الرئيسية

إيض يناير: إرث أمازيغي يحتفي بالأرض والإنسان والهوية

كل سنة أمازيغية جديدة، تشكل موعدا لعلاقة حكيمة وحميمية مع الأرض، وموعدا لاستعادة ذاكرة تمتد إلى سنة 950 قبل الميلاد، بدايتها انتصار الملك الأمازيغي شيشنق الأول على الملك المصري رمسيس الثالث، وإعلان حكم الأسرة الـ 22 في مصر، الأسرة التي توسعت من شمال إفريقيا إلى حدود فلسطين. حيث انطلق مع هذا الحدث التاريخي، التقويم الأمازيغي، الذي يسجل هذه السنة موعده الـ 2975.

عادل ايت واعزيز

تبدأ السنة الأمازيغية يوم 14 يناير، بينما يوافق اليوم الثالث عشر من نفس الشهر رأس السنة، وهي تشكل بداية دورة زراعية جديدة، يحتفي فيها الأمازيغ بعمق، بكل ما تنبته الأرض، ويطلقون عليها أسماء تختلف حسب كل منطقة من قبيل: “إيخف أوسكواس” أو “حاكوزة“، إلا أن الشائع هو تسمية “ناير“، أو “إيض يناير” وباللغة العربية ليلة يناير.

وكما تختلف التسميات، تتنوع الاحتفالات والطقوس الامازيغية في استقبال العام الجديدة، فما يميز طقوس المغاربة يختلف عن تلك التي يحييها الجزائريون والتونسيون والليبيون، لكنها تلتقي كلها في رمزية السنة والانتصار للفرح والهوية.

احتفاء بخيرات الأرض  

لا يمكن أن يمر على النساء الأمازيغيات رأس السنة الأمازيغية بشكل عابر، فهن الأكثر تمسكا بالاحتفاء بإيض يناير، وهن دوما في طليعة الاحتفال الذي يتجلى في مظهرين أساسيين، الأول يتعلق باستعراض الأزياء الأمازيغية المزينة بالحلي والمجوهرات، التي تكتسي طابعا ثقافيا متجذرا في التاريخ، أما المظهر الثاني فيتمثل في “طقوس” الطبخ، وهي تشكل احتفاء بمنح الطبيعة للإنسان، وما ينتجه الفلاح البسيط في مزارعه، ويقدمن منها أطباقا مختلفة منها “أوركيمن” وهي أكلة تحضر بأنواع من الحبوب والقطاني مثل: الذرة، والقمح، والحمص، والفاصوليا (اللوبيا)، والعدس، والفول اليابس.

 وفي بعض مناطق الجنوب الشرقي للمغرب تعد أكلة “تاكلا” أو”تاروايت“، الطبق الرئيسي للاحتفال، حيث تتولى النساء زمام طهيها المحكوم بالصبر والروية والدقة العالية، لأنه ينبغي تحريكها باستمرار. وتبدأ رمزية “تاكلا” عند الأمازيغ، من “تازلافت“، وهو إناء دائري طيني مشترك تقدم فيه الأكلة، والذي يحيل على التآزر واللحمة. وفي إيض يناير، يلتف جميع أفراد الأسرة حول الأكلة، وأمل كل واحد من هم العثور على “إخص” وهو نواة تمرة تضعها المرأة في الطبق.

تعتبر نواة التمر في ” تاكلا” أو الكسكس، حسب عادات كل منطقة، رمزا للبركة، كما أنها معيار رمزي لتحمل مقاليد المسؤولية داخل الأسرة وإدارة شؤونها، على سبيل المثال، يتكلف من يعثر على نواة التمرة بمفتاح خزينة المنزل، وهذا الاحتفال بمثابة انعقاد جمع عام للأسرة، تطال مخرجاته سنة كاملة، وهي طريقة انتخاب تقليدية تتجاوز مساوئ الديمقراطية.

الاعتراف بإيض يناير

في الجزائر، خاصة بمناطق القبائل، تستقبل السنة الجديدة بفعاليات متنوعة، تعكسها الأطباق المختلفة والعادات التي تجري فيها الاحتفالات، إلا أن الاحتفال برأس السنة الأمازيغية، في الجارة الشرقية يبدأ يوم 12 يناير، ويتجول المحتفلون في الأحياء مرتدين أقنعة، غير أن الاحتفال لا يكتمل جماله إلا حين تنضم إليه النساء.

