الرئيسية

أسماك المغرب.. “غنى في البحر وندرة على الموائد”

سرعان ما انتشرت مقاطع فيديو "مول الحوت" على منصات التواصل، وأصبح حديث الساعة، وبدأت التساؤلات تتناسل حول الأسعار الحقيقية للسمك، ومن يقف وراء الغلاء، وأي دور للمضاربين، وهكذا تفجر ملف كان من بين الملفات المسكوت عنها في المغرب. فماذا نعرف عن الثروة السمكية المغربية، التي تجعل المغرب أول مصدر للسردين المعلب في العالم، وواحد من أغنى المناطق عالميًا بالثروة السمكية؟ 

هوامش

في شارع ضيق بحي المسيرة بمراكش، يحتشد العشرات من المواطنين أمام محل صغير للسمك، عند مدخله يقف شاب عشريني بابتسامة عريضة، عبد الإله العجويط، الذي أصبح يعرف بـ”مول الحوت”، وكأنه على خشبة مسرح يقدم عرضا، يصرخ “بخمسة دراهم، السردين غير بخمسة دراهم”، في مشهد لم تخطئه آلات التصوير. 

“مول الحوت”.. نقاش عمومي

بدأت حكاية “مول الحوت” عندما قرر بيع السردين بأسعار لا تتجاوز 5 دراهم للكيلوغرام الواحد، بينما كانت الأسعار تشهد ارتفاعا ملحوظا، خلال شهري يناير وفبراير 2025، حتى ترواح ثمن السردين بين 25 و 30 درهما للكيلوغرام الواحد.  

هذه الخطوة لم تكن مجرد عملية بيع بسيطة، بل كشف عبد الإله، عن طريقها، حجم المضاربات التي ترفع أسعار المنتجات السمكية في مدينة مراكش، مما أثار نقاشًا واسعًا في المغرب حول الأسعار الحقيقية للسمك، وصل صداه إلى المجلس الحكومي.

في تعليق رسمي حول قضية الشاب المراكشي عبد الإله، المعروف بـ”مول الحوت”، أكد مصطفى بايتاس، الناطق الرسمي باسم الحكومة المغربية، أن مبادرة عبد الإله تتماشى مع توجهات الحكومة في ضبط الأسواق ومحاربة الاحتكار. 

وأشار بايتاس، خلال ندوة صحفية، عقب اجتماع المجلس الحكومي، إلى أن “الشاب المراكشي تتبعته، ‘مزيان’، وحتى الحكومة هذا هو توجهها، وهو أن تجند كل المجهودات المتوفرة من قبيل لجان المراقبة”. وأكد أن عمل هذه اللجان ليس موسميًا، بل يستمر طوال العام لضمان التوازن بين العرض والطلب.

لم يكن الطريق مفروشًا بالورود أمام “مول الحوت”، وفق ما يصرح به في المقاطع التي ينشرها، ويقول إنه واجه ضغطا كبيرا من بائعي الأسماك، إضافة إلى التهديد بإغلاق محله من قبل لجنة  مختصة، قبل أن يتدخل والي جهة مراكش آسفي، فريد شوراق، الذي استدعى عبد الإله لمناقشة الوضع، مما أسفر عن السماح له بإعادة فتح محله واستئناف نشاطه. 

ولم تتوقف طموحات عبد الإله عند حدود مراكش، بل امتدت لتصل إلى مدينة أكادير، حيث افتتح محلاً جديدًا لبيع الأسماك، مواصلاً بيع السردين بخمسة دراهم للكيلوغرام الواحد. 

ارتفاع أسعار السمك 

لم تكن قصة “مول الحوت” لتنتشر بهذا الشكل، لولا السياق العام المتسم بغلاء الأسعار وضعف القدرة الشرائية، وخاصة تلك المتعلقة بالسمك الذي شهدت أسعاره ارتفاعا ملحوظا خلال الشهر الأول من سنة 2025. 

وفقًا للمندوبية السامية للتخطيط، ارتفعت أثمان “السمك وفواكه البحر” بنسبة 6% بين شهري دجنبر 2024 ويناير 2025، كما سجل الرقم الاستدلالي للأثمان عند الاستهلاك ارتفاعًا بـ 0.8% خلال نفس الفترة، نتيجة زيادة أسعار المواد الغذائية بنسبة 1.6%.

وعلى لائحة الارتفاعات المهمة في المنتجات الغذائية، بين دجنبر 2024 ويناير 2025، تصدرت الأسماك وفواكه البحر، وفق نفس التقرير الرسمي، خلال الشهر الماضي لائحة الزيادات ب 6% تليها الخضروات بـ 4.7%، واللحوم بـ 2.0%. 

وجاءت بعد ذلك الفواكه التي ارتفعت أسعارها بنسبة 1.6%، والحليب والجبن والبيض بـ 0.6%، ثم القهوة والشاي والكاكاو بنسبة 0.5%. 

وسُجلت أهم الارتفاعات في مؤشر الأسعار عند الاستهلاك، حسب المدن في سطات بـ 1.5%، وآسفي بـ 1.3% وتطوان، وكلميم، والحسيمة بـ 1.1%، والقنيطرة ومراكش بـ 1.0%. 

غنى في البحر وندرة على الموائد

تُعتبر المنطقة الاقتصادية الحصرية للمغرب واحدة من أغنى المناطق عالميًا بالثروة السمكية، حيث تمتد على حوالي 1,12 مليون كيلومتر مربع، ويتعلق الأمر بالبحر الإقليمي، الذي يمتد حتى 12 ميلاً بحريًا (حوالي 22 كيلومترًا)، والمنطقة المتاخمة، التي تمتد إلى ما يقارب 24 ميلاً بحريًا (حوالي 44 كيلومترًا)، والمنطقة الاقتصادية الخالصة، التي تمتد حتى 200 ميل بحري (حوالي 370 كيلومترًا) من الساحل، ثم الجرف القاري، والذي يمكن أن يمتد إلى 350 ميلاً بحريًا (حوالي 648 كيلومترًا) من الساحل. 

وتتميز هذه المنطقة بتنوع بيولوجي هائل، إذ تحتوي على ما يقارب 500 نوع من الأسماك، يتم استغلال حوالي 60 نوعًا منها حاليًا. وتنتشر هذه الموارد السمكية على طول السواحل المغربية، لكنها تتركز بشكل أساسي في وسط وجنوب المحيط الأطلسي.

بحسب دليل تعريف الموارد المائية الحية بالمغرب، الذي اطلعنا عليه، فإن الأنواع السمكية تصل إلى 145 عائلة، بالرغم من أن ثراء الموارد البحرية الحية، في الساحل المغربي، يتجاوز بكثير ما يظهر من خلال قائمة المجموعات والأنواع  التي قدمها الوثيقة.

ويورد الدليل حوالي 364 نوعًا من الأسماك تنتمي إلى 98 عائلة؛ و43 نوعًا من القشريات (البرنقيل، فم القدميات، الجمبري، جراد البحر، الكركند، السيجال والسرطانات الحقيقية) تنتمي إلى 21 عائلة؛ و41 نوعًا من الرخويات (ذوات المصراعين، بطنيات الأرجل ورأسيات الأرجل) تنتمي إلى 18 عائلة؛ ثم 5 أنواع من السلاحف تنتمي إلى عائلتين، وأخيرًا، 21 نوعًا من الثدييات البحرية تنتمي إلى 6 عائلات. بينما تم استبعاد العديد من الأنواع من الدليل بسبب تعقيدات تصنيفها. 

 وتشكل الأسماك السطحية الصغيرة، مثل السردين، العمود الفقري لهذا القطاع، حيث تحتل أكثر من 80% من المصايد من حيث الحجم. 

ويلعب قطاع الصيد البحري دورا حيويا في النسيج الاقتصادي المغربي، حيث بلغت قيمة صادرات المنتجات البحرية، في سنة 2023، حوالي 31 مليار درهم، بمعدل زيادة سنوية 7%، خلال الفترة الممتدة من 2010 إلى 2023، بحسب ما أوردته وزارة الفلاحة والصيد البحري، وهو ما يعادل حوالي 50% من صادرات المواد الغذائية والفلاحية.

وخلال افتتاح الدورة السابعة لمعرض “أليوتيس”، أعلن رئيس الحكومة عزيز أخنوش، أن الإنتاج الوطني من المنتجات البحرية بلغ حوالي 1,42 مليون طن سنة 2024، مما يضع المغرب في صدارة الدول الإفريقية المنتجة، وفي المرتبة 13 عالميا. 

وبذلك يساهم هذا القطاع بحوالي 3% من الناتج الداخلي الخام، بالإضافة إلى توفيره لحوالي 700 ألف وظيفة مباشرة وغير مباشرة، “إن حصة المغرب في السوق الدولية شهدت انتعاشًا غير مسبوق، مما يعزز مكانة القطاع كأحد الركائز الاقتصادية المهمة للمملكة”، كما أكدت زكية الدريوش، كاتبة الدولة المكلفة بالصيد البحري في مؤتمر صحفي.

من جانبه يعتقد محمد الناجي، الأستاذ الباحث في معهد الزراعة والبيطرة بالرباط، أن الثروة السمكية أكثر من ذلك بكثير، “نقدر أن حولي 350 ألف طن، تدخل في إطار القطاع غير المهيكل ولا يتم احتسابها في الإحصاءات الرسمية، ولم يتم تحصيل الضرائب عنها، فضلا عن افتقارها للمراقبة الصحية”. 

ويحتل المغرب المرتبة الأولى عالميا في تصدير سمك السردين المعلب، وكانت منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة “فاو” (FAO)، صنفت المغرب بأنه المنتج والمصدر الرئيسي لسمك السردين.

ورغم الثروة السمكية الهائلة التي يتمتع بها المغرب، حيث يُنتج حوالي 1,4 مليون طن من المأكولات البحرية سنويًا، إلا أن استهلاك الفرد المغربي من هذه الثروة يظل منخفضا مقارنة بالمتوسط العالمي. وفقا لأرقام المكتب الوطني للصيد، لا يتجاوز استهلاك المغاربة 12 كيلوغرامًا سنويًا للفرد، من السمك، بينما يبلغ متوسط الاستهلاك العالمي حوالي 20.5 كيلوغرامًا سنويًا للفرد، بحسب منظمة “الفاو”. 

أسطول ضخم  لكنه موجه للخارج

ينتشر أسطول الصيد المغربي على طول السواحل البحرية، من السعيدية إلى الكويرة، ويشمل جميع المصايد البحرية، ويتألف هذا الأسطول من ثلاثة أنواع رئيسية تتعلق بـالصيد في أعالي البحار، والصيد الساحلي، ثم الصيد التقليدي.

وشهد أسطول الصيد في أعالي البحار، تطورا ملحوظا منذ عام 1973، بفضل دعم الدولة، لكن يُوجَّه إنتاج هذا الأسطول بشكل رئيسي إلى الأسواق الخارجية، ويتكون أساسًا من سفن مصنوعة من الفولاذ يتجاوز طولها 24 مترًا، وتبلغ حمولتها أكثر من 150 طنًا. وبحسب الإحصائيات  فقد بلغ عدد سفن هذا الأسطول أكثر من 261 سفينة ضخمة، تتمركز أغلبها في ميناء أكادير. 

أما أسطول الصيد الساحلي، فيتألف من وحدات تصل حمولتها إلى 150 طنًا، ويتراوح طولها بين 16 و22 مترًا، وتُصنع محليًا من الخشب. ويلعب هذا الأسطول دورا اقتصاديا واجتماعيا مهما على المستويين الوطني والجهوي. وفاق عدد سفن هذا الأسطول ألفي سفينة، تتواجد بشكل خاص في موانئ أكادير، وطنجة، وآسفي، والدار البيضاء، والناظور، والعرائش، وطانطان، والعيون، والداخلة.

وفي ما يخص أسطول الصيد التقليدي فإنه يتكون من قوارب صغيرة مصنوعة من الخشب، يتراوح طولها بين 5 و6 أمتار، وحمولتها أقل من طنين. ويفوق عدد هذه القوارب 15 ألفا، وأغلبها لا يتوفر على رخص الصيد، وتتركز في مناطق الداخلة، وبوجدور، وأكادير، وآسفي، والجديدة، والناظور، والصويرة. 

وبحسب وزارة الفلاحة والصيد البحري، ”يتألف الغنى البيولوجي للمياه المغربية من ثلاثة أنواع رئيسية من موارد أسماك المحيط، وتضم هذه الموارد أسماكا سطحية ومهاجرة، مثل السردين والإسقمري والتونة، التي تمثل بين 70 و 80 في المائة من الإنتاج الوطني، مما يساهم في تزويد وحدات التصبير والسوق المحلية، بينما توجد أربع مناطق رئيسية لصيد الأسماك الصغيرة في المحيط، وهي شمال آسفي، وآسفي-سيدي إفني، ورأس درعة-العيون، ورأس بوجدور-لكويرة”. 

ورغم تنوع هذه الأسماك وطرق صيدها، إلا أن إنتاجها محدود، لكنها تحظى بقيمة تجارية عالية، مما أدى إلى زيادة وحدات الصيد الحديثة، خاصة السفن المجهزة بوحدات التبريد.

وأدى الاستغلال المفرط لقدرات الصيد إلى تراجع مخزون الرخويات، وأسماك المحيط الصغيرة، التي تعتمد على البيئة البحرية العميقة. و”تنقسم هذه الأنواع إلى أربع مجموعات حسب بيئتها: الصخرية، والرملية، والصلبة، والرملية الموحلة، وتشمل أنواعًا مثل سمك الميرلوس، والبوري، والأخطبوط، الحبار، وجراد البحر” وفق وزارة الفلاحة والصيد البحري.

ويقول محمد الناجي، الأستاذ الباحث في معهد الزراعة والبيطرة بالرباط، ورئيس شعبة الصيد البحري الأسماك، إن “ثرواتنا السمكية عرفت انخفاضا كبيرا في السواحل المغربية، حيث أن البحر الأبيض المتوسط صار بحرا منكوبا، وهناك حديث رسمي يتعلق بنية إغلاقه في وجه الصيد لعدة سنوات، ليسترد عافيته”. 

ويشير الناجي إلى أن قطاع الثروة البحرية “ريعي بامتياز، وتعجز الوزارة لمواجه لوبيات البحار”، ورغم الثروة والأسطول الهائلين، لا يتمتع المغاربة بثرواتهم السمكية حيث توجه أغلبها للتصدير، يضيف الناجي. 

رحلة السمك: من البحر إلى المستهلك

وصول السمك في المغرب إلى المستهلك النهائي، يتم عبر مراحل أساسية، تهدف إلى ضمان جودة المنتجات البحرية، وتوفيرها بطرق آمنة وفعّالة. وتبدأ بعملية الصيد من المناطق البحرية الغنية بالثروة السمكية. 

يعتمد الصيادون على تقنيات ومعدات متنوعة، تتناسب مع نوعية الأسماك المستهدفة والمناطق البحرية المختلفة. وبعد الصيد، يتم تفريغ الأسماك في الموانئ، خلال هذه المرحلة، تُفرز الأسماك وتُصنّف حسب النوع والجودة والحجم. 

ويساعد التصنيف في تحديد الوجهة المناسبة لكل نوع من الأسماك، سواء للأسواق المحلية، أو للتصنيع، أو للتصدير.
بعد الفرز تُنقل الأسماك إلى أسواق الجملة، حيث تُعرض للبيع على الموزعين والتجار، الذين يقومون بتوزيعها على الأسواق المحلية. بينما تُوجّه أنواع معينة إلى المصانع لمعالجتها وتحويلها إلى أعلاف، أو منتجات معلبة أو مجمدة، مما يزيد من قيمتها المضافة ويطيل مدة صلاحيتها. 

وتُعالج الأسماك الموجهة إلى خط التصنيع، في مصانع متخصصة لإنتاج المعلبات، ويُعتبر المغرب من المصدرين الرئيسيين لسردين “البلشار”، حيث تُعَدّ هذه الصناعة من القطاعات الحيوية التي تساهم في الاقتصاد الوطني وتوفير فرص العمل. 

وبعد التصنيع أو التوزيع، تُطرح الأسماك ومنتجاتها في الأسواق لتلبية احتياجات المستهلكين المغاربة. بالإضافة إلى ذلك، تُصدَّر كميات كبيرة من المنتجات البحرية المغربية إلى الأسواق الدولية، مما عزز مكانة المغرب كواحد من أبرز الدول المصدرة للأسماك.

وبالنسبة للسردين يحدد السعر الأدنى للبيع الأول في الميناء، بين  2,80 و3.10 دراهم للكيلوغرام، حسب الميناء، بينما لا يحدد القانون السعر الأقصى الذي يخضع للمزايدة أثناء البيع، وفي العموم، يتراوح سعر البيع الأول للسردين بين 4 دراهم و6 دراهم، حسب الموسم، وفق عدد من المهنيين والمختصين.

ومع تكاليف النقل والتخزين، يرتفع السعر في أسواق الجملة، غير أنه مع تدخل الوسطاء (الشناقة) وتعددهم، فضلا عن المضاربات التي يعرفها خط التوزيع، قد يرتفع السعر النهائي الذي يعرض به للمستهلك إلى حوالي 30 درهمًا للكيلوغرام.

وبسبب الارتفاع الكبير لأسعار السمك، وبشكل خاص أسعار السردين، أطلق رواد مواقع التواصل الاجتماعي حملة مقاطعة، تحت وسم (هاشتاغ) #خليه_يخناز (دعه يتعفن) للمطالبة بتوفير السمك بأسعار معقولة تناسب القدرة الشرائية لعموم المغاربة. 

إقرأوا أيضاً:

من نفس المنطقة:

magnifiercrosschevron-down linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram