الرئيسية

دراسة: احترام حقوق الإنسان مجرد “ترف ” داخل المقاولات الفلاحية في المغرب

كشفت دراسة حديثة أصدرها "معهد الدراسات الاجتماعية بالرباط"، بالتعاون مع منظمة "محامون بلا حدود"، عن مسؤولية المقاولات الفلاحية، أو الصناعية-الغذائية، بشأن انتهاكات واسعة يواجهها العمال والمجتمعات المحلية من طرف المشغلين.

عماد استيتو

الدراسة الصادرة قبل أسابيع، والتي عكفت عليها الباحثات: سلوى الزرهوني، وسلوى حنيف، وإيمان نية، أبرزت الفجوة الكبيرة بين الخطاب الرسمي، والتنزيل الفعلي لمبادئ المسؤولية الاجتماعية والبيئية للمقاولات، في وقت تشهد فيه الاقتصادات العالمية تحولات كبيرة نحو تعزيز المسؤولية الاجتماعية والبيئية للمقاولات.

اعتمدت الدراسة على منهجية بحثية متعددة الأبعاد، إذ تم الجمع بين التحليل بالوثائق والمقابلات النوعية مع مختلف الأطراف المعنية، بما في ذلك الفاعلين المؤسساتيين والحكوميين المعنيين بمسألة حقوق الإنسان والصناعات الزراعية-الغذائية، ومفتشو الشغل، وممثلي المقاولات وكوادرها، والعمال، والنقابات، والجمعيات المدنية العاملة في مجالي حماية البيئة والمستهلك. 

هكذا، شملت الدراسة عينة متنوعة من المقاولات: كبرى، ومتوسطة، وصغرى، ووطنية ومتعددة الجنسيات، حيث تم إجراء 42 مقابلة فردية و8 مجموعات نقاشية، بمشاركة 11 شخصًا كمراجع رئيسية، مع التركيز على منطقتي الرباط-سلا-القنيطرة، وطنجة-تطوان-الحسيمة، نظرًا لتجمع الأنشطة الزراعية والصناعات الغذائية فيهما.  

انتهاكات في كل مكان 

تستنتج الدراسة، أن المقاولات الزراعية في المغرب لا تتبنى نهجاً موحداً فيما يتعلق باحترام حقوق الإنسان، هذا التنوع في الممارسات يتراوح بين الاحترام الكامل للقوانين والانتهاك الصارخ.

 فهناك، بحسب المستجوبين، مقاولات تلتزم بالحد الأدنى من احترام التشريعات، وأخرى تتبنى ممارسات إيجابية تتجاوز احترام التشريعات المغربية فيما يتعلق باحترام الحقوق العمال، و فئة ثالثة تضرب بعرض الحائط كل الحقوق بالاستغلال المفرط للعمال والموارد الطبيعية. 

لم تظهر الدراسة وجود نموذج مثالي للمقاولات التي تحترم حقوق الإنسان بشكل كامل. حيث ينطبق عدم احترام حقوق الإنسان على الشركات جميعها باختلاف حجمها، وعلى الشركات المغربية كما الأجنبية. بل حتى المقاولات الكبرى متعددة الجنسيات، التي يُفترض أنها تلتزم بمعايير دولية عالية، تظهر فيها انتهاكات، خاصة عندما يتعلق الأمر بتطبيق القوانين المحلية.

ويصف أحد النقابيين المستجوبين في الدراسة، مثلا، نموذج المقاولة التقليدية التي يملكها صاحب رأس المال: “هناك المقاولة التي يديرها ‘مول الشكارة’ في أسوأ تجلياتها، في هذا النموذج لا تحترم ظروف العمل حقوق الإنسان، ولا يحترم الحد الأدنى للأجور، وشروط العمل اللائق، علاوة على غياب وسائل التنقل، وعدم توفر أبسط الحقوق الاجتماعية”

فيما يورد آخر مثال المناطق الصناعية الحرة، كما هو الحال في طنجة والقنيطرة وغيرها، والتي يتم فيها توظيف النساء أكثر من الرجال، حيث يتم تشغيلهن بشكل متواصل لمدة تصل حتى 12 ساعة يوميا، دون احترام الحد الأدنى للأجور.

كما لا يظهر البحث أي تمييز بين القطاعات التي لا تحترم حقوق الإنسان، فكلها، من صناعة الألبان إلى صناعة اللحوم، تعرف انتهاكات على مستوى ظروف العمل والسلامة.

“بالنسبة لمعامل صناعة الألبان مثلا، لا يتوفر العاملون على سترات مناسبة لدخول المناطق المخصصة للتبريد.. في شركات أخرى لا يحصل العمال المكلفون بجمع النفايات على قفازات خاصة بكل نوع من النفايات.. في وحدات إنتاج المواد الكيماوية لا تحترم صحة الأجراء، وتحديدا أولئك الذين يتعاملون مع مواد يمكن أن تسبب أمراضا تنفسية، باختصار لا يتم تزويد العمال بأدوات الحماية التي تخص كل مهمة … خذ القفازات على سبيل المثال، بعض المشغلين يوفرون قفازات لاستخدام معين، لكن العامل يستخدمها في مهام متعددة”، يكشف مفتش شغل.

تعايش بين العمل الرسمي وغير الرسمي

يجمع المشاركون في هذا العمل البحثي على أن الفروقات التنموية، وغياب التكافؤ بين الحواضر الكبرى، مثل الدار البيضاء وطنجة، والمناطق القروية، يؤثر بشكل كبير على وضعية حقوق الإنسان. حيث يسمح وجود مقاولات مهيكلة في الحواضر الكبرى بتعزيز احترام حقوق الإنسان، بينما يعرف القطاع غير المهيكل، ومعه المجال القروي، نواقص كثيرة في هذا الباب.

توصلت معدات الدراسة أيضا إلى وجود تعايش بين العمل الرسمي وغير الرسمي داخل نفس المقاولة. والعمل غير الرسمي هنا هو خلاف القطاع غير المهيكل، الذي يجمع أنشطة اقتصادية لا يؤطرها قانون الدولة.

ففي كثير من الأحيان، يتم توظيف عمال بشكل غير رسمي (بدون عقود عمل أو تأمين اجتماعي) إلى جانب عمال يتمتعون بحقوقهم الكاملة، كما هو الشأن بالنسبة لمقاولات البناء التي تشغل عمالا موسميين. وتخلق هذه الوضعية تمييزًا بين العمال، ويضعف ذلك من قدرتهم على المطالبة بحقوقهم.

“خلال بعض الزيارات التفتيشية، نجد بعض العمال مصرحا بهم، وآخرين غير مصرح بهم، هذا التفاوت داخل المؤسسة ذاتها لا يسمح لنا بتصنيفها، على سبيل المثال، تدخل إلى ورشة عمل فتجد 50 أو 60 عاملاً، منهم 36 فقط مصرحا بهم، بينما البقية غير مسجلين”، يشرح أحد مفتشي الشغل في مقابلة مع الباحثات.

تُظهر الدراسة إذن وجود انتقائية في تطبيق مواد القانون، ففي بعض الأحيان، تقوم الشركات بالتصريح ببعض موظفيها دون الآخرين، كما تحدد بنفسها متى ولأي مدة تطبق الأحكام القانونية. في الواقع، قد تلتزم الشركات بالقانون، أو بمعايير الشهادات لفترة معينة، أو فقط خلال فترات التدقيق، ولكن ليس بالضرورة على مدار السنة.

وفي هذا السياق، يشير المشاركون في الدراسة إلى أن نظام منح الصفقات العمومية يشجع الشركات على الامتثال للقوانين على المدى القصير، أو احترام بعض البنود فقط، بهدف استيفاء الشروط المطلوبة لتقديم عروضها.

وقد ندد أحد ممثلي النقابات بهذا الأمر، مشيرًا إلى أن اشتراط تقديم كشوف التصريح لدى الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي (CNSS)، للعمال المشاركين في الصفقات العمومية كوثائق إلزامية لدراسة العروض، يدفع أرباب العمل إلى الامتثال لهذا الشرط فقط خلال الأشهر التي تسبق التقديم. ولكن بمجرد حصولهم على الصفقة، يتوقفون عن دفع الاشتراكات بعد بضعة أشهر.

“في الواقع، تقوم هذه الشركات بالتصريح بالعمال مرة واحدة، أو لمدة ثلاثة أو أربعة أشهر فقط، وتقدم القوائم المطلوبة. وعند إجراء عملية التحقق، نجد أن هؤلاء العمال مسجلين بالفعل لدى CNSS، لكن الشركة لا تدفع مساهماتهم. في النهاية، لا يتم تطبيق مدونة الشغل التي أعدتها وزارة العمل إلا بنسبة 7٪ فقط“، يوضح أحد النقابيين بشكل أكثر تفصيلا.

تطرح هذه الانتقائية في تطبيق القوانين، وفق الدراسة، تحديات حقيقية للمسؤولين في الإدارات العامة أثناء أداء مهامهم في التفتيش والمراقبة. إذ قد تلتزم نفس الشركة ببعض القوانين وتنتهك قوانين أخرى، وبالتالي، لا يمكن الحديث عن تطبيق القانون بشكل عام، بل عن درجة تطبيقه من قبل شركة معينة، ولا يمكن الحديث عن الامتثال الكامل للشركات للقانون، بل عن درجة الامتثال لكل قانون على حدة.

بشكل أوضح، تظهر هذه النتائج أن الشركة، بغض النظر عن حجمها أو قطاعها أو موقعها الجغرافي أو جنسية رأس مالها أو درجة هيكلتها، تتمتع بسلطة فعلية على حقوق الأفراد والمجتمعات وعلى الموارد البيئية. تظهر هذه السلطة من خلال الاختيار المتعمد لتطبيق، أو عدم تطبيق، المواد القانونية أو المعايير الدولية.

12 ساعة عمل متواصلة 

يخلص البحث إلى شيوع انتهاكات متكررة لحقوق العمال وللقانون المنظم للشغل، تحديدا ما يخص الأجور، والصحة، والسلامة، وحرية الانتماء النقابي.

تأخذ الانتهاكات للحقوق الاجتماعية والاقتصادية أشكالاً متعددة، من أبرزها: عدم احترام مواعيد العمل، وعدد الساعات التي يتم العمل فيها يومياً، وعدم التعويض عن الساعات الإضافية. 

وتظل الممارسة السائدة هي العمل لمدة 12 ساعة في اليوم، مقابل دفع فعلي لمدة 7 ساعات، مع عدد ساعات مسجلة في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي أقل من عدد الساعات التي تم العمل بها فعلياً. 

هذا، علاوة على الانتهاكات الملموسة من قبيل: حمل الأوزان الثقيلة، والتعامل مع المواد السامة دون حماية، والتعرض للضوضاء، والحرارة، أو حتى البرد. 

“…أين هي حقوق الإنسان؟ في يوم كامل يدفع لها 10/11 درهما للكيلوغرام الذي يتم تقشيره”، يتحدث فاعل نقابي عن عاملات وحدة صناعية يشتغلن في تقشير الروبيان “القيمرون” في أماكن جد باردة، و في ظروف صحية سيئة.

وتفتح الدراسة ملف “الأمراض المهنية” الشائك، فعلى الرغم من الاعتراف بها في قانون العمل، فإن إجراءات الإعلان عنها تظل غامضة وصعبة التنفيذ، ويتخلى معظم العمال عن مطالبتهم بحقهم المشروع، وبالتالي إعلان مرضهم المهني، مخافة أن تقوم الشركات المشغلة بفصلهم تعسفيا، في سوق يتسم بندرة الوظائف.

“إذا قمت بالإبلاغ عن المرض المهني، سيتم فصلي لأنني سأواجه صاحب العمل في المحكمة. لا أحد سيقبل أن يرفع موظفه دعوى ضده ويستمر في العمل معه”، يوضح أحد العمال.

ويتبين من المناقشات التي أجريت مع مختلف المشاركين في الدراسة أن العمال، في غالبيتهم، يشعرون بنوع من العجز وعدم القدرة على الدفاع عن أنفسهم، والضعف أمام سلطة صاحب العمل، أو الشركة، أو مرؤوسيهم. وتظل الحريات النقابية أكبر أعداء المشغلين، فرغم الاعتراف بها دستوريا، وحمايتها من طرف قانون الشغل، فإن الواقع على الأرض مختلف تماما.

يشير مفتشو العمل، وممثلو النقابات، والجمعيات، والعمال إلى أن ممارسات انتقامية متكررة يتعرض لها العمال، خاصة في حالات التعبئة من أجل حقوقهم (إضرابات، اعتصامات، الالتحاق بالعمل النقابي…)، فبالإضافة إلى تعريضهم للطرد التعسفي، يوضعون في ” قوائم سوداء” تجعلهم محرومين من أي فرصة توظيف مستقبلية في مقاولات أخرى، لأن المشغلين لا يحبذون “المشاغبين”.

في كثير من الأحيان تمارس هذه التدابير القمعية حتى قبل إنشاء مكتب نقابي رسمي، مما يثبت وجود عمل منهجي لعرقلة ممارسة الحرية النقابية، وتثبيط أي مبادرة لتنظيم العمال.

“إذا تم إنشاء المكتب النقابي اليوم، ففي اليوم الموالي سيتم حظر بطاقات الدخول الخاصة بهم (العاملين المعنيين) ومنعهم من دخول المباني، أي أنه سيتم فصلهم… “، يحكي أحد الممثلين النقابيين عن تجارب سابقة.

وتبقى النساء العاملات في هذه المقاولات أكثر الفئات هشاشة، وتعرضا لانتهاك الحقوق، وامتهان الكرامة، على جميع المستويات: التمييز في الأجور، التحرش الجنسي، والعنف اللفظي والجسدي، وعدم احترام الخصوصية.

يتطرق المستجوبون في الدراسة إلى تمييز مزدوج تواجهه النساء العاملات في المقاولات الفلاحية. و يتمثل ذلك في استبعادهن من المناصب القيادية، وبالتالي التواجد المستمر في الوظائف الشاقة، وفي نفس الوقت يحصلن على أجور أقل، مقابل عدد ساعات عمل أكبر، مقارنة بالعمال الذكور. فيما تبقى الانتهاكات التي تمس كرامة هؤلاء العاملات وسلامتهن الجسدية والنفسية في أماكن العمل هي الأكثر بروزا.

وانتقد بعض المستجوبين التمييز الإيجابي في التشغيل في عدد من القطاعات، التي تستهدف باحثات عن الشغل في وضعيات هشة غير مدركات لحقوقهن بهدف ممارسة أشكال مختلفة من التمييز والانتهاكات ضدهن، دون خوف من مطالبتهن بحقوقهن. “في القطاع الزراعي أو الصناعات الغذائية، اختيار النساء ليس اعتباطيا بل مدروس. لأنه في ثقافتنا، المرأة تسكت، وتتحمل، ولا تطالب بحقوقها، فهي تقبل الوضع. سبب آخر، هي تعيل أسرتها، يجب عليها جلب المال إلى المنزل، وبالتالي، فهي تقبل انتهاك حقوقها”، تفسر مفتشة شغل.

بخلاف ذلك، يتم تعريض العاملات الزراعيات لظروف نقل تغيب عنها شروط السلامة، حيث يجري تكديسهن بالعشرات في سيارات صغيرة، مثل الخضر، تقطع مسافات طويلة بين أماكن سكن العاملات ومقر العمل، وقد أودت هذه المركبات بحياة العشرات من العاملات في السنوات الأخيرة.

أحد مفتشي العمل، الذين عملوا في منطقة زراعية، يعتبر أن العاملات يجمعن بين ظروف اجتماعية هشة، والعنف الذي يتعرضن له، وصمتهن تجاهه، بالإضافة إلى الصمت الكامل للمجتمع حيال هذه الوضعية.

يجمع الفاعلون الذين أجريت معهم مقابلات خلال الدراسة، أن وضعية حقوق الإنسان تزداد سوءا داخل المجال غير المهيكل الذي تمس فيه الانتهاكات كل المستويات، ويزيد التداخل بين ما هو منظم وما هو غير منظم من صعوبة عمل مفتشي الشغل.

“توظف هذه المزرعة الزراعية 350 شخصًا، ويفتخر صاحبها بأنه قد سجل موظفيه في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي. لكن، على سبيل المثال، المرأة العاملة ليس لها حق في النقل المصرح به والقانوني. في الواقع، الوضع السائد اليوم هو أنه أصبح من الصعب التمييز بين القطاع غير المهيكل والقطاع المهيكل”، يوضح مفتش شغل.

تحصل هذه الخروقات كذلك، بشكل أكبر، فيما يعرف بالشركات المؤقتة وشركات المناولة، فالعمال مضطرون للعمل في مواقع تابعة لشركة العميل بدلًا من صاحب العمل المباشر لهم. 

في هذا السياق، تصبح المسؤولية عن احترام حقوقهم غامضة، لأن عقد العمل لم يعد يضم طرفين محددين بوضوح، بل ثلاثة. و في بعض مواقع البناء، على سبيل المثال، تصبح سلسلة المتعاقدين معقدة لدرجة أن العمال أنفسهم لا يعرفون لمن يعملون. والأكثر قلقًا هو أن مفتشي العمل، المكلفين بضمان احترام حقوق العمال، كثيرا ما يجدون أنفسهم في وضع يفوق قدرتهم على التعامل مع هذه الحالات.

“لا يحتاج صاحب العمل إلا إلى مكالمة هاتفية. يتصل بالشركة المتعاقدة ليقول لها: “لا أريد هذا الشخص عندي بعد الآن”، وهذا كل شيء! أحيانًا، لإبلاغ العامل بأنه قد تم فصله، تطلب [الشركة المتعاقدة] من سائق النقل عدم التوقف لأخذه. وهذا يعني أن العامل يستيقظ باكرًا في الصباح، يتناول فطوره، يرتدي ملابسه، ويخرج لينتظر وسيلة النقل في المكان المعتاد، لكن النقل لا يأتي”، يستنكر أحد الذين تم استجوابهم من طرف الباحثات.

بخلاف العاملات والعمال، الذين يتعرضون للاضطهاد بشكل منهجي، ويشعرون بالعجز والهشاشة في مواجهة سلطة المشغل، لا يتعرض الأطر والموظفون إلا نادرا لهذه الانتهاكات من طرف أرباب العمل.

يرى مفتشو الشغل، والممثلون النقابيون، الذين شاركوا في الدراسة أن أرباب الشركات يلعبون دورًا محوريًا في إرساء وتعزيز الممارسات التي تحرم العمال من حقوقهم. ومع ذلك، فهم ليسوا المسؤولين الوحيدين عن هذه الممارسات، حيث يساهم مسؤولو الموارد البشرية،  والإنتاج، بالإضافة إلى رؤساء الفرق و”الكبرانات” في هاته الانتهاكات. 

فحسب رأيهم، يتبنى بعض الأطر سلوكيات انتهازية لتعزيز مسارهم المهني، مثل طرد العمال الذين يطالبون بحقوقهم. فيما يستغل آخرون ببساطة موقعهم في السلطة لممارسة التحرش، أو أي شكل آخر من أشكال الإساءة ضد العمال.

البيئة آخر الاهتمامات

وفقًا لأحد الفاعلين في المجتمع المدني، الذي كان وراء إنشاء وإدارة العديد من جمعيات الدفاع عن البيئة، فإن عدم احترام المعايير البيئية يمثل القاعدة وليس الاستثناء.

يؤدي التلوث الناتج عن عدم معالجة النفايات الناجمة عن أنشطة الشركات، والتخلص منها في المناطق المجاورة، إلى تلويث التربة والمياه والهواء بالنسبة للمجتمعات المحلية. في بعض الأحيان، تكون لهذا تداعيات على الثروة المائية للبلاد، مما يؤثر بشكل غير مباشر على الاقتصاد الوطني، وهو ما يحصل مثلا في وادي إكم.

وترتفع حدة الأضرار التي تلحق بالسكان المجاورين، في المناطق الصناعية، حيث تتركز أنشطة صناعية معينة تنتج كميات كبيرة من النفايات السامة.

“على سبيل المثال، في القنيطرة، هناك رائحة كريهة تنبعث ليلًا من المنطقة الصناعية. هذه الرائحة تؤثر على الأشخاص الذين يعيشون بالقرب منها وليس لهم أي علاقة بهذه الوحدات. لا يمكنهم حتى فتح نوافذهم. وهذا يؤثر على حقوق الإنسان والبيئة.”  يسوق مسؤول في إحدى جمعيات الدفاع عن حقوق المستهلكين مثالا مبسطا.

إجراءات وقائية محدودة

على الرغم من وجود بعض الإجراءات الوقائية التي تتخذها المقاولات لمنع الانتهاكات، إلا أن هذه الإجراءات تظل محدودة وغير كافية. غالبًا ما تكون هذه الإجراءات مدفوعة بالخوف من المسؤولية الجنائية، أو الرغبة في الحصول على شهادات الجودة، وليس بدافع الالتزام الحقيقي بحقوق الإنسان. 

هكذا، يفرض المتعاقدون الأجانب احترام هذه الشروط بشكل أساسي للحصول على العقود من قبل المقاولين الفرعيين، وإلا فإن الشركات قد تواجه رفض منتجاتها. وبالتالي، يلتزم هؤلاء المقاولون بالامتثال الصارم لكراس الشروط التي تفرض متطلبات الجودة واحترام الحقوق الاجتماعية. فيما تقوم المقاولات في قطاعات معينة، مثل  الصيد البحري، ومنتجات الألبان، وفواكه البحر، بتفعيل آليات حماية الانتهاكات البيئية في بعض الحالات نتيجة الخوف من سحب التراخيص.

وبالنسبة إلى بعض الشركات، فإن احترام هذه الإجراءات ينبني على منطق ربحي على المدى البعيد، حيث تقبل بتكاليف الاجتماعية على المدى القصير، بهدف تحقيق ربح عام لاحقا، فيما يعتبر تبني هذه الإجراءات الوقائية ضد انتهاكات حقوق العمال أمرا استراتيجيا للبعض الآخر، مرتبطا ارتباطًا وثيقًا بالسمعة وصورة الشركة، حيث تتبنى الشركات الفرعية التابعة للمؤسسات متعددة الجنسيات هذه الإجراءات، حتى تتماشى مع استراتيجية المجموعة الأم.

بالإضافة إلى العوامل الاقتصادية المتعلقة بالربحية، تبرر العوامل الشخصية أحيانا تبني المديرين لإجراءات وقائية ضد انتهاك حقوق العمال، على سبيل الذكر، يشدد رئيس تعاونية للألبان على احترام حقوق العمال كما رأى والده يفعل، بالنسبة إليه من الضروري الحفاظ على سمعة والده.

غير أن الإجراءات المتخذة ضد انتهاك الحقوق نادرة جدًا، ومحدودة بمواقف معينة، وضعيفة وغير فعالة، مما يشجع على استمرار هذه الانتهاكات. هذا يثير تساؤلات حول مدى جدية الشركات في تحمل المسؤولية تجاه حقوق الإنسان في بيئة العمل، ومدى قدرتها على تطبيق تدابير فعّالة وشاملة لمكافحة انتهاكات الحقوق، بدلاً من الاقتصار على إجراءات محدودة قد لا تُطبق بشكل شامل أو مستمر.

تذهب الدراسة إلى أن التحديات التي تواجه تحسين مسؤولية المقاولات في مجال حقوق الإنسان ليست فقط هيكلية، بل أيضًا ثقافية. إذ هناك نقص في الثقافة الحقوقية، في أوساط العمال وعند أصحاب العمل على حد سواء. كما أن هناك فهمًا محدودًا لمفهوم حقوق الإنسان، حيث يتم التركيز غالبًا على الجوانب الاقتصادية دون الاهتمام الكافي بالجوانب الاجتماعية والبيئية.

العمال مثلا تربوا على التهديدات التي تجعلهم يقبلون وضعهم بشكل سلبي ولا يطالبون بحقوقهم، فيما يعتبر معظم أرباب العمل أنفسهم غير ملزمين بقبول الحق في العمل النقابي، بل ويعتبره جزء منهم جريمة.

ويمثل غياب الثقافة الحقوقية وانتهاك الحقوق داخل الشركات نموذجا مصغرا للوضع الحقوقي العام في البلاد. ويبرز المشاركون في الدراسة من أعضاء النقابات، ومنظمات العمل، والجمعيات نقص الإرادة السياسية للدولة، الذي يظهر من خلال الفجوة بين الإصلاحات السياسية، والقانونية والمؤسسية المتبناة وتنفيذها الفعلي.

“ليست هناك إرادة سياسية حقيقية، نحن فقط نتبع الموجة على المستوى الدولي.هناك ترسانة من القوانين نعم، ولكن الإرادة السياسية الحقيقية غير موجودة، غائبة تماما”، يصف نقابي المشهد.

تخلص الدراسة أخيرا إلى وجود فئات بين النخب الاقتصادية والسياسية، تعيق التطبيق الفعلي للإصلاحات القانونية والاجتماعية والاقتصادية، إذ يتواطأ رأس المال الخاص مع السلطة السياسية، حيث تقوم مثلا النخبة في القطاع الزراعي بالتشكل في جماعات ضغط للحفاظ على امتيازاتها، وتعطيل أي تغيير، مثل ذلك الذي يهدف إلى تنظيم العمال الموسميين.

“يلجون البرلمان لحماية أنفسهم وحماية ملفاتهم من مجلس الحسابات، عادة لديهم الكثير.. الدولة تعرف أن هؤلاء لديهم ملفات، ومع ذلك …”، يصرح نقابي.

يُشير بعض ممثلي النقابات وفرق التفتيش إلى الحماية التي يتمتع بها أصحاب العمل، الذين هم أيضًا سياسيون، أو أصحاب العمل الذين يحافظون على علاقات وثيقة مع السلطة السياسية، في حالة انتهاك حقوق العمال، والمجتمعات المحلية، مستفيدين من بيئة فاسدة يساهم فيها الجميع.

“أي حل سيقترحه عليّ مفتش الشغل؟ هل سيأخذني بعين الاعتبار أو يأخذ المال… هل سيعطي الأولوية لصاحب الشركة وللمستثمر الزراعي الذي لديه المال، أم لي أنا؟ كل شيء أصبح مالًا، كل شيء يعتمد على الواسطة، يمكنك أن تموت في الشركة، أو في المزرعة، دون أن تحصل على أي شيء منهم”، يتساءل أحد العمال متحسرا.

يتطلب تطوير واقع حقوق الإنسان في هذا القطاع، بحسب خلاصات الدراسة، تدخلاً أكثر صرامة من الدولة، إلى جانب إصلاحات هيكلية تعزز ثقافة المسؤولية الاجتماعية داخل المقاولات، وفصل النفوذ السياسي عن المصالح الاقتصادية.

الدراسة كاملة

إقرأوا أيضاً:

من نفس المنطقة:

magnifiercrosschevron-down linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram