الرئيسية

تحقيق. في ذكرى محسن فكري، “هوامش” تقتفي مسار الهروب الكبير ”لأبناء الريف” على متن قوارب الموت 

بعد خمس سنوات من حراك الريف ومقتل محسن فكري، "هوامش" تلتقي عدداً من شباب المنطقة الذين غادروا البلاد على متن قوارب الموت. حكوا لنا مغامرات الهروب بتفاصيلها ومخاطرها.  في إطار هذا التحقيق، التقينا بعدد من الناجين من أهوال البحر في نواحي مدينة برشلونة، وفي جلسة شاي ريفية، بدت لنا الصورة أكثر تعقيدا، وباتت خيوط الهروب الكبير ''لأبناء الريف'' تتفكك عبر ما رواه لنا بعض المهاجرين واطلاعنا على أرقام رسمية من المنظمات المعنية بموضوع الهجرة التي تتم عبر ثلاث طرق يتنكبها المرشحون في منطقة الريف للوصول إلى إسبانيا.

هوامش – محمد المساوي

بداية القصة 

في يومٍ مشمس من الصّيف الماضي، قفز شابّان من منطقة أجْدير على متن دراجة مائية وانطلقا مبتعدين عن شاطئ الحسيمة في رحلة نحو أوروبا.  بقدر ما توغل إلياس ويوسف في مياه المتوسط، بقدر ما كبر أمل الوصول إلى “الفردوس” للتخلص من “البؤس والإحتقار”. بيد أن “الرياح ـ وكما في مثل كثير من هذه المغامرات ـ أتت بما لا تشتهيه أشرعتهما”. تاها في البحر بعد أن أخطأت البوصلة التي تسلّحا بها لتأمين الطريق. عوض الوصول إلى شاطئ مدينة موتريل، بوصفها أقرب نقطة اسبانية الى مياه الحسيمة، ظلا يجدفان شمالا وجنوبا شرقا وغربا، إلى أن قادهما القدر إلى الجهة المقابلة لمدينة “مالقا”. نفذ كل ما كان بحوزتهما من وقود، فتوقفت بهما الدراجة المائية على بعد حوالي 70 كيلومتراً من سواحل ”مالقا”. ظلّا عالقان في البحر يصارعان الخوف والموت لمدة 48 ساعة حتى انقسم ظهر الدراجة المائية. طفا الاثنان قبل أن يسبحا ليوم إضافي مستعينين بمهارتهما وبفضل صدريتي سباحة. 

عبور إلى الحياة 

كان يمكن أن يُضاف يوسف وإلياس إلى قائمة الـ 1,146 غريقاً الذين أحصتهم كاميناندو فرونتيرز في تقريرها الأخير والذي لا يخص سوى النصف الأول من العام الجاري. صمدا في وجه البحر اعتمادا على مِراسهم الجنيني، وعلى رغبتهم الطافحة في التخلص من شظف العيش والبؤس في الريف، لا سيما بعد إجهاض الحراك الإجتماعي واعتقال المئات من النشطاء، وإطلاق يد الآلة الأمنية لتحصي الأنفاس في المنطقة. 

بعد طول عناء، تمكن أحدهما من التقاط اشارة الشبكة الهاتفية، وإجراء مكالمة قصيرة مع عائلته، أخبرهم فيها بتوقف الدراجة ونفاذ الوقود وهما في عرض البحر. إنتهت المكالمة بسرعة، دون معلومات مفيدة عن مكانهما. أسرعت العائلة بتوجيه نداء إغاثة عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وتواصلت مع متطوعين عاملين في مجال إنقاذ المهاجرين بجنوب إسبانيا، لينقلوا بدورهم الخبر للسلطات الإسبانية. انطلقت رحلة بحث سرعان ما توقفت بسبب شساعة المساحة التي تغطيها قبل أن تنطلق مجدداً بضغطٍ من النشطاء وقبل أن تتلاشى كل آمال الإنقاذ، تمكنت مروحية تابعة للحرس المدني لمدينة “طريفة” من العثور على الشابين، في حالة صحية جد متدهورة تم نقلهما على وجه السرعة إلى المستشفى بمدينة “قاديس”، حيث مكثا ثلاثة أيام في الانعاش إلى أن استعادا عافيتهما. 

صورة المهاجرين إلياس ويوسف

أرقام صيف 2021 … مؤشرات مخيفة

خلال شهري غشت وشتنبر المنصرمين، نفّذ خفر السواحل الإسباني التابع للحرس المدني ووحدة الإنقاذ البحري عمليات تدخل أنقذت حياة ما مجموعه 475 مهاجراً ينحدرون من أقاليم الحسيمة والدريوش والناظور، حسب الأرقام التي حصلت عليها “هوامش” من منظمة Emergencia frontera sur motril العاملة في مجال إنقاذ المهاجرين، حيث استقبل ميناء مدينة موتريل 457 حالة، بينما استقبل ميناء مالقا 16 حالة، فيما استقبلت مدينة قاديس يوسف وإلياس.

حسب الوكالة الأوروبية لحرس الحدود والسواحل، فإن 17057 مهاجر تمكنوا من الوصول إلى إسبانيا خلال عام 2020 عبر “الطريق المتوسطي”، من بينهم 3566 مغربي. وتشير الإحصاءات التي اطلعنا عليها أن سكان الريف المهاجرين يشكلون قرابة 13,32 في المائة من مجموع المهاجرين السريين المغاربة ككل. 

من بين الـ 475 الذين تمت إغاثتهم، نجد 5 أسر كاملة و 13 قاصرا و 5 نساء، وبعض معتقلي الريف الذين غادروا أسوار السجن عقب انتهاء مدة محكوميتهم أو تمتعوا بعفو ملكي، وهو ما يدل على أن رحلات الهجرة أخذت منعطفاً جديداً.

بالنسبة للناشط المدني أحمد البلعيشي فإن “الحديث عن الشأو الذي بلغته سياسة الهجرة بل التهجير، خاصة بالنسبة للريفيين لم يعد مجرد حديث ذو شجون، بل بات حديثا يدمي القلوب”. 

في بداية الالفية انخفضت كثيرا وتيرة الهجرة من الريف نحو أوربا، صار الأمر يتم إما عبر الزواج أو متابعة الدراسة، بينما الهجرة عبر قوارب الموت، كانت في طريقها الى الاندثار، لكن مع بداية قمع حراك الريف، ستعود عجلة هجرة قوارب الموت لتتحرك بقوة، وهذه المرة، تنطلق رحلة الهروب من شواطئ الحسيمة والدرويش، بعدما كان المرشحون للهجرة من الريف يقصدون شواطئ تطوان والقصر الصغير وطنجة.

 حسب الناشط في مجال إنقاذ المهاجرين “عزيز صابر”، فمنذ شهر ماي 2017، بدأت تتقاطر قوارب الموت على السواحل الاسبانية القادمة من شواطئ الريف بشكل مستمر وبوتيرة مزدحمة، ويوافق شهر ماي 2017 بداية حملة الاعتقالات في صفوف نشطاء حراك الريف، ويضيف”عزيز صابر” لمنصة “هوامش” أن وتيرة الهجرة من الريف عبر قوارب الموت قبل هذا التاريخ كانت قليلة جدا.

شبكات التهجير .. الوسيلة الأشهر

في يناير 2021 نشرت وكالة الأنباء الإسبانية (ايفي) قصاصة إخبارية مفادها أن 41 مهاجرا ينحدرون من الريف وصلوا إلى الشواطئ الاسبانية يوم الاثنين 18 يناير على متن ستة قوارب،. كان من بين هؤلاء 7 من معتقلي حراك الريف المُفرج عنهم وهم: جمال مونا، وعبد العالي حود، ومراد أورحو، ووائل الأصريحي، ومحسن أتاري، ومحمد الجوهري، وبنعيسى.

 

هروباً من الفقر والقمع والإعتقال، يستعين شباب الريف المنحدر من مناطق امزورن، بني بوعياش، تماسينت، آيت عبد الله، التواصل مع شبكات التهجير السري. وعكس ما قد يعتقد الكثيرون، نادرا جدا ما تنطلق القوارب من الشواطئ، إذ غالبا ما تتم العملية وفق سلسلة مترابطة الحلقات. “تتم العملية تحت إشراف شبكات التهجير وتتداخل فيها مسؤوليات عديدة، تتم غالبا بوجود سماسرة يستقطبون المرشحين واحدا تلو الأخر في سرية تامة، ويكون عددهم في الغالب بين ستة وعشرة مرشحين، يؤدي كل واحد منهم ما بين 20 ألف درهم و30 ألف درهم (ما بين ملونين وثلاثة ملايين سنتيم)”، يحكي عماد م.، الذي تمكن رفقة تسعة من أصدقائه من العبور إلى إسبانيا هذا الصيف.

بعد الاتفاق مع المهرب، يتم اللقاء في ميناء الحسيمة، ليلا في غالب الأحيان، إذ تتطلب العملية حذراً شديداً. ”نركب في قوارب الصيد منتحلين صفة صيادين ريثما نصل الى منطقة معروفة عند بحّارة الحسيمة بـ “طوفينيو”، وهي المنطقة التي تنتهي عندها المياه الاقليمية للدخول إلى المياه الدولية، على بعد حوالي ساعتين من ميناء الحسيمة” يقول عماد. م. وبعد دخولهم الى المياه الدولية، يُخْرجون من مركب الصيد التقليدي، الذي استقلوه من الميناء، (يخرجون) قاربا مطّاطيا، يقوم المرشحون بنفخه وتزويده بالمحرك الآلي وبالوقود ليواصلوا رحلة الإبحار إلى المياه الإسبانية.

التضامن في اقتناء مركب خاص 

لم يختر خالد (اسم مستعار) الهجرة عبر شبكات التهجير مثل عماد. “مع بعض الأصدقاء تفاوضنا لشراء قارب خاص يصلح لرحلة الإبحار”. كثيراً ما يتبع شباب تمسمان ومناطق الدريوش، مستفيدين من احتكاكهم مع البحر منذ الصغر.

يخطط الشباب المرشحين للهجرة بهذه الطريقة لأسابيع في سرية تامة وتكتم شديد، إذ لا يُشركون في الموضوع حتى أفراد عائلاتهم. وبعد توفير كل لوازم الرحلة، يوزعون الأدوار فيما بينهم لمراقبة أحوال البحر، وحرس الحدود من البحرية الملكية والقوات المساعدة، لاقتناص اللحظة المناسبة، وبعدها يبحر المرشحون ولا يُشعرون أفراد عائلتهم إلّا وهم في عرض البحر، لتتبع اخبارهم.

سواء تعلق الأمر بشبكات التهجير أو التضامن في اقتناء مركب خاص، تستغرق الرحلة عادة ما بين 8 الى 12 ساعة، اذا لم تتعرض الرحلة لمشاكل كبيرة، لتمتد في هذه الحالة لساعات أخرى وأحيانا لأيام.

رحلة الهروب على متن الدراجات المائية “الدجيتسكي” 

عصام شاب من نواحي الحسيمة، وصل بدوره الى اسبانيا هذا الصيف. بالاتفاق مع زملائه، قاموا بشراء دراجة مائية. تتراوح أثمنة هذه الدراجات بين 6 الى 14 أو 16 مليون سنتيماً حسب الجودة وقوة المحرك. بعد شراء لوازم الرحلة، خاصة ماء الشرب والوقود، يقصد المرشحون أحد شواطئ الحسيمة، وغالبا ما يختارون الشواطئ الغربية مثل “صباديا” و”ثارا يوسف” وما جاورها. هناك، يراقبون باخرة البحرية الملكية التابعة للدرك. حينها فقط، ينطلقون في رحلتهم بأقصى سرعة للوصول إلى المياه الدولية معتمدين على البوصلة لتوجيههم نحو أقرب يابسة اسبانية من شواطئ الحسيمة، وهي مدينة “موتريل”.

قبل خمس سنوات، كان بعض الشباب المرشحين للهجرة، يعمدون إلى كراء دراجة مائية، دون شرائها، لكن هذه العملية أصبحت صعبة المنال بسبب القيود التي بدأ يفرضها أصحاب محلات الكراء بعدما تضرّروا من تكرار عمليات الهجرة بالدراجات المائية.

يستغرق هذا النوع من الرحلات إلى ما بين 5 إلى 8 ساعات، حسب ظروف الإبحار وقوة المحرك ومدى النجاح في سلك الطريق المناسبة، وإلا فإن الرحلة قد تمتد لساعات أخرى ولأيام.

التّيه وسط البحر

في كل حالات الهجرة السرية هذه، يعدّ وصول الرحلة بأمان الى الشواطئ الاسبانية أمراً نادرَ الحدوث. أغلب القوارب تلقى تدخلا من فرق الإنقاذ الاسبانية التي تعمل على انقاذ واسعاف من على متنها. يقول عزيز صابر، الناشط في مجال إنقاذ المهاجرين، إن أزيد من 95 في المائة من حالات الهجرة التي تنطلق من الريف تنتهي بعملية إنقاذ، وأن أقل من 5 في المائة يتمكنون من الوصول إلى الشواطئ الاسبانية دون إنقاذ. في الواقع، غالبا ما تتيه القوارب والدراجات المائية في عرض البحر، حتى ينفذ وقودها. وساهمت المنظمات الحقوقية العاملة في مجال إنقاذ المهاجرين، على غرار منظمتي Alarma Phone وEmergencia frontera sur motril، بشكل كبير في تفادي عدد من المآسي كما كان يحصل خلال سنوات التسعينات.

الريف والهجرة.. مأساة التاريخ والقمع والتهميش

في شهر ماي من سنة 1992، إنطلق قارب صغير من شواطئ مدينة تطوان يقلّ 25 شابا من مدينة الحسيمة. انقلب القارب ولم ينج من الموت إلا اثنين، كانا شاهدين على غرق 23 من مرافقيهم. خلف الحادث ردود أفعال غاضبة. حينها كانت قوارب الموت ظاهرة جديدة، وكان الضحايا يسقطون بالمئات في عرض البحر، بسبب الظروف التي كانوا يغامرون فيها بالهجرة. كان المرشحون يعتمدون على حدسهم وعلى نصائح البحارة، ولم يكن هناك إنترنت يسعفهم في الاطلاع على أحوال البحر، ولا هواتف نقالة لإرسال نداءات استغاثة.

بسبب مشاركته في برنامج حول الهجرة على قناة دوزيم، انتقد فيه قوارب الهجرة ومسؤولية النظام عنها، تم اعتقال الناشط أحمد البلعيشي وإيداعه السجن بتهم “إهانة هيئة منظمة هي القوات المسلحة الملكية، وترويج أخبار زائفة”، وحوكم بمقتضى فصول جنائية وفصول من قانون الصحافة حينئذ في سابقة في تاريخ القضاء المغربي. يتذكر البلعيشي المحاكمة بحسرة كبيرة بعد أن كان ينبه لخطورة الهجرة السرية في بداية ظهورها. “كم أتألم حين أتذكر صرختي على متن بلاتو القناة الثانية يوم 11 دجنبر 1992… لكن المخزن بقي كعادته وفيا لنهجه التلد، في القمع والاعتقال والتشريد”. واستطرد البلعيشي قائلا “أشعر بذنب كبير لأني أقنعت بعض الأحبة بمعزوفة الثبات في الوطن والصمود والنضال من الداخل، فكان المصير كالعادة، هو ‘قتل الأجنة وهي في الأرحام” مشيرا للاعتقالات الواسعة التي عرفتها منطقة الريف سنة 2017. 

هروب من نظام الحسن الثاني 

إن الملمّ بتاريخ الريف وعلاقته بالهجرة، يدرك أن وتيرة الهجرة ترتفع طردا بعد كل هزة اجتماعية أو سياسية. فمنذ بداية القرن العشرين، حطّت أولى طلائع الهجرة القادمة من الريف رحالها بالجزائر المستعمرة آنذاك من قبل فرنسا. حدث ذلك بعد القضاء على المقاومة الريفية التي قادها محمد بن عبد الكريم الخطابي، فشهدت سنوات الثلاثينات والأربعينات والخمسينات من القرن العشرين هجرة مكثفة من الريف نحو الجزائر (التي كانت تسمى في التعبير المحلي بـ “الشاق” أي الشرق). بيد أن الفترة التي تلت قمع انتفاضة الريف عامي 58 /59 شكلت أوج الهجرة، نحو أوروبا هذه المرة، والتي كانت خارجة لتوها من حربين عالميتين أتت بشكل كبير على اليد العاملة والفئة الناشطة، فكانت سواعد الريفين الهاربين من نظام الحسن الثاني، من بين ما اعتمدت عليها الدول الأوروبية لإعادة بناء اقتصادها.

ثم تكرّر السيناريو ذاته مع انتفاضة 1984، وما تلاها من قمع شديد استهدف الشارع والتلاميذ والطلبة الذين وصفهم الحسن في خطابه الشهير بـ ” الأوباش”. 

يعيد التاريخ نفسه اليوم مع قمع حراك الريف. إذا كان جل “الفارّين” يستعينون باحدى الطرق الثلاثة التي تحدثنا عنها أعلاه، فإن فئات أخرى تغادر بوسائل أكثر أماناً لكن أكثر تكلفة لا تتوفر للسواد الأعظم من المرشحين للهجرة. هكذا تبدو “الحكرة”، قبل أي شيء آخر، القاسم المشترك بين المغادرين.

إقرأوا أيضاً:

من نفس المنطقة:

magnifiercrosschevron-down linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram