الرئيسية

ميناء طنجة المتوسط: بوابة المغرب إلى العالم أم نافذة للهيمنة الخارجية؟

تم تدشين ميناء طنجة المتوسط في مطلع الألفية الجديدة، وشُيّد ليكون رمزًا للنهضة الاقتصادية في شمال المغرب، ومنصة لربط الجنوب بالشمال عبر مضيق جبل طارق. غير أن هذا المشروع الضخم، الذي حظي برعاية ملكية ودعم مؤسساتي غير مسبوق، بات اليوم في قلب جدل وطني ودولي، بعدما تحوّل من أداة للتنمية المحلية إلى معبر استراتيجي، تتحكم فيه مصالح رأسمالية عابرة للحدود، بل وحتى محطة يُشتبه في استخدامها لدعم آلة الحرب الإسرائيلية. هذه المادة تسبر أغوار المشروع، من نشأته الطموحة إلى تعقيداته السياسية والاقتصادية الراهنة، وتكشف كيف أصبح الميناء الأضخم في إفريقيا ساحة لتقاطع المصالح الأجنبية، ومرآة تعكس هشاشة السيادة في زمن العولمة.

محمد تغروت

شهدت مدينة طنجة يوم 20 أبريل 2025، تظاهرات حاشدة قادها نشطاء جمعويون ونقابيون، حيث رفع المشاركون شعارات من قبيل “لا لأسلحة الإبادة في المياه المغربية” و”الشعب يريد منع السفينة”، وذلك تزامناً مع وصول سفينة الشحن “مايرسك ديترويت” التابعة لشركة النقل البحري الدنماركية العملاقة “مايرسك”، والتي أفادت تقارير وتحقيقات إعلامية دولية بأنها كانت تحمل قطعاً حيوية لطائرات F-35 الأمريكية المقاتلة، في طريقها إلى ميناء حيفا.

تعود تفاصيل القضية إلى تقارير نشرتها وسائل إعلام بريطانية ودولية، منها تحقيق لموقع Declassified UK، كشفت أن السفينة انطلقت من ميناء هيوستن الأمريكي، مروراً بميناء طنجة المتوسطي، حيث جرى تحويل الشحنة إلى سفينة أخرى “نيكسوي مايرسك” لاستكمال الرحلة نحو “إسرائيل”. 

وتؤكد الوثائق أن هذه المعدات العسكرية موجهة مباشرة لسلاح الجو الإسرائيلي، الذي يستخدمها في العمليات العسكرية الجارية ضد قطاع غزة. وقد أثارت هذه المعطيات غضبا عارما في الأوساط المغربية، خاصة مع تصاعد الأصوات المناهضة للتطبيع مع “إسرائيل” منذ نهاية 2020، وتزايد الدعوات لمقاطعة كل أشكال التعاون العسكري واللوجستي مع تل أبيب.

في هذا السياق، أصدرت نقابات عمالية وحقوقية بيانات تدعو عمال الموانئ إلى مقاطعة “السفن المشبوهة”، كما طالبت السلطات المغربية بتوضيحات رسمية حول حقيقة ما يجري في ميناء طنجة المتوسط، في ظل اتهامات متصاعدة للميناء بلعب دور “جسر لوجستي” في دعم آلة الحرب الإسرائيلية، وهو ما اعتبره نشطاء دعما غير مباشر لما وصفوه بـ “الإبادة الجماعية” في غزة. وفي المقابل، نفت إدارة ميناء طنجة المتوسطي أي علم مسبق بمحتوى الحاويات العابرة، مؤكدة أن الميناء يلتزم بالمعايير الدولية، ولا يملك سلطة فحص الشحنات العابرة ضمن عمليات الترانزيت المؤقت.

تأتي هذه التطورات في ظل تصاعد الضغوط الشعبية على السلطات المغربية لمراجعة علاقاتها مع “إسرائيل”، خاصة أن ميناء طنجة المتوسط، الذي يُعد أكبر منصة لوجستية في إفريقيا والمتوسط، ويعالج أكثر من 10 ملايين حاوية سنوياً، بات في قلب اتهامات تتعلق بدعم لوجستي محتمل للعمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة، ما يجعله محطة مثيرة للاهتمام والجدل في المشهد الإقليمي والدولي. 

غير أن إعلان وزارة النقل الإسرائيلية أن اتفاقًا ثنائيًا مع المغرب، في مجال الملاحة البحرية، سيبدأ تنفيذه رسميًا خلال ثلاثين يومًا القادمة، يجعل ميناء طنجة المتوسط محطة رئيسية للتبادل التجاري بين الطرفين. 

الاتفاق، الذي تم التوقيع عليه قبل عامين في العاصمة المغربية الرباط (ماي 2023)، يشمل جملة من الترتيبات التنظيمية المتعلقة بالموانئ والنقل البحري، أبرزها تسهيل دخول السفن إلى موانئ البلدين، وتنسيق إجراءات السلامة، ومعالجة قضايا الضرائب والرسوم الجمركية، إلى جانب آليات حل النزاعات البحرية.

مشروع ملكي أريد له أن يميز  العهد الجديد

افتتح ميناء طنجة المتوسط I سنة 2007، بعد أن كان قد تم الإعلان عنه في خطاب العرش لسنة 2002، إذ كشف الملك محمد السادس عن قرار إنجاز أضخم مركب مينائي وتجاري وصناعي على ضفاف البوغاز شرق طنجة، وكان الأمر يتخطى مجرد إنجاز بنية تحتية مينائية إلى بناء وتدبير مشروع متكامل ذي أبعاد متعددة اقتصادية وإقليمية.

“ها نحن نقدم اليوم على إعطاء الانطلاقة لمشروع من أضخم المشاريع الاقتصادية في تاريخ بلادنا. إنه الميناء الجديد لطنجة – المتوسط الذي نعتبره حجر الزاوية لمركب ضخم مينائي ولوجيستي صناعي وتجاري وسياحي”، بهذه العبارات أعلن الملك محمد السادس في خطاب له في فبراير 2003، إطلاق هذا المشروع الكبير، مضيفا: “فالمغرب بهذا المشروع يعمق جذور انتمائه للفضاء الأورومتوسطي، ولمحيطه المغاربي والعربي، ويعزز هويته المتميزة كقطب للتبادل بين أوروبا وإفريقيا، وبين البحر المتوسط والمحيط الأطلسي، ويدعم دوره المحوري كفاعل وشريك في المبادلات الدولية، موطدا اندماجه في الاقتصاد العالمي”.

قام الملك بإعطاء انطلاقة أشغال بناء ميناء طنجة المتوسط، يوم الاثنين 17 فبراير 2003، وبعد سنوات عنون الصحفي الفرنسي فلورانس بيوجي، في مقال له على صفحات جريدة لوموند، “طنجة تأخذ ثأرها“، وأضاف في المقال الذي نشر 31 يوليوز 2007، أن “المدينة التي كانت مهملة طيلة عهد الملك الراحل الحسن الثاني، تتحول: ميناء جديد، مناطق حرة، أشغال تجديد، عاصمة شمال المغرب تريد أن تصبح قاعدة خلفية لأوروبا”.

وبالفعل شهدت طنجة تهميشا واضحا خلال عهد الحسن الثاني، ويعود ذلك أساسا إلى موقعها ضمن منطقة الريف، التي عُرفت تاريخيًا بتمردها على السلطة المركزية. فقد استفادت طنجة من وضعها كمدينة دولية بين 1923 و1956، ما منحها استقلالية نسبية في فترة الاستعمار. لكن بعد الاستقلال، ومع بروز سياسة مركزية صارمة، فقدت المدينة هذه المكانة وتعرضت للإقصاء.

واشتد هذا التهميش عقب انتفاضة الريف التي اندلعت بسبب الفقر، بين 1957 و1959، وتعرضت لقمع شديد من طرف ولي العهد آنذاك الحسن الثاني، ما عمّق عزلة طنجة ومناطق الشمال، وترك جراحًا عميقة في ذاكرة السكان. وأعقب هذا القمع حرمان المنطقة من الاستثمارات، باستثناء برنامج سياحي قصير الأمد، واستمر التهميش حتى نهاية حكم الحسن الثاني.

شركة خاصة بسلطات وامتيازات استثنائية لتنزيل المشروع

لتنزيل المشروع كان لزاما تأسيس وكالة خاصة تشرف على كافة الخطوات المرتبطة به، سميت بـ “الوكالة الخاصة لطنجة المتوسط”، وخُولت لها امتيازات تسمح باتخاذ كافة القرارات المرتبطة بالمشروع وملحقاته، وعين الملك محمد السادس أحد مستشاريه الشخصيين البارزين، وهو الراحل مزيان بلفقيه، لقيادة مجلس الإشراف على الوكالة.

وتكلفت الوكالة بتحويل “الأراضي الواقعة في شمال المملكة إلى منطقة خاصة للتنمية، تحدث بداخلها منطقة مينائية حرة تضم ميناء بحريا ومناطق حرة للتصدير”، بينما عهد إليها القيام بإنجاز برنامج التنمية باسم الدولة ولحسابها ، وفق اتفاقية تبرم بين الدولة والشركة. وأجاز القانون للوكالة “أن تفوض عند الحاجة، بعضا من المهام المذكورة إلى فاعلين مغاربة أو أجانب خاضعين للقانون العام أو الخاص”،  فيما “تنقل إلى الشركة مجانا وبكامل ملكيتها الممتلكات التابعة لملك الدولة  دون أن يترتب على نقل الملكية أداء أي ضريبة أو واجب أو رسم”.

ويتشكل مجلس إدارة الوكالة حاليا من فؤاد البريني بصفته رئيسا لمجلس الإدارة، ودنيا بنعباس الطعارجي (ممثلة عن صندوق الحسن الثاني للتنمية الاقتصادية والاجتماعية)، خالد حطاب (مدير المقاولات العمومية والخوصصة في وزارة الاقتصاد والمالية، ممثلا للدولة المغربية)، خالد زيان (ممثلا لشركة فينار القابضة)، يونس العدلوني (ممثلا لشركة Prev Invest)، بالإضافة إلى لبنى غالب (ممثلة للمساهمين في الوكالة الخاصة طنجة المتوسط). 

ويتولى ادريس أعرابي منصب مدير عام للسلطة المينائية طنجة المتوسط، خلفا لحسن عبقري الذي تم إعفاؤه بعد تأسيسه لشركة تحمل اسم «نيو بورت كونسالتينغ 2024»، لها علاقة بالأنشطة المينائية، ما جعله في موقع «شبهة» القيام بأعمال تتعارض مع مسؤوليته الرسمية، باعتباره مديرا لمؤسسة استراتيجية حساسة، قبل أن يصفي هذه الشركة بعد أسابيع قليلة من عزله من طنجة المتوسط.

وذكر تقرير المجلس الأعلى للحسابات برسم 2022-2023، أن اتفاقية الشراكة الموقعة بين الدولة والوكالة في فبراير 2003، من أجل إنشاء واستغلال منطقة التنمية الخاصة طنجة المتوسط، “تنص على تبادل مجموعة من البيانات مع السلطة الحكومية المسؤولة عن الموانئ، لكن الوكالة لا تزود الوزارة بهذه البيانات، كما أن هذه الوزارة لم تتقدم بطلب في هذا الصدد”.

وأضاف التقرير أن الاتفاقية المذكورة “حددت في مادتها 26 أن صيانة البنية التحتية تعتبر مسؤولية الوكالة. حيث إن هذه الأخيرة يجب أن تتولى تحديد برنامح صيانة البنية التحتية والإصلاحات الرئيسية سنويا وإرساله إلى الوزارة المكلفة بالتجهيز، التي قد تطلب إذا لزم الأمر، وفقا للاتفاقية نفسها، تكييف برنامج العمل المقترح أو استكماله”. وأوضح التقرير أن “برنامج الصيانة المذكور لا يرسل إلى الوزارة وأن هذا الأخيرة لم تتقدم بطلب في هذا الشأن”.

وكان تقرير سابق للمجلس الأعلى للحسابات برسم سنة 2019، قد وقف على أن الغلاف الاستثماري الإجمالي في ميناء طنجة المتوسط، قد بلغ إلى غاية نهاية سنة 2019، ما مجموعه 98 مليار درهم، 38 في المائة منها عمومي، و62 في المائة خاص. 

نفس التقرير سجل أن هذا  التوجه مكّن “المركب المينائي طنجة المتوسط من احتلال المرتبة 35 عالميا، والرابعة على صعيد البحر الأبيض المتوسط، من حيث رواج الحاويات، على الرغم من أن الميناء قد حسّن نسبيا حصته من نشاط الاستيراد والتصدير، حيث ارتفعت من %2,6 سنة 2010  إلى %7,8 سنة  2019”. 

غير أن التقرير اعتبر أن “هذا المعدل يبقى منخفضا مقارنة ببعض موانئ البحر الأبيض المتوسط (ميناء بيرايوس باليونان، وميناء الجزيرة الخضراء بإسبانيا على وجه الخصوص)، والتي تعتمد توجها استراتيجيا يجمع بين نشاطي المسافنة والاستيراد-التصدير Mixed Hub”.

أكبر مركب مينائي في أفريقيا.. تحت تصرف الأجانب

في غضون أزيد من 20 عامًا، تحول ميناء طنجة المتوسط إلى أكبر مركب مينائي في أفريقيا، وقد طور المغرب نظامًا لوجستيًا اجتذب المشغلين البحريين الرئيسيين وكبريات شركات الشحن البحري عبر العالم. 

وتعود فكرة مشروع إنشاء مركز للشحن العابر transbordement في طنجة إلى منتصف التسعينيات، حيث تمت دراسة عدة أماكن لاختيار موقع هذا المشروع اللوجستي، قبل أن يفوز البحر الأبيض المتوسط على حساب المحيط الأطلسي، وذلك على مشارف مضيق جبل طارق، مقابل ميناء الجزيرة الخضراء، لتضع الدولة المغربية الحجر الأول لميناء طنجة المتوسط، على بعد 40 كلم من مدينة طنجة، وبالضبط عند مصب واد الرمل، بتراب جماعة قصر المجاز، بإقليم الفحص أنجرة، ويطلق عليه ميناء المياه العميقة.

يتكون المركب المينائي طنجة المتوسط، من ميناء طنجة المتوسط I، الذي يضم محطتين للحاويات، ومحطة للسكك الحديدية، ومحطة للمحروقات، ومحطة للبضائع المختلفة، ومحطة للسيارات الجديدة. وأعلنت صفقة المشروع سنة 2002، وفي عام 2006 تم تركيب الرافعات الأولى، لتفتح المحطة الأولى من طنجة المتوسط I أبوابها رسميًا في يوليوز 2007 والثانية في العام الموالي.

في سنة 2003، تم انتقاء سبع شركات من بين المتقدمين للعرض الدولي لإنشاء الميناء، من بينها مجموعتان فرنسيتان متخصصتان في قطاع البناء والأشغال العامة (فينشي Vinci وبويغ  Bouygues)، وتم في النهاية اختيار التحالف الذي تقوده شركة بويغ (وهي نفس الشركة التي قامت ببناء مسجد الحسن الثاني في الدار البيضاء).

ومنح امتياز تسيير المحطة رقم 1 من الميناء لشركة APM Terminals، وهي شركة تابعة لشركة APM Moller Máersk ميرسك الدنماركية، بنسبة 90% من رأس المال، ولشركة أكوا Akwa لمالكها عزيز أخنوش، رئيس الحكومة المغربية الحالي، بنسبة 10% من رأس المال، باستثمار بلغ 150 مليون أورو، ويبلغ طول رصيفها 800 متر.

وتم تفويت المحطة 2 لاتحاد يتكون من شركة  Eurogate الألمانية، بنسبة 40٪ وباستثمار قدره 150 مليون أورو، و CMA CGM الفرنسة بنسبة 40٪، في حين عادت 20٪ لشركة البحر الأبيض المتوسط للشحن MSC، وهي شركة ذات رأسمال سويسري إيطالي مشترك.

ويضم المركب المينائي أيضا ميناء طنجة المتوسط II، الذي بدأت أعمال بنائه سنة 2015، ويتوفر على محطتين للحاويات. بدأت المحطة الأولى منه، وهي المحطة 4، عملياتها في 28 يونيو 2019. وتم منح امتيازها لشركة APM Terminals، لمدة 30 سنة، وتضم رصيفًا بطول 820 مترًا، وبسعة تصل إلى 5 ملايين وحدة مكافئة لعشرين قدمًا (MEVP). 

وفي يناير 2020، بدأت المحطة 3 عملياتها، وحصلت عليها شركة “مرسى المغرب”، وتمتد على طول 800 متر، بسعة 1 مليون وحدة مكافئة، قبل أن يتم بيع جزء من أسهم الشركة وتعود المحطة لـ “تحالف طنجة tanger alliance”، وهي شركة فرعية خُصصت لإدارة عقد امتياز استغلال محطة الحاويات رقم 3 لميناء طنجة المتوسط ​​II، وتملك شركة مرسى المغرب %50 زائد حصة واحدة من أسهمها، إلى جانب كل من شركة Contship Italia وشركة Eurogate International وشركة Hapag Lloyd (تحالف ألماني إيطالي). 

وتتولى شركة تحالف طنجة TANGER ALLIANCE مسؤولية تصميم وتمويل وتنفيذ واستغلال وصيانة محطة الحاويات 3 في ميناء طنجة المتوسط II، طول فترة عقد الامتياز الذي تبلغ مدته 30 عاما، باستثمار قدره 200 مليون أورو.

أشغال بناء ميناء طنجة المتوسط II، تطلبت أيضا قرضا من الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي (إماراتي)، قدره 300 مليون أورو، لتغطية 51 في المائة من تكلفة المشروع الإجمالية البالغة 500 مليون أورو، وذلك على شكل قرض بإمهال قدره 5 سنوات، ومدة سداد تبلغ 22 سنة، في حين غطت الوكالة الخاصة لطنجة المتوسط الجزء المتبقي البالغ 200 مليون أورو.

كما تطلبت أشغال توسيع ميناء طنجة المتوسط تدخلا ماليا من قبل البنك الأوروبي للاستثمار، بمبلغ قدره 200 مليون أورو، لتغطية جزء من التكلفة الإجمالية التي تطلبتها الأشغال.

ويضم المركب المينائي كذلك ميناء للمسافرين والشاحنات، ويتضمن مناطق الوصول والتفتيش عبر الحدود، ومنصات صعود الركاب والنقل البري الدولي، والمناطق التنظيمية، ومحطة العبارات.

المركب المينائي طنجة المتوسط ليس فقط ميناء، بل هو منصة متكاملة، إذ يضم إلى جانب ما ذكر، عددا من المناطق الحرة الصناعية واللوجستية، استمرارا للمنطقة الحرة التي أنشأتها المغرب منذ أن أعاد مؤتمر فضالة (المحمدية حاليا) طنجة إلى السيادة المغربية، حيث حافظت بموجب ميثاق ملكي على حرية الصرف والتجارة إلى حدود سنة 1960، قبل أن تلغي الحكومة المغربية الامتيازات الضريبية التي كان يحظى بها الأجانب في المدينة، لتصبح طنجة خاضعة لنفس القوانين التي تنطبق على كافة المدن المغربية، وتقوم بإنشاء منطقة حرة بميناء طنجة، خوفا من هروب رؤوس الأموال الأجنبية.

سنة 2002 أحدثت المنطقة الحرة للتنمية طنجة – المتوسط، بموجب مرسوم قانون رقم 2-02-644 الصادر في 2 رجب 1423 هـ (10 سبتمبر 2002م) بشأن إنشاء منطقة التنمية الخاصة طنجة المتوسط، لتشهد المنطقة بعد ذلك إنشاء ست مناطق لوجستية. تقع الأولى خلف الميناء. أما المناطق الخمس الأخرى، فهي “المنطقة الحرة لطنجة”، و”مدينة السيارات بطنجة”، و”رونو طنجة المتوسط”، و”تطوان بارك”، و”تطوان شور”، والتي ظهرت تدريجيًا بعد ذلك.

ومُنح امتياز إدارة المناطق الحرة، في منطقتي طنجة وتطوان، لشركة خاضعة للقانون الخاص، تحت إسم “المنطقة الحرة طنجة” (TZF)، وهي فرع تابع للوكالة الخاصة طنجة المتوسط (TMSA)،. وتعمل هذه الأخيرة كشباك وحيد لتقديم المساعدة والتوجيه للمستثمرين.

وتمتد المناطق الحرة الصناعية واللوجستية، على مساحة 1600 هكتار. ويشغل هذه المساحات حوالي 900 شركة، أبرزها من كبريات الشركات الدولية في مجال اللوجستيات DHL وBolloré Logistics وPanalpina، بالإضافة إلى مجموعة الإمارات لوجستيك، التابعة لمجموعة شرف، وشركات توزيع مثل Decathlon وAdidas وBosch وHuawei، والتي اختارت إنشاء مراكز لوجستية في الميناء المغربي لتغطي كافة منطقة غرب البحر الأبيض المتوسط، من المغرب إلى الجزائر، مرورًا بإسبانيا وفرنسا.

بالإضافة إلى شركات صناعية، مثل صناعة السيارات مع رونو وPSA، وكذلك شركة Siemens التي تصنع شفرات التوربينات الريحية لحدائق الرياح حول العالم، بالإضافة إلى مزودي مكونات السيارات مثل شركة JTeckt اليابانية، وشركة Hands الكورية، وشركة ZTT الصينية.

وصادق مجلس الحكومة، المنعقد يوم الخميس 12 شتنبر 2024، على مشروع المرسوم رقم 2.24.657 بتغيير المرسوم رقم 2.10.337 الصادر في 16 من جمادى الأولى 1432 (20 أبريل 2011) بإحداث المنطقة الحرة للتصدير “طنجة أوطوموتيف سيتي“، قدمه محسن جازولي، الوزير المنتدب لدى رئيس الحكومة المكلف بالاستثمار والالتقائية وتقييم السياسات العمومية، نيابة عن رياض مزور، وزير الصناعة والتجارة. 

ويهدف هذا المشروع إلى تغيير المرسوم رقم 2.10.337 بإحداث المنطقة الحرة للتصدير طنجة أوطوموتيف سيتي، كما تم تغييره وتتميمه، وذلك من خلال زيادة مساحة المنطقة الحالية لتنتقل من 517 هكتار إلى 808 هكتارات، قصد تلبية الطلب المتزايد من المستثمرين الصناعيين الراغبين في إقامة أعمالهم في المنطقة.

جدير بالذكر أن المستثمرين في مناطق التصدير الحرة، في المغرب عموما وفي طنجة المتوسط بشكل خاص، يستفيدون من امتيازات ضريبية وجمركية جذابة، طبقًا لمقتضيات القانون 94-19 المتعلق بمناطق التصدير الحرة.

وعلى سبيل المثال بعد تم اتخاذ قرار استقرار شركة رونو في المغرب، إثر توقيع عقد شراكة بين الحكومة المغربية والمجموعة الفرنسية رونو، تحت الرئاسة الفعلية للملك محمد السادس، تمكنت الشركة من ضمان الحصول على أكبر قدر من الامتيازات الضريبية. 

وبحسب تقرير لمنظمة أوكسفام، بعنوان “مغرب متساوٍ، وعدالة جبائية”، فإنه وفقا للاتفاق، لن تكون رونو ملزمة بدفع أي ضرائب، أو ربما ضرائب قليلة جدًا، خلال الخمس وعشرين سنة الأولى من عملها في المغرب، بالإضافة إلى ذلك، “استفادت رونو من قطعة أرض مجانية وخط سكة حديدية لنقل السيارات إلى ميناء طنجة المتوسط”. 

وذكر التقرير أن “مسار التفاوض بين الدولة المغربية وشركة رونو، يتسم بقدر كبير من الغموض، مما يجعل من المحتمل أن تكون بعض الامتيازات قد تم إخفاؤها”، خصوصا وأن رونو لا تنشر البيانات المالية المفصلة الخاصة بالمغرب، مما يجعل من المستحيل تقييم حجم الأعمال المحقق في المملكة. لذلك “رغم أن النتائج إيجابية على مستوى الميزان التجاري للمغرب، يبقى السؤال هل استفاد المغرب حقًا؟ يبدو أن هذه الصفقة التي تكاد تكون تقارب الصفر تعود بفائدة أكبر لصالح رونو” يؤكد التقرير.

إضافة إلى ما سلف، استفادت رونو أيضا من تحمل الدولة المغربية تكاليف تكوين الأجراء في معهد التكوين في مهن السيارات، والذي تشرف عليه المجموعة الاقتصادية الفرنسية، إذ تم بناء هذا المعهد بهدف تلبية احتياجات الموارد البشرية في مجال تصنيع السيارات ومعداتها، بمساهمة إجمالية من الدولة المغربية بلغت 8 ملايين أورو، وتم منحه لشركة رونو قصد تسييره، كما هو موضح في المنصة الرسمية لمعاهد التكوين في مهن صناعة السيارات.

ميناء طنجة المتوسط تطور سريع وإنجازات موجهة للخارج

بعد سبعة عشر عامًا من تشغيله (2007-2024)، أصبح ميناء طنجة المتوسط، أكبر ميناء للحاويات في إفريقيا والبحر الأبيض المتوسط. ويرتبط الميناء بحوالي 186 ميناءً حول العالم، ويستطيع استقبال 9 ملايين حاوية، و7 ملايين مسافر، و700 ألف شاحنة، ومليون سيارة. 

بالإضافة إلى ذلك، تضم المنطقة الخاصة للتنمية التي تبلغ مساحتها 600 كيلومتر مربع، جميع المناطق الحرة للمشروع، مثل المنطقة الصناعية التي تستضيف شركات عالمية كبرى، مثل رونو وسنوب، وجي إم دي، وباميسا، وديلفي، ويازاكي، وسوز، وسان غوبان، وأخيرًا بيجو-ستروين.

وقام المركب المينائي طنجة المتوسط بمناولة 8 ملايين و617 ألفا و410 حاويات، مكافئة لعشرين قدمًا، في عام 2023، أي 95٪ من الطاقة الاسمية للميناء، بزيادة قدرها 13.4٪ مقارنة بعام 2022، حسب بيان صادر عن سلطة الميناء (TMPA)، يوم 30 يناير من سنة 2024،  لافتًا إلى أن هذا الإنجاز تحقق قبل 4 سنوات من الأهداف المخطط لها.

وأرجع البلاغ المذكور الفضل في هذه الزيادة إلى ما أسماه “الأداء الجيد لمحطات TC1 و TC4 التي تشغلها مايرسك-أيه بي إم Maersk-APM، وإلى استمرار تشغيل محطة TC3 التي يديرها تحالف طنجة Tanger Alliance  (وهو مشروع مشترك مملوك لشركة مارسا مروك بنسبة 50٪ منها، مع شركاء فيها كل من يوروغيت Eurogate بنسبة 40٪ وهابج لويد Hapag Lioyd بنسبة 10٪).

كما سجل عام 2023 مستويات قياسية من الإنتاجية تجاوزت الذروة الشهرية البالغة 800 ألف حاوية نمطية تمت مناولتها. بالإضافة إلى ذلك، تمت مناولة 477 ألفا و993 شاحنة TIR في عام 2023، بزيادة قدرها 4.1٪ على أساس سنوي. وزادت حركة المنتجات الصناعية بنسبة 14.3٪، مما يعوض عن انخفاضا بنسبة 7.7٪ في المنتجات الزراعية، حسب ذات البلاغ.

واستقبل مجمع ميناء طنجة المتوسط في عام 2023 أكثر من 2.70 مليون مسافر، مسجلاً نموًا بنسبة 30٪ مقارنة بعام 2022، لتعود حركة المرور هذه إلى المستويات المعتادة المسجلة قبل أزمة COVID-19.

وقام المركب المينائي طنجة المتوسط ​​بمعالجة 122 مليون طن من البضائع سنة 2023، بارتفاع بلغ 13,6% مقارنة بعام 2022، منه 21% في الاستيراد/التصدير. “وبذلك تكون هذه الحركة الإجمالية المسجلة هي الأعلى في مضيق جبل طارق وعبر البحر الأبيض المتوسط. فيما تمثل أيضًا أكثر من نصف المجموع الوطني المعالج على مستوى الموانئ المغربية”، كما جاء في بلاغ صحفي صادر عن الوكالة الخاصة طنجة المتوسط، حول حصيلة النشاط المينائي لسنة 2023.

جدير بالذكر أن ميناء طنجة المتوسط وبورسعيد المصري، احتلا على التوالي المرتبة الأولى والثالثة على التوالي في منطقة شمال أوروبا والبحر الأبيض المتوسط، في تقرير البنك الدولي المنشور مؤخرًا عن إنتاجية الموانئ (لعام 2023)، متقدمين على العديد من الموانئ المتواجدة في دول أوروبية متقدمة.

كما حصل الميناء على جائزة “أفضل المناطق الحرة في العالم لعام 2020، من صحيفة فايننشال تايمز. وكتبت مجلة “FDI Intelligence”: “هذه هي المرة الأولى التي تحتل فيها منطقة إفريقية مرتبة عالية بهذا الشكل في الترتيب، وهو دليل على الصعود الهائل لشبكة المناطق التي طورها مشغل طنجة المتوسط حول ميناء طنجة المتوسط في مضيق جبل طارق، وهو أحد أكثر الموانئ ازدحامًا في إفريقيا”.

ميناء أوروبي على ضفة مغربية

بناء على كل ما ذكر سالفا، صار من الممكن القول مع الباحث عز العرب زاودي مواكني، في رسالته لنيل الدكتوراه، المعنونة بـ “مساهمة في تقييم الأداء الاقتصادي للموانئ ومحطات الحاويات: حالة ميناء طنجة المتوسط”، أن “ميناء طنجة المتوسط يمكن اعتباره ميناءً أوروبيًا، نظرًا لوجود العديد من المصالح الاقتصادية للمشغلين العالميين”، وخص بالذكر في هذا السياق، بالإضافة إلى المشغلين الموجودين في المنطقة المينائية طنجة المتوسط (APM وEurogate)، شركة رونو التي قامت بإنشاء مصنعها للتجميع في المنطقة الحرة الصناعية بـ”ملوسة”، مشيرا أنها تستخدم جزءًا من محطة السيارات (محطة سيارات رونو) لتصدير طرازاتها Lodgy وDokker، بما لذلك من آثار اقتصادية واضحة حيث يجري الحديث عن 6000 وظيفة. 

وذكر الباحث أيضا في هذا الإطار المنطقة الحرة اللوجستية “ميد هاب”، التي تمتد على مساحة 130 هكتارا، مشيرا إلى أنها تعرف نجاحًا مع استقرار شركة CILSA على مساحة 5 هكتارات، وهي شركة لوجستية تابعة لميناء برشلونة. أما مجموعة Europac الإسبانية، الرائدة في مجال التغليف الصناعي، فقد استقرت مؤخرًا في مدينة طنجة للسيارات بـمنطقة “جوامعة” (وهي منطقة حرة للسيارات). 

كما أشار الباحث زاودي مواكني إلى أن مراكز التوزيع الموجهة للتصدير، مثل اليابانية “ماكيتا” Makita والفرنسية “جيوديس” Geodis ، قد استقرت بالمركب المينائي طنجة المتوسط منذ انطلاق المشروع. دون أن يغفل ذكر شركات النقل مثل SJL (سان خوسيه لوبيز) التي تتواجد أيضًا في طنجة المتوسط. إضافة إلى العديد من الشركات الأوروبية الأخرى، وخاصة الفرنسية والإسبانية، التي أنشأت مقرات لها في مختلف مناطق منصة طنجة المتوسط.

واعتبر الباحث أيضا في رسالته، أن “ميناء طنجة المتوسط يُعتبر ميناءً إفريقيًا، حيث إن 40% من نشاطه المينائي موجه إلى إفريقيا عبر المحيط الأطلسي، من المغرب إلى أنغولا”، موضحا أن الميناء يلعب دورًا في توزيع تدفقات الحاويات بين أوروبا وآسيا نحو الموانئ في غرب إفريقيا، “إذ تضطلع شركتا “مايرسك”Maersk  و”CMA-CGM” بهذا الدور. حيث قامت “ميرسك” في عام 2014 بتشغيل ستة خطوط منتظمة نحو إفريقيا، انطلاقًا من طنجة المتوسط، في حين قامت “CMA-CGM” بتوفير أربعة خطوط منتظمة بدورها. 

هذا، وقد جمعت الباحثة نورا ماريي، الباحثة ما بعد الدكتوراه، في المركز الوطني للبحث العلمي الفرنسي، بين الطرحين، قبل عشر سنوات، إذ عنونت دراسة علمية نشرتها في العدد 3 من مجلة Géotransports، الصادر سنة 2014، بـ “طنجة المتوسط، ميناء أورو-إفريقي”، ذكرت فيه بشكل خاص على أن الإشعاع الذي عرفه الميناء راجع بالإضافة إلى قربه من الأسواق الأوروبية، إلى الشروط الضريبية المواتية التي تجذب هذه الشركات للاستقرار في طنجة المتوسط.

وخلصت الباحثة، في ذات المقال، إلى أن “ميناء طنجة المتوسط هو في النهاية ميناء للعولمة، حيث يجسد بشكل مثالي الاستراتيجيات الدولية للتوطين الأمثل لتسهيل وزيادة كفاءة التدفقات، وكذلك للتموضع في التقسيم الدولي لعمليات الإنتاج. وبذلك، فهو واحد من تلك المواقع المعاصرة للنقل المتكيف مع اقتصاد الشبكات، والذي يبدو إلى حد ما منفصلًا عن محيطه الإقليمي”.في ذات الاتجاه نجد الشركات المستفيدة من عقود الامتياز بالمركب المينائي طنجة المتوسط تشير إليه باعتباره بوابة نحو أوروبا، على سبيل المثال على المنصة الرسمية لـ EUROGATE، نجد الإشارة إلى الميناء باعتباره بوابة إفريقيا نحو أوربا، مع الإشارة إلى أنه “فيما يتعلق بالإنتاجية، تحتل “EUROGATE Tanger” المرتبة الأولى في أوروبا بين المشغلين المستقلين لمحطات الحاويات. يتم تدريب موظفينا في الخارج، في محطات EUROGATE وContship Italia في ألمانيا وإيطاليا. نحن نستخدم حصريًا تقنيات متقدمة وحديثة”، كما ورد على منصة الشركة.

إقرأوا أيضاً:

من نفس المنطقة:

magnifiercrosschevron-down linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram