الرئيسية

تاريخ الأمازيغ في المغرب: جذور الهوية والطقوس

في المعتقد القبلي الأمازيغي، لا يُنظر إلى الطعام بوصفه مجرد وسيلة للبقاء، بل يتحول إلى رمز يُجسد منظومة القيم الاجتماعية والروحية داخل القبيلة. من زاوية أنثروبولوجية، يُعتبر الطعام في هذا السياق لغة رمزية تُترجم ثنائية الخير والشر في ممارسات يومية.

أسامة باجي

تزخر الثقافة الأمازيغية بسمات عديدة في الحرب والسلم، وفي الأكل والشرب، في الدين كما في الأسطورة، وفي الفرح والموت. القاسم المشترك هو انفراد وهوية ضاربة في القدم، توارثتها الأجيال، ومارسها الأجداد، ونقلها الآباء، ويحتفي بها اليومَ جيل من الأبناء.

الخوض في رحلة اكتشاف الثقافة الأمازيغية مغامرة صعبة، فهي ثقافة، حسب السرديات التاريخية، ممتدة لـ 2975 سنة، وفق التقويم المعتمد للاحتفال برأس السنة الأمازيغية في المغرب ودول شمال افريقيا.

أصول الاحتفال بـ “إيض يناير”

يعود هذا التقويم إلى القرن 9 قبل الميلاد، خلال صعود الأمازيغ لهرم السلطة الحاكمة في مصر. كما أن تقويم 2974 يعود إلى وصول الملك شيشنق الأمازيغي للحكم. هذا الانتصار هو بداية التأريخ والتقويم الأمازيغي، غير أن هذا التقويم سيتراجع مع بروز عوامل تاريخية متمثلة في ميلاد عيسى ومجيء الإسلام.

تشير السرديات التاريخية إلى أن انتشار الإسلام والمسيحية ساهم في تراجع التقويم الأمازيغي. غير أن هاته التقويمات ستترادف بعد بروز التيارات والفعاليات الأمازيغية التي نبشت في التاريخ الثقافي للأمازيغ، هذا النبش سيقودنا إلى الكشف عن طقوس الاحتفال بهذا اليوم.

في دراسة بمجلة الثقافة الشعبية العدد 19 بعنوان “طقوس الاحتفال بالمناسبات والأعياد بشمال إفريقيا”، يقول  الباحث عبد الكريم بركة: “إن السنة الأمازيغية الجديدة، أو ما يسمى لدى الأوساط الرسمية في شمال إفريقيا بالسنة الفلاحية الجديدة، تحل كل يوم 13 من يناير/ كانون الثاني من السنة الميلادية، وتسمى عند سكان شمال إفريقيا بـ: النَّايْرْ” أو بـ أَسْكَّواسْ أَمَاْينُو”.

يرتبط التقويم الميلادي بميلاد النبي عيسى، بينما يرتبط التقويم الهجري بهجرة النبي محمد. غير أنَّ التقويم الأمازيغي لا يرتبط بحدث ديني أو طقس تعبدي، بل يقترنُ بانتصار الملك الأمازيغي (شيشنق)، الذي تمكن من هزم الفراعنة على ضفاف نهر النيل بعدما جمع كل القبائل الأمازيغية المتواجدة غرب النيل، ليصل بذلك إلى حكم نصف مصر وما جاورها من بلاد الأمازيغ غرب النيل.

إنه طقس ممتد في الزمن ويختلف من مكان لآخر؛ وبذلك نجد أن عادات وتقاليد الاحتفال تختلف في المغرب عن تونس وليبيا والجزائر، غير أن المشترك هو استحضار رأس السنة.

ويتمثل التقليد المشترك في إعداد الطعام، حيث تكون الليلة الأخيرة من السنة الأمازيغية ليلة أكل وشرب وفرح. تُعد النساء وجبات وأكلات خاصة، كلها من المنتوجات الفلاحية المحلية الخاصة بكل منطقة، منهن من تعد الكسكس وغيره، ومنهن من تقدم أطباقا أمازيغية متنوعة حسب كل منطقة.

الاحتفال برأس السنة ليس مجرد احتفال عند الأمازيغ، بل هو طقس روحي وتيمّن بغد أجمل، وسنة فلاحية تعود بالنفع على الأمازيغ، فحُلول رأس السنة في منتصف يناير، هو ذاته تقويم بداية الحرث والزراعة وموسم المطر.

وإذا ما عُدنا إلى جذور الثقافة الأمازيغية نجدها مرتبطة أشد الارتباط بالأرض والتراب والإنسان، وتحتل الأرض مكانة مركزية في الثقافة والهوية الأمازيغيَّتين، ولذلك فإننا نجد في قلب الحدث الاحتفال بالأرض وما تنتجه من خيرات.

ثقافة الطعام عند الأمازيغ

تزخر الثقافة الأمازيغية بأطباق عديدة، ترمز للاحتفاء بالإنسان والمجال، وكما أشرنا تعد هاته الأطباق من المنتوج المحلي. على سبيل المثال نذكر الكسكس بالخُضر، والذي يتم تزيينه بالبيض أو التمر وبعض المُكسرات والفواكه الجافة.

يُعد أمازيغ شمال إفريقيا كذلك أطباقا متنوعة، منها إفنوزن وهو طبق يُعد بالكسكس والبرسيم أو ما يُعرف بالفصة. إلى جانب طبق أوركمين الذي يُعد بالفول والعدس المطحون، مع زيت الزيتون، أو زيت الأركان، مع اللحم المجفف والأعشاب العطرية، وكذلك طبق أرباز الذي يُطهى بخبز الشعير، ويسقى بالمرق والخضر.

هاته الأطباق ليست مجرد أكلة في ليلة الاحتفال، بل هي طقس روحي، حيث يتم تناولها مع الجماعة، وتتخللها طقوس فرح ورقص وغناء.

“طقوس” تلخص التآزر، حيث يجتمع الصغار والكبار، وتتعاون النسوة على الطهي والإعداد، فيما يشارك الرجال في إعداد لوازم الاحتفال، في جو يسوده التعاون بين الأسر والأهالي والقبيلة أو القرية.

في الثقافة الأمازيغية يمكن الحديث عن “طقوس  الطعام”، فالمُعتقدات القديمة للأمازيغ تفيد بأن الطعام يدخل ضمن المجال الأسطوري، حيث يتجاوز وظيفته الغذائية الطبيعية، إلى وظيفة الحماية وصون العهد والمشترك القبلي.

كما أن للأكل دوره السحري في حماية التحالف، ومعاقبة أي طرف يخون العهد أو الرابطة الأخوية المُصطنعة بالطعام، علما بأن الطعام يحضُّ على الأشكال الثنائية للتحالف في المستويات الدنيا للبنية الاجتماعية، بداية من زواج فردين من أسرتين، وصولا إلى المستويات العليا في التحالفات بين القبائل.

وتظهر (الحكايات) السرديات الشفهية الطعام كوسيلة رمزية، تُحوِّل العلاقة بين الأفراد إلى رابطة جماعية تمتد إلى دوائر أوسع من القرابة والانتماء؛ فالولائم التي ترافق الزواج تُترجم الاتحاد بين أسرتين، حيث يصبح الطعام رمزًا لعقد غير مكتوب يعزز الالتزام والتعاون بين الأطراف.

هذا البُعد يتجلى أيضًا في التحالفات القبلية الكبرى، حيث تُستخدم الطقوس الغذائية كوسيلة لإبرام الاتفاقيات وضمان الالتزام بها، مما يجعل الطعام عنصرًا هامّا في تأسيس الهياكل الاجتماعية (الأسرة، القبيلة، القوانين، والعادات…) وصيانتها عبر التاريخ، وتجد هذه الممارسات جذورها في أعماق الأنثروبولوجيا، حيث كان الأكل الجماعي شكلاً أوليًا لتوطيد العلاقات واستمرارها، ضمن مجتمعات قائمة على القربى والولاء.

إذا ما اتجهنا للمعتقد القبلي، فإن الطعام في القبيلة الأمازيغية يرمز للوحدة والعقاب أحياناً، وهو ما يشبه ثنائية الخير والشر، يتجلى الخير في أن الطعام يرمز للوحدة والألفة والصداقة، أما العقاب فيوجّه لمن خان الطعام المشترك.

وفي المعتقد القبلي الأمازيغي، لا يُنظر إلى الطعام بوصفه مجرد وسيلة للبقاء، بل يتحول إلى رمز يُجسد منظومة القيم الاجتماعية والروحية داخل القبيلة. من زاوية أنثروبولوجية، يُعتبر الطعام في هذا السياق لغة رمزية تُترجم ثنائية الخير والشر في ممارسات يومية.

ويتمثل الخير في مشاركة الطعام، بما يُعبر عن قيم الوحدة، والتضامن، والصداقة، حيث تُمثل الولائم الجماعية نوعًا من الطقوس الاجتماعية، التي تعزز التماسك القبلي، وترسخ مفهوم “البيت المشترك”.

وتُظهر العقوبات المرتبطة بخيانة الطعام بُعدًا عقابيًا مرتبطا بهذا “العهد”، حيث يصبح الامتناع عن المشاركة، أو خيانة الميثاق الغذائي المشترك، فعلًا يستدعي الاقصاء أو حتى العقاب الرمزي.

وتعكس هذه الممارسات آليات ضبط اجتماعي غير مكتوبة، حيث يُستخدم الطعام لتأكيد الالتزام بالمعايير الجماعية. فالولائم أو الطقوس الغذائية ليست مجرد مظاهر احتفالية، بل تُؤسس لعقود اجتماعية ضمنية تربط الأفراد بالمجتمع، من خلال منظومة القيم التي تُرسخها. 

وفي حالة الأمازيغ، تتجذر هذه الثنائية (الخير والشر) في الموروث الثقافي الذي يرى في الطعام المشترك وسيلة لتأكيد الولاء، كما أن خيانته تُعتبر انتهاكًا للنظام الأخلاقي الذي يربط الفرد بجماعته، مما يُبرز الدور المحوري للطعام، كوسيط ثقافي يوازن بين القيم الأخلاقية والاجتماعية داخل المجتمعات القبلية.

ويحضر العمل الجماعي عند الأمازيغ في كل تمظهرات الحياة، فالانتماء للقبيلة أو العشيرة ليس انتماء أسريا أو امتدادا فقط. والحياة العامة عند الأمازيغ مرتبطة بالجماعة، بداية من طقوس الزواج إلى طقوس الولادة والموت، والفلاحة، والحرب والدفاع عن الشرف، وإحقاق العرف. 

“آزْرْفْ”.. دستور أمازيغي

العرف الأمازيغي هو أحد أهم مصادر التشريع في الثقافة الأمازيغية، وهو مجموعة من القواعد الشفهية، المتوارثة وغير المكتوبة، تحكم الأمازيغ في حياتهم العامة، ليصبح العرف قاعدة عامة ودستورا يتم الاحتكام إليه في كل مناحي الحياة.

بالأمازيغية يُسمى العُرف آزْرْفْ Azerf، وهو مجموعة من القواعد العُرفية القديمة، التي تنظم الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية للأمازيغ، وذلكَ وفقاً لمتطلبات أفراد القبيلة أو الجماعة.

والعرف في القبيلة الأمازيغية يرتبط بجماعة يحتكم إليها الناس، برئاسة شيخ القبيلة “أَمْغارْ”، الذي يترأس الجماعة “تاجْماعْتْ”، وقد يختلف الاسم من منطقة لأخرى حسب اختلاف اللهجات.

“تاجْماعْتْ” و”أمغار”:  القبيلة الأمازيغية و المصير المشترك 

“تاجْماعْتْ” هي تمثيلية تتشكل من أسر القبيلة، والتي يتم اختيارها بشكل ديمقراطي وتوافقي، ولمدة محددة. وهي تتكلف بتدبير أحوال القبيلة والنظر في قضاياها ومشاكلها، وما يلزم الأهالي وما يخصهم، وتدبر حياتهم وتفضّ نزاعاتهم، وغير ذلك من أحوال عيشهم.

“أمغار”؛ كلمة أمازيغية تعني الكبير الذي تُسند له مهام إصدار الأحكام والنطق بها، بعد التشاور مع الجْماعة، كما توكل إليه مهمة تنظيم شؤون القبيلة، وتدبير علاقاتها مع القبائل الأخرى، وبشكل عام فإن “أمغار” يُعد الضامن والراعي الأول للعرف داخل القبيلة.

ويؤكد روبير أسْبِينْيُون، في كتابه “أعراف قبائل زيان”، أن في كل قرية أمغار، يعينه القائد لمدة سنة باقتراح من جماعة القبيلة، ويتم ذلك مبدئيا خلال موسم الربيع، حيث تتسم هذه الفترة بسمنة الماشية، ووفرة مشتقات الحليب، مما يسمح بإقامة احتفال بهذه المناسبة.

ويبدو أن أسْبِينْيُون يتحدث عن أمغار خلال حقبة زمنية قريبة، ومردُّ ذلك لورود تعيينه من طرف القائد؛ حيث أن شيخ القبيلة، كان يتم تعيينه، في عهد سابق، من طرف أهل القرية الذين يضعون ثقتهم في رجل ورع قادر على تسيير شؤونهم.

ويحظى شيخ القبيلة باحترام الجميع، وغالبا ما يكون رجلاً مسنا وله مكانة داخل القبيلة، ويتمتع بتجربة وشخصية قيادية، يتم الاتفاق عليها من طرف القبيلة. هنا نفهم أن هذا المنصب لا يورث، فهو نظام يقوم على اختيار الرجل المناسب لقيادة القبيلة.

والقبيلة مفهوم متجذر في الثقافة الأمازيغية منذ أزمنة قديمة، وتعود جذورها في السرديات التاريخية إلى الفترة الرومانية، والفترة الفينيقية، وحتى ما قبلها، وهي كذلك نظام يضمن التوازن الداخلي، واللحمة الجماعية التي تشعر كل فرد بالانتماء، وأينما حل وارتحل يحمل معه هويته وانتماءه.

فن ووشم وألوان وحلي وثقافات

في القبيلة عيش مشترك وحرف يدوية وفنون؛ فالفنون الأمازيغية تعدُّ مرآة تعكس روح وثقافة المجتمع الأمازيغي عبر العصور. والأعمال اليدوية، كالنسيج والخزف والنقش على الجلود وصنع الحلي، ليست مجرد حرف، بل هي تعبير عن هوية ورموز تحمل معاني عميقة.

ترمز الألوان الزاهية في الأقمشة، والأشكال الهندسية المعقدة في الزخارف، إلى الطبيعة المحيطة بالأمازيغ، حيث يمثل كل نقش قصة متوارثة من جيل إلى جيل. والنسيج الأمازيغي، ليس فقط وسيلة لتلبية الاحتياجات اليومية، بل هو فن يجسد القصص الشعبية، والرموز الدينية، التي تعبر عن المعتقدات الراسخة في المجتمع الأمازيغي.

وتحمل الرموز الثقافية في الحلي والوشم الأمازيغي معاني عميقة، تعبر عن الهوية والانتماء لثقافة ضاربة في القدم. كما أن الحلي التقليدية المصنوعة من الفضة والنحاس، والتي تتزيّن بها النساء، إضافة إلى الوشم الأمازيغي القديم برموزه الهندسية ودلالاته الأنثروبولوجية، ليست مجرد زينة ورسوم على الجسد، بل هي دلالات رمزية تعكس المعتقدات الدينية والاجتماعية.

فالوشم الأمازيغي، الذي يُمارس منذ القدم، كان يُستخدم لتحديد الهوية القبلية، أو انتماء المرأة، أو للدلالة على الخصوبة، أو للتعبير عن معتقدات عقدية. وهذه الرموز تظل جزءاً من الهوية الثقافية للأمازيغ، وتعكس ارتباطهم العميق بجذورهم.

أحيدوس وأحواش:  غناء ورقص وحبُ تاريخي مشترك

الغناء عند الأمازيغ جزء لا يتجزأ من الحياة اليومية، حيث يعبر عن الفرح والحزن، والشدة والرخاء، والحب والحياة. والأغاني الأمازيغية تختلف من منطقة إلى أخرى، ولكنها جميعاً تحمل طابعاً مشتركاً يتمثل في الصدق والعاطفة.

وتُردّد الأغاني التقليدية في المناسبات الاجتماعية، مثل الأعراس والتجمعات العائلية، وكذلك في المناسبات الدينية. والغناء الأمازيغي غالباً ما يصاحبه عزف على الآلات التقليدية، كالآلات الوترية، والدفوف التقليدية المصنوعة من الخشب وجلد الماعز، مما يضفي على الأغنية طابعاً خاصاً يعكس جمال الطبيعة وحياة الإنسان الأمازيغي.

ويصاحب الغناء رقص وفرح، والرقص الأمازيغي هو شكل من أشكال التعبير الفني والروحاني، حيث يجسد التوازن بين الجسد والروح على إيقاعات الموسيقى الأمازيغية. ويعتبر الرقص جزءاً من الطقوس الجماعية في المناسبات الاجتماعية والاحتفالات.

من أشهر أنواع الرقص الأمازيغي هو “أَحيدوسْ” في الأطلس المتوسط  (وسط المغرب) و”أَحْواشْ” في مناطق سوس (جنوب المغرب)، حيث يجتمع الرجال والنساء في حلقات دائرية، ويتحركون بتناغم مع إيقاعات الدفوف والأغاني التقليدية. 

وتشكل الثقافة الأمازيغية بنية متكاملة يشتبك فيها الماضي بالحاضر، ليشكلا معاً نسيجاً ثقافياً فريداً. من الطقوس الاحتفالية إلى الأعراف القبلية، ومن الأغاني والرقصات إلى الأدب الشفوي، ومن الحرف اليدوية إلى طقوس التعبد، وبذلك تعكس هذه الثقافة هوية ضاربة في عمق التاريخ، تستمد قوتها من ارتباطها الوثيق بالأرض والإنسان.

إقرأوا أيضاً:

من نفس المنطقة:

magnifiercrosschevron-down linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram