوبوا على تدخينها وهم يسيرون إلى جانبي.

في صباح اليوم التالي التقيتهم من جديد فأخبروني أنهم نجحوا أخيراً في اقناع العجوز واستطاعوا بذلك أخيراً الحصول على بيت. لقد تجاوزوا أصعب عقبة على الإطلاق في “ويلبا” ويمكنهم الآن الشروع في البحث عن العمل.

مدخل مزارع الفراولة

بعدما يئست من الحصول على عمل عن طريق تقمص دور شخص بلا أوراق، قررت أن أخبر الشباب الذين تعرفت عليهم حتى الآن في “موغير” بأنني صحافي. جلست مع عبد الإله وأحمد. وصل “أحمد” إلى إسبانيا، وهو طفل، عن طريق لمّ شمل عائلي (التجمع العائلي). أما عبد الإله، وهو شاب لطيف في الثلاثين من عمره، فقد وصل إلى إسبانيا عبر قوارب الموت قادماً من مدينة الداخلة (الصحراء) منذ سنة ونصف. وهو يحاول التغلب على خجله الشديد، أخبرني أنه ليس لديه شيء ليقوله، إلا أنه دعاني لـ مكان اقامته الذي يفتقر إلى أدنى مقومات العيش فهمت أنه كان يريد في الحقيقة أن أرى بعيني ما لم يستطع قوله بلسانه : خيمة نصبها باستخدام أقمشة وأغطية بلاستيكية وبقايا خشب.

بعد دقائق نادى عبد الإله على شابين يسكنان معه، هما إسماعيل ورضوان. عرفهما عليّ أنني صحفي أريد أن أصور المكان الذي يعيشون فيه جميعاً. رحبوا بي واتفقنا على اللقاء. 

في اليوم التالي. تابعنا حديثنا حول المعيشة وتجاربهم السيئة مع أبناء وطنهم. أخبرني “رضوان” وهو شاب بلحية كثيفة أنه كان يعمل في حقول الزيتون من الساعة الثامنة صباحاً وحتى الثامنة مساءً لصالح شخص مغربي مقابل “20” يورو في اليوم (200 درهم). “لم أر من الإسبان معاملة سيئة كالتي عشتها مع اخوتنا المغاربة المحسوبين على المسلمين”. بسبب ضعف مواردهم، يسكن الثلاثة (إسماعيل ورضوان وعبد الإله) في الغابة بين مزارع الفراولة في “تشابولات” (أكواخ باللغة الاسبانية). وافقوا على أن أزور مساكنهم للتصوير. 

التشابولا Hawamich©

أطفال قاصرون..  في طريق الضياع

في صباح اليوم الموالي، ركبت سيارة أجرة متجهاً إلى مسكن عبد الإله برفقة” طارق”، الشاب الذي تعرفت عليه في يومي الأول من وصولي إلى “ويلبا”. كانت السماء تمطر. كان السائق، جواد، يحدثني عمّا يجري في “ويلبا” ونواحيها. ركز كثيراً على وضع الأطفال القاصرين. “أخي، من يبحث عن عمل هنا سيجده. المشكلة أن البعض، خاصة من القاصرين، يأتون هنا فقط ليجلسوا دون عمل ويدخنوا الحشيش، بعدما ضحت عائلاتهم في المغرب بكل ما تملك. منها من باع قطعة أرض أو رؤوس ماشية أو حتى بطلب قرض ليتمكنوا من إرسال أبنائهم بهذا المال عبر قوارب الموت، آملين أن يساعدوهم فيما بعد. لكن مع الأسف معظم هؤلاء الأطفال لا يجدون من يهتم بهم عندما يصلون إلى هنا، فيشرعون في استهلاك المخدرات أو حتى الاتجار فيها.” هنا، لا يتجاوز سعر سيجارة حشيش الـ (1) يورو والكوكايين (5) يورو، بحسب ” جواد” الذي يؤكد بحرقة كبيرة أن “أوضاع الأطفال القاصرين هنا مأساوية، إنهم ضائعون” بحسبه.

 سراب “الفردوس الأوروبي”

يقود “جواد” سيارة الأجرة برخصة مغربية وهو أمر ممنوع في إسبانيا وتصل مخالفته حتى (500) يورو. على الرغم من إمكانية حصوله على رخصة إسبانية، خصوصاً بعد وجود حملات مخصصة من قبل الجمعيات القانونية تشجع على تبديل شهادة القيادة، إلا أن ” جواد” يصّر على أن عائلته أولى بالمال من الإدارة الإسبانية. فعائلته في أمسِّ الحاجة إليه لتسديد مصاريف العيش وإيجار المنزل.

لم يكن الوضع مطمئناً نظراً إلى أن الشرطة الإسبانية تقف على مفترق الطرق الذي يؤدي إلى مزارع “الفراولة”، والذي يعبره بشكل مطلق أولئك المهاجرين الذين يعملون هناك، توقف الشرطة سيارات المهاجرين للتأكد من أوراقهم الثبوتية، وفي معظم الأحيان تتم مخالفتهم كما في هذه الصورة التي تمكنت من التقاطها، لقد غرّم الشاب بمبلغ “500” يورو.

توقيف سائق مغربي في موغير Hawamich©

وصلنا أخيراً إلى وجهتنا، كان منزل الشباب الثلاثة يقع في وسط الغابة على مقربة من مزارع “الفراولة”. عندما دخلنا كانوا يشعلون ناراً بجانب الكوزين (المطبخ) أمام “التشابولات” ويحضرون لنا الشاي المغربي. 

رغم الظروف السيئة حولهم إلا أننا جلسنا حول النار وقد صبّوا لنا الشاي في كأسين ليسا بأفضل حال في الحقيقة، وتشارك شابان الشرب من كأس الشاي نفسه.

يوجد شبان آخرون معهم في هذا المكان السيء، يعيشون بأوضاع مشابهة، وضمن ظروف معيشية لا ترقى للحياة العادية حتى. قام أحد الشباب بتقطيع عجينة كان قد أعدت سابقاً، ووضع القطع داخل قطعة قماش مبللة ومتسخة للغاية. بدأ الشاب بإعداد الخبز بعد أن وضع وعاءاً على النار، بيد أن الوعاء لم يكن أفضل حالاً من قطعة القماش.

هنا لا وجود للكهرباء. يعيش الشباب في شبه ظلمة. حتى الشموع يتفادون إشعالها حرصاً على أن لا تحترق “التشابولة”، المكونة من خشب وقماش وأكياس. يشحن الشباب هواتفهم المهترئة في المدينة، ويحضرون الماء من مكان داخل مزارع “الفريز” يسمى “كامبو”. 

سألتهم عن سبب بقائهم في مكان كهذا. أجابوني أن مشكلتهم الرئيسية هي الأوراق الرسمية، فبدونها لا يستطيعون العمل، وبالتالي لا يستطيعون دفع إيجار منزل. يأمل هؤلاء الشباب وآخرون مثلهم، مغادرة هذه الأمكنة إلى فضاءات أفضل تصون كرامتهم وتتوفر فيها المقومات الدنيا للحياة. لمكان أفضل، كل الذين يقطنون في هذه التشابولات يملكون أملاً في أن يخرجوا للعيش بمنزل له جدران وسقف، ويمكنهم أن يشعلوا به شمعاً دون خوف، أو حتى ضوءاً كهربائياً بسيطاً.

عتاب على السلطات المغربية 

منير أحد المهاجرين في حديثه لهوامش

توجهت إلى “تشابولة” آخرى غير التي يسكنها الشبان الثلاثة.، تعرفت هناك على “منير”. ، أخبرني أنه يعيش هنا منذ أكثر من عشرة أعوام. لم يكن حديث منير لطيفاً كالآخرين، لقد كانت طريقته في التكلم حادة بعض الشيء بسبب غضبه وحزنه على أوضاع أبناء بلاده في إسبانيا. يحمّل “منير” المسؤولية مباشرة للملك محمد السادس والحكومة. وأنا أسجل معه حواراً، طلب مني صديق “منير” الذي يقطن معه أن أحذف مقطعاً ينتقد فيه الملك وهمس لمنير “لا نريد مشاكل، تحدث عن الحكومة لكن ليس عن الملك”. أكمل بعد هذه المقاطعة، واستمر بالتحدث قائلاً: “لو أراد فلاح إسباني مضاجعة امرأة مغربية تعمل في حقول الفراولة ضدا على رغبتها فإن هذا في متناوله”. سألته إن كان يقصد التحرش؟ فاعترض على ذلك وأخبرني أن ما يقوله هو الحقيقة التي يجب أن يعرفها العالم، وأن النظام المغربي هو السبب بهذا الحال الذي وصل إليه أبناء المغرب هنا. 

رضوان أحد المهاجرين Hawamich©

في صباح (الثلاثاء) خرجت محاولاً الوصول إلى منطقة إقامة العاملات المغربيات اللواتي يأتين من المغرب كل عام. مرة أخرى لم يساعدني سوء الأحوال الجوية السيئة. ولم أستطع الدخول. في الطريق صادفت عاملتين اثنتين، وصلت إحداهما البارحة ولا تعرف شيئاً بعد، أما الثانية فقد أتت منذ أسبوع وقد بدأت تعمل في قطف الفراولة. قالت لي الأخيرة أنها بخير، وشكرت الملك أيضاً الذي ساهم بإرسالها إلى هنا. تملك أوراقاً نظامية وذلك لأنها تأتي كل عام تعمل في قطف “الفراولة” ثم تعود للمغرب.

تقول أن تعامل الإسبان معها لطيف جداً وأن كل شيء بخير. ثم تابعت حديثها بأن لديها ابناً قاصراً على الحدود مع فرنسا، خرج من الداخلة وهو يقيم وحيداً بلا أوراق، تحسرت متمنية أن يحصل هو الآخر على أوراق رسمية.

جانب من المهاجرات المغربيات

البحث عن مستقبل أفضل …

تابعت جولتي يوم (الأربعاء) واتجهت مجدداً إلى “تشابولة” عبد الكريم برفقة طارق وجواد، وصل عبد الكريم إلى إيطاليا في 2017 عبر ليبيا، وانتقل منها إلى “ويلبا”، وقد سكن في “تشابولة” منذ وصوله ولا يزال حتى الآن يبحث عن فرصة عمل متاحة.

عبد الكريم أمام مسكنه Hawamich©

عدت يوم (الخميس) في محاولة الوصول لعاملات مغربيات أيضاً. كل من قابلتهن رفضن التحدث إلي. التقيت شاباً يدعى “إبراهيم” عمره،  (28) عاماً،  من المغرب أيضاً. وصل إلى فرنسا منذ ثلاث سنوات، هو من منطقة الفقيه بنصالح (نواحي بني ملال). دخل إلى “سبتة” عن طريق شهادة سكنية من الفنيدق.، لقد كان طريقه غريباً، اختبأ في شاحنة نفايات، حتى وصل إلى الخزيرات (Algeciras).عمل في قطف المحاصيل الزراعية في “الميرية” باسبانيا، وأخيراً انتقل إلى “ويلبا”. لم يكن إبراهيم بأفضل حالاً من بقية المغاربة الذين التقيتهم، فهو أيضاً يواجه مشكلة الأوراق، الأمر الذي يجعله عرضة للاستغلال عبر العمل بأجور هزيلة. هو وبقية العمال وتشغيلهم بأجور قليلة ممكناً جداً هناك، كل هذه الأمور تحدث لأن الذي لا يملك أوراقاً بطبيعة الحال لا يملك فرصاً، وهو بحاجة للمال ليعيش ويأكل ويبقى على قيد الحياة. 

يقول إبراهيم أن الحياة في إسبانيا كانت أفضل في السنوات الماضية. كانت أسهل،  “كان الحصول على عمل ممكناً على الأقل، إلا أن الأمور مع الوقت تزداد سوءاً. “لقد كان عام 2022 الأسوأ على الإطلاق من حيث فرص العمل”.

معظم المغاربة الذين قابلتهم أتوا بموافقة عائلاتهم وأحيانا بمساعدة وتشجيع منها. جلهم يقولون أن هدفهم تحسين وضع العائلة في المغرب وكلهم لا ينتظرون سوى إيجاد عقد عمل حتى يتمكنوا من الحصول على أوراق الإقامة والعودة للمغرب لزيارة الوالدين. الظروف أكثر من مأساوية لكن شيئاً ما يدفعهم لتحمل كل هذه المعاناة. من خلال محادثاتي الطويلة معهم يبدو، بالإضافة إلى الرغبة في مستقبل أفضل، أن الأم تلعب دوراً كبيراً في هذه العزيمة والإصرار القويين. لم أذكر أن أحدهم حدثني عن العائلية دون الإشارة إلى الأم بشكل مؤثر. هناك علاقة حب حقيقية بين كل هؤلاء الشباب وأمهاتهم. غادرت “ويلبا” وفي ذهني مشاهد الشباب والنساء في ساحة “موغير” وهم يهاتفون أمهاتهم لساعات بالصوت والصورة عبر تطبيق واتساب. يتدفؤون بأخيلة أحضان الأمهات في انتظار حضن الوطن..

إقرأوا أيضاً:

من نفس المنطقة:

magnifiercrosschevron-down linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram