“هوامش”| سعيد المرابط:
في أبريل 2025، عادت قضية الصحراء إلى صدارة المشهد الدولي، وسط تحولات دبلوماسية لافتة وتزايد الزخم حول “مقترح الحكم الذاتي” المغربي. وعقد مجلس الأمن جلسة مغلقة خُصصت لمناقشة آخر تطورات النزاع، حيث قدم المبعوث الأممي ستافان دي ميستورا إحاطة رسمية، حملت في طياتها رسائل واضحة من استمرار الجمود الإقليمي حيال النزاع.
دي ميستورا أكد أمام أعضاء المجلس أن النقاش الدولي بات يتركز حول مبادرة الحكم الذاتي التي يقترحها المغرب كحل وحيد وواقعي للنزاع، ودعا إلى تفعيل هذا المقترح والاستفادة من “الزخم الجديد” الذي تشهده القضية، في ظل موجة دعم دولي متزايد للموقف المغربي، خاصة من الولايات المتحدة وفرنسا. الولايات المتحدة جددت رسمياً دعمها لمغربية الصحراء، معتبرة أن الحكم الذاتي هو “الحل الواقعي الوحيد” القادر على إنهاء النزاع، بينما كررت فرنسا موقفها الداعم للمقترح المغربي، في وقت تشهد فيه العلاقات بين باريس والجزائر تطورات جديدة.
في المقابل، جددت جبهة البوليساريو تمسكها “بحق تقرير المصير”، مؤكدة في لقاءاتها مع دي ميستورا على ضرورة “تنظيم استفتاء تحت إشراف الأمم المتحدة”، كما نص عليه اتفاق وقف إطلاق النار سنة 1991. وتواصل الجزائر دعمها لهذا المطلب، رغم الدعوات الأممية المتكررة لضرورة انخراطها في مفاوضات مباشرة مع المغرب.
دي ميستورا لم يُخفِ قلقه من تدهور الأوضاع الإنسانية في مخيمات تندوف، محذراً من احتمال توقف تام للحصص الغذائية خلال الصيف إذا لم تتدخل الجهات المانحة بشكل عاجل.
وأشار إلى أن مرور خمسين عامًا على إدراج ملف الصحراء في أجندة الأمم المتحدة يجعل من الأشهر الثلاثة المقبلة فرصة سانحة لإحداث اختراق دبلوماسي، قد يمهد لاجتماع حاسم في أكتوبر المقبل.
وسط هذه التحولات، يدخل النزاع حول الصحراء منعطفًا جديدا؛ ففي العيون، كما في غيرها من مدن الصحراء، يواجه الصحراويون معضلة الانتماء؛ فهذا النزاع السياسي الممتد منذ عقود ألقى بظلاله الثقيلة على الوعي الجمعي، وجعل من الانتماء موضوعًا مُسيّسًا بامتياز؛ هناك من يُصرّ على هويته الصحراوية، وآخرون يرون أنفسهم مغاربة قبل كل شيء، فيما يحاول جيل ثالث أن يصنع توازنًا هشًا بين البينينِ، في منطقة يظل فيها التعبير عن الرأي محكومًا بسياقات معقدة.
هكذا تتشظى الهوية الصحراوية، لا ثقافيًا ولا لغويًا، بل سياسيًا قبل كل شيء؛ وهو جرح مفتوح خلفه النزاع المستمر، ولم تُفلح سنوات الحرب المريرة ولا مفاوضات السلام الطويلة ولا حتى التنازلات في علاجه بعد. وبين انتظار الحلّ، وتكلفة الانتظار، يعيش الناس هنا يومياتهم في واقع لا يمنحهم سوى مزيد من الأسئلة.
بعد نصف القرن من الصراع، تطرح “هوامش” السؤال التالي: “قضية الصحراء إلى أين؟”، وتنقل الآراء المتعددة في هذا النزاع الذي عمر طويلا، لتقريبها للقارىء بهدف فهم خلفيات المواقف المتقابلة وأثرها على واقع الناس.
“وجهان لعملة واحدة”
السالك، شاب صحراوي، (38 سنة)، لم ير المخيمات يومًا، ولا عاش أتون الحرب، ولكنه يعتبر نفسه “ابن الصراع”، ويقول أن “الطريق السلمي المرتبط بالدبلوماسية لم يجلب أي حل”، حسب تعبيره.
ويرى السالك، في تصريحه لـ”هوامش”، أن “جنسيته لن يحددها سوى تقرير المصير، سواءً بالانضمام إلى المغرب، أو بالاستقلال عنه”.
وفي الواقع، ليس هذا هو الرأي الذي يُجمع عليه الجميع هنا، إذ أن هنالك صحراويون لهم رؤية معاكسة، إذ يرى الحسن (33 سنة)، والذي ولد في ذات السنة التي وقع فيها طرفا النزاع، “وقف إطلاق النار”، أنه “مواطن مغربي”.
ويضيف الحسن، في حديثه لـ”هوامش”، “هذا الصراع لم يعطنا سوى الخسارة، ولا مستفيد منه سوى أباطرة النزاع، هنا في المناطق وهناك في المخيمات، وكلهم لا يريدون حلا لأن الصراع هو الضرع الذي يحلبونه”.
مرت اليوم خمسون سنة، نصف قرن من الزمن؛ عاشه الصحراويون مشتتين بين من يرى البوليساريو “حركة تحرير وطني تسعى لاستقلال الصحراويين عن المغرب”، ومن يراها “سكينا في يد الجزائر تريد به ذبح الرباط”.
وعلى الرغم من البنية التحتية التي بناها المغرب، منذ خروج المستعمر الإسباني، إلا أن الرباط لم تستطع أن تطفئ “نزوة” الإستقلال لدى فئة من الصحراويين، أو تقتل فيهم نزعة التحرر، ولا استطاعت جبهة البوليساريو بدورها الحفاظ على الكثيرين ممن عادوا إلى المغرب، والذين يقولون إن الشعارات التي ترفعها زاغت عن طريقها.
بينما يعتبر السالك، أن هذه المدن التي شيدها المغرب بشوارعها وبناياتها ليست سوى “خيرات الصحراء”، يرى أحمد ذو (الـ34 سنة)، والذي انطلق من العيون سنة 2006 إلى مخيمات تندوف وعاد منها ليفتح محل بيع مواد غذائية بالعيون، أن شرق الجدار الرملي العازل وغربه، “وجهان لعملة واحدة، لا حياة فيهما إلا للمقربين من دوائر السلطة”.
ويضيف السالك في حديثه لـ”هوامش”، أن البوليساريو “لم تعد قادرة على الحفاظ على روح ثورة الشعب بعدما صارت لعبةً في يد الجزائر، ولا تستطيع في حالة السلم واللاسلم هذه، أن تحقق مطالبه، بل فقط تلبي مطالب قادتها وأبنائهم”.
لا تزال قضية الصحراء مدًا وجزرا في المواقف، تتأرجح في المحافل الدولية، هذا النزاع الذي بدأ منذ خروج المستعمر الإسباني من الإقليم، لم تنهه بنادق الحرب بين المغرب والبوليساريو، ولا مفاوضات السلام بين الطرفين.
“2025 قد يكون فرصة حاسمة لحل نزاع الصحراء”
خلال سنوات حكم الملك محمد السادس، اضطر أربعة ممثلين خاصين للأمم المتحدة للصحراء إلى الاستقالة من مناصبهم دون حل النزاع. جيمس بيكر، قدم استقالته في يونيو 2004، بعد سبع سنوات من العمل. وخلفه البيرو ألفارو دي سوتو، الذي ظل في منصبه لمدة عام واحد فقط، وبعد ذلك جاء الهولندي بيتر فان والسوم سنة 2005، واستقال في السنة الثالثة، مخلفا ارتياحا كبيرا لدى جبهة البوليساريو.
وفي عام 2009، وصل الأمريكي كريستوفر روس، الذي استقال في عام 2017، تحت ضغط من المغرب، وكان الأخير هو الألماني هورست كولر، الذي استقال في ماي 2019، بحجة أسباب صحية، ليخلفه ستافان دي ميستورا الذي قدم هذا الأسبوع إحاطته حول القضية.
أكد ستافان دي ميستورا، المبعوث الشخصي للأمين العام للأمم المتحدة للصحراء، خلال إحاطته أمام مجلس الأمن في 14 أبريل 2025، أن الأشهر المقبلة قد تمثل فرصة حقيقية لإطلاق زخم جديد نحو حل سياسي متفق عليه للنزاع.
وأشار إلى زيارته الأخيرة إلى المنطقة، التي شملت الرباط وتندوف والجزائر ونواكشوط، مشددًا على أن الوضع الإقليمي لا يزال هشًا، في ظل انعدام الحوار بين المغرب والجزائر، وارتفاع التوترات العسكرية والدبلوماسية.
وسلط المبعوث الأممي الضوء على تطورين دبلوماسيين بارزين: زيارة وزير الخارجية المغربي ناصر بوريطة إلى واشنطن، حيث جددت الإدارة الأمريكية دعمها لمبادرة الحكم الذاتي المغربية، وأكدت التزامها بالمساعدة في إيجاد حل متوافق عليه، وزيارة وزير الخارجية الفرنسي إلى الجزائر، في سياق تحركات إقليمية لتهدئة الأوضاع.
وأوضح دي ميستورا أن الجانب الأمريكي نقل ثلاث رسائل أساسية: ضرورة أن يكون الحكم الذاتي جدياً ومفصلاً، وأهمية التوصل إلى حل مقبول من الطرفين، واستعداد الولايات المتحدة للانخراط المباشر في تسهيل هذا الحل.
وعبّر عن قلقه العميق من الأوضاع الإنسانية في مخيمات تندوف، محذراً من احتمال توقف توزيع الحصص الغذائية خلال الصيف، ما لم يتم تأمين دعم عاجل. ونقل تأثره بكلمات شابة صحراوية أعربت عن رغبتها في رؤية وطنها قبل وفاتها. كما دعا إلى مشاركة كاملة وفاعلة للنساء الصحراويات في العملية السياسية.
وأشار دي ميستورا إلى أن عام 2025 يصادف مرور خمسين عامًا على إدراج قضية الصحراء ضمن أجندة الأمم المتحدة، معتبراً أن جلسة أكتوبر المقبل قد تكون لحظة حاسمة، إذا ما توفر الزخم السياسي اللازم. واختتم بالتأكيد على التزامه الشخصي، وبتفويض من الأمين العام، بمواصلة جهوده لتسهيل مسار الحل السياسي.
دعوة للمرونة
في تدوينة على “فيسبوك”، قال محمود زيدان، الناشط السياسي المعارض لجبهة البوليساريو، إن المبعوث الأممي إلى الصحراء الغربية، ستافان دي ميستورا، أشار إلى “تخوف” جزائري وصحراوي من النسخة الحالية لمقترح الحكم الذاتي المغربي، مما يعكس وجود تحفظات حقيقية داخل الأوساط الصحراوية.
وأكد زيدان أنه رغم عدم ثقته في المصطلحات الدبلوماسية، التي قد تأتي أحيانًا بعيدة عن الواقع، فإن هذا التعبير من قبل المبعوث الأممي يعد نقطة انطلاق لتقييم جديد.
وأضاف زيدان: “إنني أرى أن الجبهة يجب أن تتخلى عن خطابها الجامد والصارم، الذي لا يستند إلى معطيات واقعية. من غير المقبول أن تظل بوليساريو متمسكة بمواقف غير مرنة، في وقت تشهد فيه الحركة تدهورًا داخليًا يزيد من حالة الإحباط لدى القواعد الشعبية”.
وأوضح زيدان أن “هذا لا يعني بالضرورة أن مقترح الحكم الذاتي المغربي أصبح مقنعًا، ولكنه يؤكد على ضرورة أن تكون هناك مرونة من جانب البوليساريو، خاصة في ظل الظروف الحالية”.
وأضاف: “إن الحركة بحاجة إلى إبداء مرونة سياسية حقيقية، بعيدًا عن الخطابات الشعبوية والمواقف المتصلبة، التي لم تجلب أي تقدم خلال العقود الماضية”.
وختم زيدان تدوينته قائلًا: “أعتقد أنه في هذه المرحلة، وعلى الرغم من الخلافات، يجب أن نضع مصلحة الشعب الصحراوي في المقام الأول، وأن نتعامل مع الحلول المقترحة بشكل واقعي وموضوعي، دون الإصرار على المواقف القديمة التي عفا عليها الزمن”.
الموقف الأمريكي.. من مغربية الصحراء إلى “إرهاب البوليساريو”
في دجنبر 2020، أعلنت إدارة الرئيس ترامب اعترافها الرسمي بسيادة المغرب على الصحراء، في مقابل توقيع الرباط اتفاقًا لتطبيع العلاقات مع “إسرائيل”.
واعتُبر هذا الإعلان جزءًا من “اتفاقيات أبراهام”، التي سعت واشنطن من خلالها إلى إعادة رسم خريطة التحالفات في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وتعزيز التقارب العربي الإسرائيلي.
المغرب من جهته، استثمر هذه اللحظة كفرصة استراتيجية لتثبيت موقفه في النزاع، وتكريس دعمه الدولي، خصوصًا من قِبل دولة بحجم الولايات المتحدة.
وفي المقابل، قوبلت هذه الخطوة برفض قاطع من جبهة البوليساريو والجزائر، معتبرين أنها “تقوّض مبدأ تقرير المصير”، المعتمد من قبل الأمم المتحدة منذ إدراج القضية في جدول أعمالها سنة 1975.
ورغم تغير الإدارة الأميركية، لم تعمد إدارة الرئيس بايدن إلى التراجع العلني عن الاعتراف، ما أبقى الموقف الأميركي في خانة الغموض البنّاء، مع تأكيد واشنطن باستمرار على دعم “مبادرة الحكم الذاتي الجادة” التي يطرحها المغرب.
وتشهد العلاقات بين المغرب وإدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب تقاربًا استثنائيًا، يندرج ضمن شبكة من التفاهمات الإقليمية، التي تشمل أيضاً “إسرائيل” والإمارات العربية المتحدة، والتي تم نسجها خلال الولاية الأولى لترامب.
وفي هذا السياق، أفادت مصادر قريبة من الجمهوريين لصحيفة “El Independiente” الإسبانية، بأن الرئيس ترامب قد “تعهد بدعم المغرب في نزاع الصحراء الغربية عبر خطوة تصعيدية جديدة، تتمثل في السعي لتصنيف جبهة البوليساريو كمنظمة إرهابية”.
وجاء طرح هذا التوجه وفق ذات الصحيفة، في اجتماع عقد مؤخرًا بواشنطن بين وزير الخارجية المغربي ناصر بوريطة ووزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو.
وخلال الاجتماع، أكدت الخارجية الأميركية مجددًا موقفها الداعم لمبادرة الحكم الذاتي المغربي، واعتبرتها الحل الوحيد القابل للتطبيق.
كما شدد البيان الصادر عقب اللقاء على دعوة ترامب الأطراف المعنية للدخول في مفاوضات فورية، على أساس مقترح الحكم الذاتي، باعتباره الإطار الوحيد القادر على تحقيق حل مقبول من الطرفين. وأشار البيان إلى استعداد واشنطن لتسهيل التقدم في هذا الاتجاه.
وتأتي هذه الخطوة في إطار استراتيجية ضغط تنتهجها إدارة ترامب، حيث يُنظر إلى تصنيف جبهة البوليساريو منظمة إرهابية؛ كخطوة من شأنها إضعاف معارضي المقترح المغربي.
وفي هذا السياق، صرّح للصحيفة الإسبانية، الباحث في السياسة الخارجية الأميركية بجامعة غرناطة، مايكل والش، أن “المغرب يرى في إدارة ترامب فرصة تاريخية لا تتكرر لتكريس سيادته على الصحراء الغربية”، مؤكداً على أنه “من مصلحة المغرب ممارسة أقصى درجات الضغط، لضمان انحياز الإدارة الأمريكية لصالح مبادرة الحكم الذاتي وتهميش معارضيها”.
موقف فرنسا وإسبانيا
قضية الصحراء هي واحدة من أبرز النزاعات الإقليمية المطولة في شمال إفريقيا، وتشكل محورًا حيويًا في علاقات المغرب مع العديد من القوى الدولية.
ويبرز في هذا السياق موقف كل من فرنسا وإسبانيا، باعتبارهما فاعلين رئيسيين في الملف بحكم علاقاتهما التاريخية، السياسية والاقتصادية مع المنطقة.
وفي يوليو 2024، أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون رسميًا اعتراف بلاده بسيادة المغرب على الصحراء، واصفًا مبادرة الحكم الذاتي المغربية بأنها “الأساس الوحيد” لحل النزاع.
وأكد وزير الخارجية الفرنسي جان-نويل بارو أن “حاضر ومستقبل الصحراء لا يمكن تصورهما إلا في إطار السيادة المغربية”، مشيرًا إلى أن هذا الموقف يمثل “خيارًا استراتيجيًا للدولة الفرنسية بأكملها”.
وفي إطار تعزيز هذا التوجه، أعلنت فرنسا عن استثمارات بقيمة 10 مليارات أورو في مشاريع تنموية في الصحراء، تشمل مجالات الطاقة المتجددة والنقل.
وفي مارس 2022، غيّرت إسبانيا موقفها التقليدي، وأعلنت دعمها لمبادرة الحكم الذاتي المغربية، واصفة إياها بأنها “الأساس الأكثر جدية وواقعية ومصداقية” لحل النزاع.
هذا التحوّل جاء في أعقاب أزمة دبلوماسية حادة مع المغرب، على خلفية استقبال زعيم جبهة البوليساريو إبراهيم غالي، للعلاج في مدريد.
وفي فبراير 2024، جدّد رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز دعم بلاده للمبادرة المغربية، مؤكدًا على “أهمية الشراكة الاستراتيجية” بين البلدين.
وتعكس مواقف فرنسا وإسبانيا اختلافًا في درجات الدعم للمغرب، حيث اختارت باريس الوقوف إلى جانب الرباط وأعلن الرئيس ماكرون ذلك بشكل رسمي تحت قبة البرلمان المغربي، في حين فضلت مدريد التحول إلى دعم صريح لمبادرة الحكم الذاتي، في خطوة غير مسبوقة في تاريخ موقفها من القضية.
ويستمر هذان الموقفان في التأثير على توازن العلاقات الأوروبية مع أطراف النزاع، وعلى الدينامية الإقليمية في المغرب الكبير.
الموقف الجزائري
لطالما كانت قضية الصحراء، لبّ توتر العلاقات بين المغرب والجزائر على مدى عقود؛ ففي قلب هذا النزاع تقف جبهة البوليساريو، المدعومة سياسيًا ولوجستيًا من الجزائر، في مواجهة المغرب الذي يتمسك بسيادته على الإقليم ويطرح مبادرة الحكم الذاتي كحل للنزاع.
وتدعم الجزائر منذ سبعينيات القرن الماضي جبهة البوليساريو، وتُعدّ أحد أبرز المدافعين عن “حق تقرير المصير للشعب الصحراوي” أمام المحافل الدولية.
وتؤكد الجزائر أن موقفها “مبدئي” و”يستند إلى الشرعية الدولية”، رافضة أي تسوية لا تشمل “استفتاء تقرير المصير”.
وقطعت الجزائر علاقاتها الدبلوماسية مع المغرب في غشت 2021، متهمةً الرباط بالقيام بأعمال عدائية تشمل “دعم جماعات انفصالية داخل الجزائر، والتجسس عبر برنامج بيغاسوس، وتطبيع العلاقات مع إسرائيل بطريقة تهدد أمن الجزائر”، وفق ما أوردته وزارة الخارجية الجزائرية حينها.
وفي مناسبات عدة، رفضت الجزائر المشاركة في مفاوضات رباعية بإشراف الأمم المتحدة، تضم المغرب والبوليساريو وموريتانيا، معتبرة نفسها “طرفاً مراقبًا” فقط، رغم مطالبة المبعوث الأممي ستافان دي ميستورا بضرورة إشراكها الفعلي في أي تسوية سياسية.
ومنذ خرق وقف إطلاق النار، في نوفمبر 2020، عقب العملية المغربية في منطقة الكركرات، عادت جبهة البوليساريو للإعلان عن حالة “الحرب المفتوحة” ضد المغرب.
ومنذ ذلك الحين، تتواصل العمليات العسكرية المتقطعة، خاصة في المناطق العازلة شرق الجدار الرملي الذي يفصل القوات المغربية عن مقاتلي البوليساريو.
الجبهة الصحراوية، تعلن بصفة دورية عن هجمات ضد مواقع الجيش المغربي، إلا أن هذه التصريحات لا يُمكن التحقق منها بشكل مستقل نظرًا لصعوبة الوصول الإعلامي إلى المنطقة.
ومن جانبها، تؤكد الرباط أن الوضع “تحت السيطرة”، وتصف هجمات الجبهة بأنها “مناوشات إعلامية لا أثر ميداني لها”.
وتُواصل الجزائر دعم البوليساريو دبلوماسيًا، كما تستضيف قيادتها ومخيمات اللاجئين في تندوف، جنوب غرب البلاد، التي تشهد ظروفًا إنسانية صعبة، دفعت الأمم المتحدة إلى دق ناقوس الخطر بسبب تراجع التمويل الدولي للمساعدات الغذائية هناك.
ويُعد دعم الجزائر لجبهة البوليساريو أحد المحاور الأساسية في التوتر بين الرباط والجزائر، ويعكس صراعًا جيوسياسيًا أوسع بين دولتين محوريتين في شمال إفريقيا.
وفي ظل انسداد الأفق السياسي، وتوقف مسار المفاوضات، تستمر الاشتباكات المحدودة، بينما تُحذر الأمم المتحدة من خطر تحول النزاع إلى صراع إقليمي أوسع إذا لم يتم التوصل إلى تسوية سياسية عادلة ومتفق عليها.
“لا أريد أن أُدفن في الملاجئ”
بعد نصف قرن، جرت الكثير من المياه تحت جسر هذه القضية، التي يرى الكثير من المغاربيين أنها كانت ولا تزال حجر عثرةٍ أمام اتحاد دول “المغرب الكبير” أو “المغرب العربي”، حسب اختلاف المسميات، فجبهة البوليساريو التي أعلنت دولة من طرف واحد في مخيمات اللاجئين بصحراء الجزائر؛ لا تزال مصرةً على أن النزاع “صحراوي-مغربي”، بينما هنالك أصوات صحراوية أخرى تطالبها بالتغيير، وتتهمها بالشمولية ورفض الرأي الآخر.
ونقل المبعوث الأممي ستافان دي ميستورا عن شابة صحراوية لاجئة قولها إنها وُلدت في المخيمات، ولم تعرف واقعًا آخر طوال حياتها. وأضافت أنها دفنت جدّيها ووالديها هناك، قبل أن تختم بكلمات مؤثرة: “عندما أموت، لا أريد أن أُدفن هنا. أريد أن أرى وطني، وأن أُدفن هناك.”
ما قالته هذه الشابة يعكس شعورًا يتقاسمه كثير من الصحراويين، الممزقين بين جانبي الجدار العازل. وهو ما يُفسّر الإحساس العميق بالضياع، وباللايقين، الذي يتكرر بصوتٍ خافت أو بصراخٍ صامت بين جيل الشباب في هذا الصراع الطويل.
ففي المدن الصحراوية الخاضعة للسيطرة المغربية، يتحدث الشباب عن التهميش، وعن فرص ضائعة، وعن هوية يشعرون أحيانًا أنها تُختزل في شعارات سياسية بعيدة عن واقعهم. أما في مخيمات تندوف، فيشتكي اللاجئون من ضيق الحال، من قلة الآفاق، ومن حياة مؤقتة امتدت لأكثر من أربعة عقود.
لكن ما يجمعهم جميعًا، على اختلاف أماكنهم ومواقفهم، هو توقهم إلى حلّ يُنهي هذا الشتات، ويمنحهم الحق في رسم مستقبل واضح الملامح. فهم يتذكّرون الماضي بحسرة، وينظرون إلى الحاضر بتوجّس، غير أنهم يتشبّثون بخيط رفيع من الأمل، ينسجون منه حلمًا بغدٍ لا تحدّده معادلات السياسة وحدها، بل تصوغه الكرامة، والعدالة، والحق في الاختيار.
ويعتبر محمود زيدان، الشاب الذي ولد في مخيمات تندوف واللاجئ في فرنسا، أن “الألم الذي نعيشه، نحن الذين وُلدنا في حقبة الضعف والانكسار التدريجي لهذا المشروع، يتجاوز كل تلك العبارات التي استخدمها أناس لم يجربوا شعور العيش في الملاجئ دون أدنى أمل في الغد. نعيش فقط لكي لا نموت. تتمزق أقدارنا بين مغترب هائم على وجهه، ولاجئ دفعه الجوع والفقر إلى خوض كل المخاطر، وغالبًا ما تنتهي بموته”.
“ولعلي هنا أقتبس من افتتاحية ديميستورا، وأستعين بحالتي وأقول للعالم: لا أريد أن أُدفن في الملاجئ، ولا أريد أن تتورط الأجيال القادمة في هذه الأزمة التي لا تعرف سوى التهام الأجيال، ودفن الأخيار بعيدًا عن مرابض الأجداد”، وفق ما خلص إليه زيدان.