الرئيسية

“حفرة الليدو”.. مقبرة الكتب المنسية في فاس

هنا، تحتضن البراريك القصديرية الكتب القديمة والجديدة، تحمل بين صفحاتها حكايات الماضي وأحلام المستقبل. سوق "الليدو" ليست مجرد مكان لبيع الكتب، بل هي فضاء يلتقي فيه عشاق القراءة، والباحثون عن المعرفة، مع باعة جعلوا من بيع الكتب حياتهم ومصدر عيشهم. 

سعيد البدري

كل حركة من يديه تحمل شغفا خاصا، كأنه يضع لكل كتاب مكانا يشبه هويته، ليصبح دليلا لكل قارئ يبحث عن ضالته الفكرية. محمدين العمراوي، الشاب الحاصل على شهادة الإجازة في الجغرافيا، بعد سنوات من البحث عن عمل، وجد نفسه هنا بسوق الليدو، بين رفوف الكتب التي أصبحت جزءا من عالمه اليومي.

في ركن هادئ من الدكان، حيث تتراص على الرفوف حكايات من الماضي، وآراء شكلت ملامح الزمن، يقف محمدين العمراوي، منشغلا بترتيب الكتب، بحرص من يعيد سرد تاريخ دفين بين صفحات قديمة. 

 في مدينة فاس، تنبض سوق الكتب المستعملة بالحياة، على هامش شارع الجولان وعند منحدر قنطرة حي الليدو، التي تقع على واد يخترق المدينة، غير بعيد عن حي الأطلس، وبمسافة كيلومتر واحد عن كليات ظهر المهراز. 

هنا، تحتضن البراريك القصديرية الكتب القديمة والجديدة، تحمل بين صفحاتها حكايات الماضي وأحلام المستقبل. سوق الليدو ليست مجرد مكان لبيع الكتب، بل هي فضاء يلتقي فيه عشاق القراءة، والباحثون عن المعرفة، مع باعة جعلوا من بيع الكتب حياتهم ومصدر عيشهم، مما جعلها قبلة للباحثين عن كنوز معرفية متنوعة. 

تأسست السوق سنة 1991، بعدما عملت السلطات المحلية بالمدينة على نقل باعة الكتب المتجولين، من الساحات الجامعية بفاس، إلى محلات تم إعدادها من أجلهم، بهدف توفير فضاء عمل منظم في تلك الفترة.

حسن قريبع، رئيس “جمعية المعرفة لبائعي الكتب المستعملة بسوق الليدو” وهو أحد بائعي الكتب هنا منذ 1994، يؤكد في تصريح لمنصة “هوامش” أن السوق “معلمة من معالم مدينة فاس، تستفيد منها جميع الشرائح الاجتماعية على طول السنة، وتجد بين رفوفها المهترئة روايات من الأدب العالمي، ودواوين الشعر العربي، وتلتقي كتب الفلسفة بكتب القانون والسياسة والاقتصاد وباقي التخصصات”.

“بغينا نقراو”.. وصية عابر

لن تتوقع أن يكون هناك شيء تحت هذا الركام، المحاذي لشارع الجولان، من الرصيف، حيث نقف، تبدو أغطية من البلاستيك وصفائح القصدير، تجثم فوقها الحجارة، في مكان هو حفرة بالفعل، لا شيء يوحي بحركة أسفل ما تراه، سوى ألواح الطاقة الشمسية، التي قد يستغرب من لا يعرف المكان وجودها، أو قد يظن أنها ألواح تالفة رميت هنا.

حين تنحدر بك الطريق، كأنك تهوي، تواجهك عبارة “بغينا نقراو”، كتبها أحدهم بإصرار على باب خزانة حديدية مهجورة، وتركها كصرخة في مظاهرة صامتة، أو كوصية للقادمين.

الممرات الضيقة والملتوية، بالكاد تسع شخصين يعبران في وقت واحد، بينما تغص بأكوام الكتب والصناديق، هنا تسير حرفيا “على هدي الكتب”، بعضها رتب على صناديق متآكلة أو رفوف صدئة، وأخرى رصّت على الأرض أكواما. 

إن جلت بعينيك قد تجد رواية شهيرة بجانب قاموس نادر، أو كتابا مدرسيا بجوار مجموعة دواوين شعرية. هذا الوضع يجعل من البحث عن كتاب معين أشبه برحلة استكشاف مثيرة. كل زاوية تحمل مفاجأة، وكل رف ربما يخفي بين دفتيه كنزا فكريا لا يخطر على بال.

يلجأ الطلبة والباحثون إلى هذا المكان بحثا عن مراجع علمية بأسعار تراعي جيوبهم، وأيضا عن كتب نادرة أو قديمة لا تتوفر في المكتبات، “سوق الليدو كانت دائما ملاذا لي وللعديد من الباحثين. لقد ساعدتني شخصيا في العثور على كتب نادرة وثمينة، كان من المستحيل أن أجدها في مكان آخر”، يقول الباحث والمفكر المغربي منير الحجوجي، في حديث لهوامش.

والسوق ليست فقط للبحث عن الكتب، بل مكان يتيح التواصل، يقول الحجوجي “لقد وضعت فيها بعضا من إصداراتي، مثل “القوات المسلحة الإيديولوجية” و”جذر الشر”، و”المغرب وسؤال المصير”، مما أتاح لي فرصة التفاعل مع قراء استثنائيين ومميزين”.

وبدوره عبد السلام العزوزي، الطالب الباحث بسلك الدكتوراه، بكلية الحقوق بفاس، وأحد الزوار الدائمين للسوق، يتحدث لمنصة “هوامش” عن شغفه بهذا المكان بنبرة لا تخلو من حنين: “هنا تجد ما لا توفره المكتبات الحديثة. كتب تحمل رائحة الماضي، وتفاصيل لن تجدها في أي مكان آخر. أزور السوق ليس لشراء الكتب فحسب، بل كذلك لتبادل المعرفة. هنا، يمكن للزائر أن يترك كتابا قد قرأه، ليأخذ بدلا عنه كتابا آخر، اكتشفه وسط أكوام الكتب المبعثرة، مقابل أداء فارق الثمن”.

تاريخ على رفوف مهملة

نبرة الحنين التي يتحدث بها من تحدثنا إليهم، لا تخفي الوضعية المزرية للسوق، التي يمكنها أن تشكل مركزا ثقافيا وملتقى للفكر والإبداع، بالنظر إلى نوعية الزوار، التي يتشكل جلها من الطلبة والباحثين الأكاديميين من مختلف المجالات والتخصصات.

أسامة باجي، الصحافي والطالب في سلك الدكتوراه، قضى سنوات في رحاب الجامعة بفاس، يتحدث إلينا ويسترجع ما عاشه هنا: “اليوم، أقف مذهولا أمام النسيان الذي يحيط بـحفرة الليدو، تلك المنارة التي احتضنت العلم والمعرفة، على بعد خطوات قليلة من قلعة ظهر المهراز، رمز النضال والنقاش الحي”. 

ويستغرب باجي “كيف لمكان كان شاهدا على إرث ثقافي وفكري عظيم أن يُهمّش في مدينة عرفت بمهد العلم والنقاش؟ هنا، كانت أصوات الفلاسفة تلهب النقاشات، وأحلام الطلبة تتلاقى، وهنا خاضت الكتب المستعملة معركة البقاء، لتسرد قصص أجيال بأكملها. أليس من المؤلم أن نترك هذا الصرح العلمي والنضالي يتآكل تحت وطأة الإهمال، وكأننا نعجز عن إدراك أننا نطوي صفحات من تاريخنا مع كل كتاب ينسى على رف مهجور؟”. 

الباعة بدورهم لا يخفون استياءهم من الظروف التي يعملون فيها، “البراريك هنا ضيقة جدا وغير مزودة بالماء ولا الكهرباء، وبالكاد تكفي لعرض جزء بسيط من الكتب التي أملكها. أضطر لتكديس الكتب فوق بعضها، أو أضعها على الأرض، مما يجعل من الصعب على الزبائن تصفحها بشكل مريح”. يقول أحمد الحداد، بائع كتب في سوق الليدو.

ويتابع الحداد، الذي قضى بالمكان أكثر من 20 سنة، “الزوار يشتكون من صعوبة في العثور على ما يبحثون عنه، هذا الوضع يؤثر على حركة البيع، فالكثير منهم يغادرون قبل أن يجدوا ما يريدونه. يطالب الباعة الجهات المسؤولة بتحسين البنية التحتية للسوق، وإعادة هيكلته لتوفير مساحات أكبر تساعدهم على ترتيب الكتب وعرضها بشكل أفضل”.

بينما يتجول الزوار في السوق، لا يخفي بعضهم استياءه من صعوبة تصفح الكتب وسط الركام. يقول (ز.ص) طالب باحث في سلك الدكتوراه بكلية الآداب بفاس، بنبرة محبطة، “رغم توفر المكان على كتب قيمة ونادرة، إلا أنني أجد الأمر مرهقا. أكوام من الكتب مكدسة بشكل عشوائي، مما يجعل العثور على عنوان معين مهمة بالغة الصعوبة، وأحيانا أضطر لقضاء ساعات في البحث دون جدوى، السوق تحمل سحرا خاصا، لكن ضعف التنظيم يحد من المتعة”.

أي مستقبل للسوق؟

في أحد هوامش مدينة فاس، حيث يتداخل عبق التاريخ مع نبض الحياة العصرية، تقف هذه السوق الصفيحية كحلقة وصل بين ماضي المدينة وحاضرها، الذس يمضي بخطى حثيثة نحو التحديث. هذه السوق، التي لطالما كانت ملاذا للبسطاء، ومنبعا للرزق اليومي لباعة الكتب، تواجه اليوم اختبارا صعبا مع مشاريع التحول العمراني، التي تشهدها المدينة استعدادا لاستقبال كأس العالم.

ورغم التذمر من الوضع، يستبد القلق بالباعة، وبالطلبة الذين تقع السوق على بعد خطوات من جامعتهم، ففي سياق تهيئة المدينة قد يكون المآل النهائي للسوق هو نقل الباعة إلى مكان آخر.

 يرفض الباعة الانتقال، فالمكان له موقع إشعاعي، “حنا تعرفنا هنا لأكثر من ثلاثين سنة، وأغلب المسؤولين قراو من هاد السوق، وحنا غير راضيين على هاد الوضعية، وخاص الجهات المعنية تحافظ على هذه المعلمة وتحولها إلى سوق نموذجية، من حيث التنظيم والبنية التحتية”، يقول حسن قريبع.

بدوره، يتشاطر خالد العلمي، بائع كتب في “الحفرة” منذ 1998، نفس موقف زميله: “نحن مع تهيئة السوق وتحويلها إلى سوق نموذجية، لذلك نطالب الجهات المسؤولة بتوفير البنية التحتية، والحفاظ على الهوية التاريخية والثقافية للمكان”.

من جهته يحمل منير الحجوجي نفس الهم، ويقول في حديثه لهوامش “ألمي سيكون كبيرا إن تم المساس بهذا الكنز الإنساني كيفما كان نوع هذا المساس. لا مفر من التفكير في تأهيله، وسيكون من الحكمة تحويله إلى معلمة وطنية، إن لم تكن أممية”. 

إقرأوا أيضاً:

من نفس المنطقة:

magnifiercrosschevron-down linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram