عادل ايت واعزيز
فتاح عبو ليس كاهنا، بل هو فنان أمازيغي، والواقفون حوله ليسوا شمامسة، بل أعضاء فرقة موسيقية أمريكية، سحرتهم الموسيقى الأمازيغية، التأموا ذلك اليوم لأداء أغنية نتغي Ntghi، التي تعود للمجموعة الأمازيغية إزنزارن.
تلك السنة، تلقى فتاح عبو دعوة للمشاركة في المهرجان السنوي Pilgrimage “الحج”، الذي تنظمه فرقة سانتا في ديزرت كورال Santa Fe Desert Chorale، وهي فرقة موسيقية، تأسست سنة 1982م، في نيو ميكسيكو.
هذا المهرجان موعد سنوي يلتقي فيه موسيقيون محترفون من لبنان، وتركيا، واليونان، وإسبانيا، وفرنسا، ثم شمال إفريقيا، الذي مثله فتاح عبو، الذي اختار أغنية الفنان إكوت عبد الهادي، نتغي Ntghi، وتعني “حوصرنا”، بعد أن أزال ربع المقام منها.
شرارة موسيقية
لم يكن فتاح عبو، القادم من دوار البرج بقبيلة إسكساوان، سنة 1973، ضواحي إمينتانوت، يدرك أن شغفه الطفولي بفنون أحواش والموسيقى الأمازيغية، سيتجاوز ذكريات طفولته الأولى، والولع المؤقت، ليصبح مقدمة قصة ستتجاوز حدود قريته الصغيرة. كما لم يكن يعلم أن الإيقاع الذي سكن وجدانه، سيصير يوما ما جسرا، بين ثقافته الأم، والشعوب الأخرى، يحمل صداه إلى بلاد العم سام، حيث أصبح سفيرا للأغنية الأمازيغية.
بين جبال الأطلس، كما في غيرها من الرقع الجغرافية المغربية البسيطة، حيث الفنون الأمازيغية، احتفاء بالحياة، وإغراءً يصعب مقاومته، نشأ فتاح عبو الذي سحرته الإيقاعات. ولم يكن أحواش أو الروايس أو حتى المجموعات الغنائية في كل المناطق مثل إمينتانوت، مجرد طقس احتفالي، أو ترفا عابرا، بل تذكرة عبور للهوية الأمازيغية، وذاكرة متقدة، تترجم عواطف الإنسان الأمازيغي؛ هي لغة وجود، تعبر عن الأحلام، والحب، والحزن، والفرح، والمقاومة.
سنة 1989، حين كان فتاح يواصل دراسته الإعدادية والثانوية في إمينتانوت، قاده تعلقه بالفن الأمازيغي، لتأسيس فرقة موسيقية مع أصدقائه أسموها “إمديازن“، التي تعني الشعراء، حيث كانوا يقدمون عروضا موسيقية في الحفلات والأعراس والمناسبات، وعادة ما يؤدون أغاني المجموعات الأمازيغية مثل إزنزارن أو موسيقى الروايس.
بعد حصوله على الباكالوريا حمل فتاح عبو آماله وطموحه إلى مدينة مراكش، وفي جامعة القاضي عياض، التي قرر فيها دراسة الأدب الإنجليزي، انفتح أمامه أفق واسع من المعرفة، حيث بدأ وعيه بالهوية الأمازيغية وقضيتها يتبلور، في وقت كانت فيه الحركة الثقافية الأمازيغية تركزعلى إبراز هذه الهوية وتعزيز الوعي بقيمتها. ليتوج مساره الأكاديمي، بإجازة في الأدب الإنجليزي، ويبدأ تفكيره بالهجرة، خصوصا بعدما قضى سنوات في بلاده بلا وظيفة.
في البدء كان أمارﯔ
لم يكن فتاح حين وصل إلى كاليفورنيا، في بداية الألفينات، يظن بأن الفن الأمازيغي، بوسعه مجاراة الموسيقى الكلاسيكية، وما كان ينتج في الوسط الفني هناك من إبداعات عالمية، أو أن يجد الرّباب مكانا له مع الآلات الموسيقية الغربية. يقول فتاح عبو في حديث لهوامش: “وصلت إلى بيئة متعددة الثقافات، تضم وافدين من أماكن وثقافات مختلفة، هناك من يعزفون موسيقى كلاسيكية من الغرب وأخرى من البلقان، إضافة إلى أنماط موسيقية من اليابان والبرازيل. تساءلت مع نفسي: هل يمكن أن أقدم عملا ويجد مكانه هنا؟”.
سنحت الفرصة لفتاح عبو يوما، حين تلقى دعوة من إحدى الإذاعات المحلية، بمبادرة من سيدة استمعت إليه في لحظة عابرة. بعد مروره الإذاعي لمس فتاح قبولا من الجمهور، وتأكد له أن هذا الفن الامازيغي، ينطوي على “شيء ما” حسب تعبيره.
بعد ذلك توجه فتاح إلى تأسيس فرقة موسيقية، أعضاؤها قادمون من ألوان ثقافية وموسيقية متنوعة، ولم تكن المهمة سهلة، لكن “ما ساعدني هو الصبر والشغف، كنت أعمل وفقا لما يمليه علي عقلي حتى أصل إلى هدفي. كنت أحتفظ في ذاكرتي بمخزون كبير من من الأغاني الأمازيغية القديمة، وأعتمد على آليات مرنة لنقل معرفتي إلى المتلقي، مثل التركيز على مخارج الحروف” يقول فتاح لهوامش.
أن تؤدي فرقة موسيقية تتكون من مواطنين أمريكيين أغاني أمازيغية ليست بالأمر السهل، لكنه ليس مستحيلا، “كنت أعمل لساعات طويلة خلال الأسبوع، وأقدم دروسا خاصة للبعض، خاصة للنساء اللواتي يتدربن على العزف على الرباب، نظرا لصعوبة هذه الآلة، ومع ذلك فإنهن يتمتعن أيضا بالشغف والصبر” يشرح فتاح.
كان تأسيس فرقة’’أمارگ AMARG’’، وتعني “الشوق” بالأمازيغية، وتحيل على الأداء الموسيقي الشعري، الخطوة الأولى لفتاح، معظم أعضائها طلبة، ظل يلقنهم الموسيقى الأمازيغية على مدى 10 سنوات، بعد ذلك قرر الانتقال إلى مرحلة أخرى فقرر تأسيس فرقة احترافية، أطلق عليها آزا AZA.
“لدي مشروعان أساسيان، الأول احترافي، وهو مرتبط بمجموعة (أزا)، حيث نقدم من خلالها رؤية حداثية لـ (أمارگ) بأسلوب متجدد، أما المشروع الثاني، فيتعلق بتعليم الأمريكيين “أمارگ” الأمازيغي التقليدي، خاصة ذلك الذي قدمه كبار الفنانين القدماء، بالإضافة إلى رموز الفن الأمازيغي مثل الروايس وأيقونات مثل إزنزارن و أرشاش” يقول فتاح في حديثه إلينا.
آزا AZA: فرقة متعددة الألوان
لم يعد الإيقاع الأمازيغي مع فتاح عبو، يتوقف عند آلاته الموسيقية التقليدية، بل امتد ليحتوي الساكسافون والجيتار والبيانو والآلات الحديثة، وتكيفت الأغنية الأمازيغية بذلك مع قوالب موسيقية متنوعة، فانصهرت مع البلوز والجاز وأنماط أخرى، في قالب موسيقي واحد، يشكله الشعر الأمازيغي ويضبطه الإيقاع الأمازيغي، وهذه رسالة المجموعة الموسيقية أزا AZA، بقيادة عبو.
آزا، هي محاولة فتاح لأخذ الأغاني والألحان والإيقاعات الأمازيغية إلى مدى أرحب، فهو لا يكتفي عند مجرد استدعاء الذاكرة، بل يتخطى الأمر إلى استئناف نوستالجي، لكل ما أنتجته الموسيقى الأمازيغية، التي لا تتوقف بدورها مع المجموعة عند حدود اللغة، إنما تتحقق كلغة للشعوب، لا يصير فيها اللسان الأمازيغي استحالة لدى الآخر.
وتضم المجموعة جنوة براون، وإليزابيث توريس، وتيري لي، وبيت نوفمبر، وكيفن دي نوتو، ثم راسل كريتمن، الذين تجاوزوا التحدث بالأمازيغية، إلى الغناء بطلاقة، وتعلم خصوصية عزفها الفني، وإتقان آلاتها الرباب، والناقوس، وتالونت، ولوتار، وصولا إلى تفاعلها مع الساكسافون والغيتار والبانجو.
اشتق فتاح عبو، اسم مجموعته من حرف “الزاي” الأمازيغي، رمز لغة وثقافة الأمازيغ بشمال إفريقيا، وبرفقة صديقه محمد أوالو، تمكنوا من تسجيل 4 ألبومات موسيقية بين سنة 2003 و2018، شاركوا بعدها في مهرجانات وسهرات في أمريكا، وكندا، وأوروبا، تمكن خلالها من جذب جمهور واسع تأسره تعددية ألوان العرض الفني لفرقة أزا.
إنهم “يؤمنون بضرورة تعلم أشياء تعطي معنى لحياتهم”، هكذا يصف عبو الأمريكيين الذين يخوضون معه هذه المغامرة الموسيقية، ويضيف قائلا إن علاقة الأمر “بالموسيقى الأمازيغية، أنها تحمل معاني ودلالات عميقة في جوهرها، ومن الصعب عليهم تعلم الأداء الموسيقي الأمازيغي ما لم يفهموا لغته، الموسيقى التي أقدمها في العروض والحفلات، والتي تجمعني مع طلابي، لا تقتصر على العزف فقط، بل تحمل بُعدا تعريفيا وثقافيا”.
“أشرح للجمهور مغزى ما سنقدمه، وأحدثهم عن الفن الأمازيغي وأهميته، وسعينا للحفاظ عليه، كجزء من ثقافة عريقة ومتجذرة”، يقول فتاح، الذي يحرص على شرح معاني الكلمات، أو يوكل المهمة أحيانًا لأحد طلابه ليتولى تقديم بعض التوضيحات للجمهور، و”بالرغم من أن الأمر ليس سهلا، إلا أنني أجد تفاعلًاواسعا من جمهور منفتح على ثقافات الآخرين، على عكس من اعتادوا نمطا واحدا ومنغلقا. الأمريكيون فضوليون ومعتادون على استكشاف ثقافات مختلفة” يضيف محدثنا.
ورغم الانشغال الذي يتطلب التنقل الدائم بين الولايات المتحدة الأمريكية والمغرب، لا يتخلى فتاح عن تعليم هذا الفن “أظل على تواصل عن بعد مع طلابي في حال احتاج أحدهم مساعدة تتعلق بالرباب، على سبيل المثال” يوضح.
هذا المجهود الذي يبذله يظل عملا تطوعيا، ولا يتلقى لأجله أي دعم “حتى عندما نسافر جميعا للمغرب فإننا جميعا نضحي من مالنا الخاص، ولا نتقاضى أي شيء من بعض المهرجانات التي نشارك فيها، وعدد قليل جدا منها تغطي تكاليف الإقامة والطعام”، يقول فتاح مؤكدا أنه لا يقوم بذلك من أجل مكاسب مالية، بل بهدف إيصال الفن الأمازيغي إلى العالم.
إحياء للذاكرة الأمازيغية
اهتمام فتاح عبو برموز وأيقونات الفن الأمازيغي نتيجة طبيعية للاعتراف بهذا الإرث، وإعادة تقديمه بشكل جديد وجذاب، ويضيف جديدا لتجارب سابقة مثل مبارك أيسار، وفاطمة تيحيحيت، والحاج بلعيد، وعمر واهروش، ومحمد ألبنسير، وأمنتاك، وعموري مبارك، وآخرين أخرجوا الفن الأمازيغي من دائرته المحلية وسطعت نجومهم وطنيا وامتدت لتنشر وميضها خارج الحدود.
ويعتبر فتاح عبو أن “مستقبل (أمارگ) الأمازيغي لا يجب أن يُحصر في قالب ثابت، فهو مثل الأنواع الموسيقية الأخرى، يتطور باستمرار ولا يبقى جامدا. في البداية، قد يواجه الناس صعوبة في تقبل أي إضافة جديدة له، لكن ذلك ناتج عن تمثلاتهم المسبقة”.
وفي نفس السياق يؤكد أن “أمارگ فن حي، يتفاعل مع الثقافات الأخرى، يأخذ منها ويمنحها، وفي المقابل، هناك أمارك القديم والعتيق، المتمثل في الموسيقى التقليدية التي يجب الحفاظ عليها، وكل فنان قبل أن يبدأ مسيرته الفنية يجب أن يطلع على هذه الألوان الموسيقية، يتعلمها ويفهمها، لكي يكون قادرا على ابتكار مساره الخاص”.
لذلك “لا أريد حصر أمارگ في إطار ضيق، بل أؤمن دائما بضرورة فهمه واحترامه كما هو، وفي الوقت ذاته، هناك أمارگ يتفاعل مع ثقافات العالم، وهذا ما أفعله شخصيا، عندما أكون مع الروايس، أكون واحدا منهم، وعندما أجلس مع كناوة، أشاركهم تجربتهم، وحينما يكون أحواش أشارك فيه، وفي نفس الوقت، أتفاعل مع الثقافات الموسيقية الأخرى” يقول فتاح.
ورغم قناعته بضرورة التجديد والتطوير، لا يخفي فتاح ولعه بالقصيدة الشعرية “الثقيلة”، فهي تربي الذوق الفني لدى المتلقي، لكنها تحمل صورا شعرية قد لا يفهمها الجميع، “لا أرفع السقف بشكل مبالغ فيه، فهذا يمثل تحديا”، يقول فتاح، الذي لاحظ “تزايدا في المجموعات الأمازيغية، لكن أصبحت الكلمة معها ضبابية أو مفقودة، لذلك عليهم أن يستلهموا من أحواش. المسألة ليست مجرد تجميع للكلمات، بل هي رسالة حية يجب أن تصل، علينا فقط ألا نتخلى عن جوهر أمارگ“.
روضت الرباب وروضها
أثبتت مُدرّسة الموسيقى، كيتي هيكس، من كاليفورنيا، أن العزف على آلة الرباب، ليس حكرا الرجال، بل بوسع النساء أيضا إتقان ذلك، هذا بعد أن أتقنت التكلم بالأمازيغية، واحترافها للعزف على هذه الآلة الصعبة، بفضل الفنان فتاح عبو، الذي دفعها لعشق الثقافة الأمازيغية.
احتراف كيتي للرباب، مع الغناء في نفس الوقت، يعد استثناء، وهي تؤدّي أغاني كبار الفنانين الأمازيغ، بعد أن استطاعت ترويض أناملها على اللحن الأمازيغي، ولم تقف عند العزف فقط، بل أخذت على عاتقها، إعداد دراسة عن فنون أحواش، اتجهت فيها إلى هوامش المغرب، تتعقب جمال هذا الفن، بين القرى والمناطق الجبلية.
لم تكن هيكس، وحدها من انشغلت بالفن الأمازيغي، بل تحتفظ الذاكرة الأمازيغية، بفنانة أخرى، هي كارين دونفير، والمعروفة بالرايسة كيلي، التي أنتجت مقاطع غنائية عديدة ومتنوعة، بتأطير من الفنانين احماد أوطالب المزوضي، وحسن أرسموك.
واليوم بينما تشق فرقة أزا طريقها لتجد مكانا في الوسط الموسيقي الأمريكي، يسترجع فتاح عبو ذكريات طفولته حين كان يصنع آلة لوتار، من صندوق قصديري، يشقه عود خشبي، تلفه أسلاك فرامل الدراجات، مرورا بأداء الأغاني في الحفلات والأعراس، وصولا إلى مهرجانات ذات صيت عالمي.