رونق خاص تضفيه النسوة على الاحتفال، وهن يتباهين بجباتهن القبائلية، التي تمثل رمزا للهوية الأمازيغية، وتعكس مهارة الحرفيات القبائليات في فن التطريز والخياطة، وتحتفل القبائليات برأس السنة باستعراض ورقصات تقليدية، في كرنفالٍ سنوي يدعى “إيراد“. ومنذ سنة 2016، جعلت الجزائر يوم 12 يناير من كل عام، عطلة رسمية، احتفالا برأس السنة الأمازيغية الجديدة، لينضم المغرب إلى سيرورة هذا الإعتراف سنة 2023، بجعل يوم 14 يناير، عطلة وطنية رسمية مؤدى عنها.

وفي السنة الجارية 2025، التحقت ليبيا بهذه السيرورة، حيث أعلن المجلس الأعلى لأمازيغ ليبيا أن يوم الإثنين، الموافق لـ 13 من يناير، سيكون يوم عطلة رسمية في كافة المدن والمناطق الناطقة بالأمازيغية.

تخليد ثقافي  

في محاولة للإمساك بأزمنة الماضي، تتجدد طقوس النساء في بعض القرى، حيث يحضرن أكلةً عريقة يجلبن كل مكوناتها من الأرض، وتُسمى “إحبان“، أي الحبوب. ويبدأ إعداد هذه الوجبة المتجذرة تاريخيا مساء، حيث تستخدم في تحضيرها حبوب الذرة، التي تُترك على نار هادئة حتى تقترب من الاستواء، ثم تضاف إليها حبوب القمح والزيت والفول الذي يتم تقشيره بعناية وتصفيته جيدًا. وتحرص بعض العائلات على تناول هذه الأكلة ليلة إيض يناير، بينما تفضل الأخرى تناولها في اليوم الموالي.

عند حلول الليل، يُفضّل البعض إعداد الكسكس، الذي يُضاف إليه جزء من هذه الحبوب، فيتداخل طعمها مع النكهة التقليدية، ويستثنى من هذا الطبق اللفت والفلفل الحار، فيتم تجنب الأخير اعتقادًا بأن تناوله قد يجلب الشؤم على العام الجديد. وعلى الرغم من أن الجميع يطهو نفس الأكلة، إلا أن العادة تقتضي مشاركة الأطباق بين الأسر، كما تُرسل بعضها إلى القرى أو المدن المجاورة.

لا تنسى بعض العائلات والمجتمعات إضافة البيض البلدي واللوز والجوز والسمن البلدي والعسل الحر، من أجل النكهة وتزيين المائدة، لتصبح هذه الوجبة رمزا للتآخي والاحتفاء بالجذور، هكذا تظل ذاكرة الماضي حية في طعام اليوم، متواصلة مع تاريخ الأجداد.

بعد الانتهاء من تناول الطعام، يلتئم الجميع، نساء ورجالا، شبابا وشيوخا، في فضاء مفتوح يُعرف بـ”أسراك“، وهي ساحة عامة، تحتضن احتفالات إيض يناير بكل ما تحمله من ألق التقاليد. في بعض المناطق، يتردد صدى إيقاعات أحواش، بينما يحيي آخرون نشاطات شعبية مثل “تيباطشين” أو “تينبويا“، وفي بعض قبائل سوس تسمى “اباينو“،  حيث تشعل النار في 7 أكوام من الحطب يقفز فوقها المحتفلون، في إشارة للتقدم نحو الأمام واستقبال السنوات القادمة بفألٍ حسن.

مشروعية الاحتفالات

 ’’ينبغي أن لا نخلط بين ‘أساس مشروعية’ الاحتفال برأس السنة الأمازيغية من جهة، و’الحدث المؤسس’ لهذا الاحتفال من جهة أخرى’’، هذا ما أكده لنا أستاذ التعليم العالي، المتخصص في اللسانيات، بشعبة اللغة الانجليزية وآدابها، الدكتور عبد الله الحلوي، في تصريح خص به منصة “هوامش”.

ويوضح الحلوي أن “أساس المشروعية هو ما يجعل الاحتفال ممارسة اجتماعية مرغوبة، أما الحدث المؤسس فهو ما نخلده أو نتذكره من خلال هذا الاحتفال”. بالنسبة إليه “أساس المشروعية مسألة أخلاقية (ديونتولوجية) ومسألة حرية، بينما الحدث المؤسس قد يكون مرتبطًا بالتاريخ أو بفهمنا له’’.

ويضيف الحلوي: ’’أساس مشروعية الاحتفال بالسنة الأمازيغية هو (بكل بساطة) أن هناك شعبًا يحتفل به لأنه يرغب في ذلك، وهذا من حقه بغض النظر عن وجود أو عدم وجود أي حدث تاريخي مؤسس لذلك”. أما الاحتفال فهو “بناء اجتماعي social construct لا يستمد قيمته إلا من نفسه، تمامًا مثل جميع أشكال الإبداع الثقافي (فنون، آداب…)’’.

ويواصل الحلوي: ’’أما “الحدث” المؤسس للاحتفال فقد فُسر بكونه حدثًا تاريخيًا أو بكونه حدثًا جغرافيًا. الحدث التاريخي هو احتفال الملك الأمازيغي شيشنق الأول بانتصاره على الملك المصري رمسيس الثالث، وإعلان أسس حكم الأسرة الثانية والعشرين في مصر، التي تضم في فترتها 11 فرعونًا أمازيغيًا (من سنة 950 ق.م إلى 720 ق.م). وقد استمر هذا التأثير من خلال الأسرتين 23 و24’’.

وبخصوص الحدث الجغرافي، يشرح المتحدث أنه ’’بداية السنة الفلاحية الجديدة ونهاية موسم الحرث، تعبيرًا عن التفاؤل بأن تكون السنة الجديدة حافلة بمحاصيل جيدة وازدهار اقتصادي، لذلك، يمكن أن نقول إن للحدث المؤسس للاحتفال بالسنة الأمازيغية بعدًا زمنيًا (انتصار تاريخي) وبعدًا مكانيًا (تفاؤل بثمار الأرض)’’.

ويؤكد أستاذ التعليم العالي أن ’’كل من يعترض على السنة الأمازيغية، يفعل ذلك إما لأنه يستكثر على الأمازيغ إنجازاتهم في التاريخ، أو لأنه لا يرغب في أن يتذكر الناس أصالتهم في الأرض، أو يفعل ذلك (وهذا هو الأسوأ) لأنه لا يؤمن بحق الأفراد والجماعات في الاحتفال بما يشاؤون ومتى يشاؤون’’، مضيفا أن ’’الموقف من السنة الأمازيغية هو موقف من علاقة الأمازيغ بزمانهم، ومكانهم، وحقوقهم الثقافية”.

تيفيناغ : أنسنة لغوية

في خضم الاحتفال برأس السنة الأمازيغية، تتحول المناسبة إلى فرصة للتأكيد على أن حرف تيفيناغ، ليس مجرد وسيلة كتابة، بل هو جسر متين يربط الماضي بالحاضر، و أيقونة تعبر عن قوة الهوية التي تتجدد مع كل احتفال بعامٍ جديد، وبشأن هذا الحرف، يوضح الحلوي أن “تيفيناغ هو الاسم التقني الذي يطلق على الشكل الذي انتهت إليه الأبجدية الأمازيغية، بعد عشرات القرون من التطور. ورأينا أن تيفيناغ جمعت إيجابيات مقارنة عديدة، عادة ما لا تجتمع في الأنظمة الأبجدية الأخرى”. 

ويؤكد الدكتور الحلوي أنها ’’منسجمة هندسيا، ومتمايزة رقميا، وغير تماثلية، وقابلة للاستعمال في اتجاهات مختلفة، وغير ملتبسة فونيميا، مما يؤهلها للاستعمال والتكيف بسرعة مع التقنيات الحديثة والذكاء الاصطناعي، لقد أنتجت العبقرية الامازيغية نظاما كتابيا عبقريا من قلب الصحراء”.

ويرى المتخصص في اللسانيات أن ’’مستقبل تيفيناغ هو نفسه مستقبل الأمازيغية، إذا قام صانع القرار بالنهوض بدوره في حماية وتأهيل الأمازيغية، كما فعل الكوريون في أقل من 50 سنة، يكون قد ساهم في استعادة معجزة تيفيناغ التي نحت بها أجدادنا هويتهم على صخور بلدهم’’.

وكما تٌتبادل خيرات الأرض في طقس “إيض يناير“، يتبادل الأمازيغ والمغاربة عموما، كلمات دافئة تعكس عمق التآخي والانتماء، مثل: ’’أسكاس أماينو’’ أو ’’أسكاس إغودان’’، وغيرها من التهاني التي لا تقتصر على الألفاظ فقط، بل تحمل في طياتها دعوات للتجدد والنماء، تأتينا من التاريخ وتعبر المسافات، وتترسخ في الحاضر والمستقبل.

إقرأوا أيضاً:

من نفس المنطقة:

magnifiercrosschevron-down linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram