الرئيسية

بائعات الأسواق : نساءٌ بين خوفين

هند بدر الدين على صناديق متواضعة تضعن ما تيسر من خضروات منتقاة ومنقاة، فاصوليا وجزر مُقطّع وحمّص وليمون وحزمات صغيرة من نعناع ومنسّمات أخرى للشاي. لا يحتجن آلات حاسبة ولا محاسبين لإدارة مشاريعهن، مشاريع صغيرة لترميم هموم حياة كبيرة. إنهن نسوة يبحثن عن لقمة عيش كريم، وسط زحام سوق مليء بالمتاجر في حي العكاري بالعاصمة […]

هند بدر الدين

على صناديق متواضعة تضعن ما تيسر من خضروات منتقاة ومنقاة، فاصوليا وجزر مُقطّع وحمّص وليمون وحزمات صغيرة من نعناع ومنسّمات أخرى للشاي. لا يحتجن آلات حاسبة ولا محاسبين لإدارة مشاريعهن، مشاريع صغيرة لترميم هموم حياة كبيرة. إنهن نسوة يبحثن عن لقمة عيش كريم، وسط زحام سوق مليء بالمتاجر في حي العكاري بالعاصمة الرباط. غالبية زبائنهن هم ممن لم يسمح لهم الوقت بتقطيع الخضر، ويبحثون عن منتجات نصف مهيأة تصلح لطبخ سريع. نسوة تأتين محمّلات بسلعهن من الهامش، هامش المدينة الكبيرة، وهي مجموع القرى التي تحيط بمنطقة الرباط ـ سلا ـ تمارة.

يشترين سلعهن من أسواق أرخص، وغالبا ما يتجهن لسوق الجملة حيث تشترك سيدتان أو ثلاثة في كل صندوق، ثم تضفن لثمنه ما يناسب قيمة قوة عملهن وما قمن بصرفه من وقت لتحضير تلك الخضر، ليكون الفرق بين تكلفة الشراء والبيع هو هامش الربح الصغير الذي يصارعن من أجله محلات بمنتجات أوفر وفي سوقٍ موازين المنافسة فيها مختلة كثيراً.

حين تفرش السلع

فاطمة سيدة تأتي من قرية بضواحي سلا. تستقل الحافلة في الصباح الباكر ثم تكمل المسير عبر الترامواي الذي يوصلها إلى غاية حي العكاري، تجر حقيبة تسوق كبيرة بعجلات تجعلها أسهل من الحمل. بضعة أمتار من محطة الترام وها هي بموقعها التجاري بالسوق. هناك، تضع سلعتها كباقي النساء، غير أنها تضيف خضروات وفواكه وأعشاب من حقول مخصصة لزراعة “بيو” (بيولوجية)، وهي منتجات لها زبائنها الخاصين، ممن يهتمون باستهلاك مواد غذائية صحّية خالية من آثار المواد الكيماوية، لكن ثمنها أغلى. لِفاطمة طريقتها المرحة في إقناع زبنائها باقتناء ما تعرضه وتسعى لكسب ثقتهم بأن تترك أحيانا الأداء إلى غاية بداية الشهر إذا تعذر على أحدهم الأداء.

 هي واحدة من نساء عديدات يجررن خلفهن حكايات أسر ومتطلبات أبناء وكفاح لضمان حياة كريمة في ظل غلاء تشكو منه حتى الطبقة المتوسطة، فبالأحرى الفئات الواسعة التي تشتغل في القطاع غير المهيكل ويرتبط قوتها بعملها اليومي. فاطمة من النساء اللواتي توقّف مصدر رزقهن وأسرهن خلال فترة الحجر الصحي، فلم يكن بإمكانها التنقل بسهولة ولا إيجاد وسيلة نقل تسمح لهن بتجاوز حواجز الدرك والشرطة التي تسأل عن رخصة التنقل. وكنساء كثيرات غابت هي وغبن عن هذا السوق وعن السوق المركزي بالرباط وأسواق أخرى، ليظل فقط بعض أصحاب المحلات يشتغلون في احترام لساعات الفتح والإغلاق التي حددتها السلطات.

أرصفة تجارية على باب كرونا

الإصابات بكوورنا في المغرب في ارتفاع مستمر يوما بعد ومعها نسبة الوفيات كذلك. مع الخوف الصحي يزداد الخوف على المدخول الذي توفره هذه التجارة لهؤلاء. أمر معقد أن يصير الحجر الصحي كابوسا لفئة عريضة من المجتمع ترى أن الحفاظ على الحياة دون ضمان كرامة العيش أمر غير صحي.

ومع كل ما يروج عن صعوبة أن تخصص الدولة دعما ماليا لمن ستتوقف أعمالهم نتيجة أي حجر مفترض، أساسا للفئة الواسعة ممن يشتغلون في القطاع غير المهيكل ولا يتوفرون على أي ضمان اجتماعي.

 في السابق ضمنت الدولة دخلا لمن يتوفرون على بطاقة “الرميد”، المخصصة في الأصل لولوج الخدمات الصحية العمومية لذوي الدخل المحدود، كنوع من التعويض خلال فترة الحجر الصحي الذي دام ثلاثة أشهر. الآن شبح احتمال عودة هذا الحجر يخيم على المزاج العام تسقط الأسئلة الثقيلة على هؤلاء النسوة عن مصيرهن في حالة عودته، وهي أسئلة أثقل مما تتحمل حمله كل يوم فاطمة مقابل ضمان متطلبات عيشها وأبنائها.

خوف مزدوج

فاطمة لا تخفي خوفها المزدوج من انتشار الوباء وأخبار الإصابات التي تقترب يوما بعد يوم من الجيران والأهل، وفي نفس الوقت من احتمال عودة الحجر بالطريقة السابقة حيث كانت الحركة مقيدة جدا والمراقبة مشددة.

 هذه الفكرة تشوش ذهنها خاصة مع الإشاعات التي يتم نشرها عبر الشبكات الاجتماعية وتحملها إليها أحاديث الناس، آخرها بيان منسوب لرئاسة الحكومة يدعي الإعلان عن حجر صحي مدة شهر كامل الحجر، وهو بلاغ مفبرك انتشر مع خبر إعلان أول ليلة حجر صحي بفرنسا.

فاطمة ممن صدقوا الخبر الزائف عن عودة الحجر فجأة وتحكي أنها ظلت تسأل ما إذا كان سيكون بإمكانها الخروج في اليوم الموالي إلى حين أن تأكد لها أن الأمر لا يتعدى أن يكون إشاعة.

ولا تخفي هذه السيدة ذات الأربعين ربيعا خوفها الدائم من احتمال عودة شبح الحجر، خوفا على مصدر عيشها وأبنائها وكيف ستضمنه؟ وهو قلق يلازم زميلاتها في نفس التجارة كما يلازم ملايين المواطنين(ات) ممن يعد العمل اليومي هو مصدر العيش اليومي.

كذبت السلطات المغربية الخبر الزائف وتم الإعلان عن فتح تحقيق حول من يقف خلفه، وهي أخبار صارت تثير الذعر في نفوس فئات واسعة ولها تداعيات صحية واجتماعية واقتصادية.

إقرأوا أيضاً:

من نفس المنطقة:

magnifiercrosschevron-down linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram