سعيد المرابط
تغادر الحافلة التي تنطلق من مالقة، بالأندلس، إلى إيرون على الحدود مع فرنسا، وتتوقف في فيتوريا بإقليم الباسك، على الساعة الثامنة مساءً. في ذلك الوقت، كان جميع المسافرين ينتظرون في أرجاء محطة الحافلات القريبة من محطة القطار “ماريا ثامبرانو”.
ضمن المسافرين، ينتظر عبد الله، وهو شاب مغربي وصل إلى مالقة، عن طريق مدينة سبتة، بعدما دخل إليها سباحة، خلال الأحداث التي باتت تعرف بـ”الهروب الكبير”، يقول أنه يريد الذهاب إلى إقليم الباسك أو إلى فرنسا، فهنا “لا يوجد مستقبل”.
داخل المحطة، يظهر صبي مغربي، يبلغ من العمر حوالي أربعة عشر عامًا، برفقة شخصين بالغين، يقتربون من شباك بيع التذاكر. الثلاثة لا يتحدثون الإسبانية، يريدون شراء بعض التذاكر، لكن العاملة تخبرهم أن الصبي لا يستطيع السفر بمفرده.
ومن الواضح أنه لم يبلغ من العمر 18 عامًا، ولا يملك وثائق تثبت أنهم من أفراد أسرته. يقولون إنهم أصدقاء ويريدون مساعدته كي يلتئم شمله مع والدته.
توضح لهم العاملة أنه يتعين عليه السفر برفقة ممثليه القانونيين أو بتفويض موقع منهم. وتضيف أن الإجراءات أصبحت مشددة، فـ”قبل بضع سنوات تم تفكيك عصابة لنقل قاصرين مغاربة إلى إقليم الباسك”.
يجلس الصبي والشابان على المقاعد المجاورة لشباك التذاكر، بالكاد يتحدثون مع بعضهم البعض. بينما في الأثناء، يركب شاب آخر الحافلة، وجهته النهائية هي مدينة بلباو الباسكية. اسمه سليمان وهو ذاهب للقاء أخته. تكلفة التذكرة 63 يورو، وحوالي 14 ساعة من السفر في انتظاره، لحظتئذ، كان الصبي المغربي ورفاقه قد غادروا المكان.
“هذا شيء نراه هنا كل أسبوع”، يقول عبد الله، مؤكدًا أنهم “سيحاولون مرة أخرى في الأيام المقبلة”.
قرب المحطة، وفي المقهى الخارجي، يتواجد مغاربة يمتهنون النقل السري، يسمونهم “خطافة”، من بينهم علي (اسم مستعار)، يبلغ من العمر 54 سنة، يكسب رزقه من نقل المسافرين المغاربة والعرب، من وإلى ميناء “طريفة” وميناء “الجزيرة الخضراء”.
في حديثه لـ”هوامش”، يقول علي إنه يشتبه في أن مرافقي الصبي “يساعدونه مقابل المال”. وأكد أنهم طلبوا منه “إذا كان بإمكاني شراء تذكرة لهم… أنا لا أفعل ذلك”. ويضيف: “لكن إذا كان لديهم المال، فإنهم يعرفون من يسألون، كل يوم نرى الكثير منهم”.
ويشرح لمنصة “هوامش” أن هذا واحدا من “الأساليب المختلفة التي تستخدمها المافيا لنقل القاصرين الأجانب غير المصحوبين بذويهم”.
تهريب البشر، القاصرون منهم خصوصًا، أمر شائع في الجنوب الإسباني، خصوصًا ما بين مدينتي سبتة ومليلية المحتلتين ومدن شبه الجزيرة الإيبيرية؛ وخلال إنجاز هذا التقرير، ألقت الشرطة الوطنية الإسبانية القبض على زوجين مغربيين يقيمان في مدريد، بتهمة الاتجار السري بقاصرين عبر “استخدام جوازات سفر أطفالهما” لتنفيذ ذلك على الحدود البرية بين مليلية والمغرب.
وبالإضافة إلى المعتقلين بتهمة تزوير المستندات (الاستخدام الزائف) وانتهاك حقوق المواطنين الأجانب، تم توقيف إحدى القاصرات اللواتي تمكنّ من المرور، وهي فتاة تبلغ من العمر 17 عامًا، كانت في مليلية.
وأوضح الناطق الرسمي باسم شرطة مليلية أنه في نهاية شهر يوليوز الماضي، ظهرت القاصر المغربية البالغة من العمر 17 سنة، بمقر الشرطة المحلية مبينة أنها دخلت مليلية على متن قارب، وبقيت تحت وصاية الشرطة المحلية، وخدمات حماية الطفل بالمدينة.
وأكد المتحدث أن أعوان وحدة “مكافحة شبكات الهجرة غير الشرعية وتزييف الوثائق” التابعة لشرطة مليلية لم يعطوا مصداقية لما ورد “بسبب التناقضات العديدة في القصة، لذلك شرعوا في عملية شاقة ومعقدة”.
وأضاف أنهم بعد التحقيق توصلوا إلى أن “القاصر دخلت إلى مليلية برًا عبر المعبر الحدودي بني أنصار”.
وأوضح المصدر المذكور أن الفتاة “أدلت بجواز سفر شخص آخر، وتمكنت بمساعدة امرأة – محتجزة الآن في مدريد – من العبور إلى مليلية”، ولهذا السبب تم احتجازها بتهمة تزوير وثائق وإيداعها السجن، وقد أحيلت قضيتها إلى مكتب نيابة الأحداث.
إقرأ “حرّاكة” سياج سبتة: حكاية محاولة يائسة
“سبحت إلى سبتة مع عدة شباب، كانت أسرع وأرخص طريقة للوصول إلى إسبانيا، إنه مجاني وأنا أسبح جيدًا، وهي مغامرة لا تزيد عن نصف ساعة”، يقول أحمد، صبي التقته منصة “هوامش” في مدينة إيرون الحدودية مع فرنسا.
يريد أحمد البالغ من العمر 17 سنة، عبور الحدود إلى فرنسا، فهو يتحدث الفرنسية أفضل من الإسبانية، كما أن لديه أخًا يعيش في ضواحي باريس، “عليك الدخول عندما لا يكون هناك شرطة حدود، وذلك نادر الحدوث وصعب على قدميك، وأنا لا أملك مالا لأدفع للمسهلين (المهربين)”.
وفي جوابه لمعد هذا التقرير عن السبب الذي دفعه لخوض هذه المغامرة، من الدار البيضاء إلى تطوان، ثم الفنيدق وسبتة، وبعدها عبور خارطة إسبانيا كلها من أقصى الجنوب إلى أقصى الشمال، يجيب أحمد ضاحكًا بعدما طأطأ رأسه “ليس لدينا عمل هناك، وليس لدينا مستقبل”.
ويؤكد أحمد أنه التقى في طريقه مهاجرين مغاربة “دخلوا عبر المعابر الحدودية (..) أعرف واحدة عبرت مختبئة في حقيبة كان يجرها رجل، وكان عليها أن تدفع الكثير (..) أما أنا فقد جرتني ذراعي”، يقول باسمًا.
عثمان، شاب آخر التقته “هوامش”، يروي أنه قبل بلوغ الحدود الفرنسية الإسبانية، وصل بمعية صديقيه في سيارتهما إلى محطة بنزين، بين مدينتي بيلباو وسان سيباستيان، كان قد تم الاتفاق على الالتقاء بها مع المهرب المغربي الشهير باسم “تشابو”، خمسيني خبر تلك الطرق والمنعرجات الفاصلة بين الدولتين دون أن يصادفه شرطي حدود أو جمارك.
وفي باريس حيث التقته “هوامش” ينتظر عثمان جوابًا من إدارة اللجوء الفرنسية، وهو الذي سافر من العيون إلى الدار البيضاء بالطائرة، ومنها إلى تطوان بالحافلة، ثم بواسطة سيارة أجرة كبيرة اتجه إلى الفنيدق، وهدفه واضح: “العبور إلى سبتة”.
استطاع الشاب دخول المدينة، ومنها انتقل إلى إشبيلية، ولكن “بسبب صعوبة الإجراءات في إسبانيا، أفضل طلب اللجوء في فرنسا”، كما يوضح.
ويقول عثمان لـ”هوامش”، إنه دفع لـ”الخطاف” 150 يورو، مقابل توصيله إلى مدينة بوردو الفرنسية، “كنا ثلاثة أشخاص في السيارة معه، سلك بنا طرقًا مختلفة، تمر عبر القرى، ولم نصادف أي حاجز أمني”.
وحسب المعلومات التي استقتها “هوامش” هناك العشرات من الحالات مثل حالة أحمد؛ حيث يوجد أكثر من مائة طفل أجنبي غير مصحوبين بذويهم تحت وصاية مجلس مقاطعة “آلابا” بإقليم الباسك، هذا العام. وهم موزعون على المراكز الإقليمية الأربعة، مع القدرة على استيعاب 69 شخصا.
نتيجة للتحقيق، توصلت الشرطة الوطنية الإسبانية إلى أن المرأة التي ساعدت الفتاة، التي ذكرنا سابقا، انتقلت من الأراضي الإسبانية إلى مليلية بصحبة زوجها واثنين من أطفالها القاصرين، وقامت بعدة رحلات إلى المغرب أثناء إقامتها في مليلية.
وفي إحدى هذه الرحلات، رافق الزوجان القاصر المحتجزة، وزوداها بجواز سفر ابنتهما، وبالتالي تمكنوا من الإفلات من مراقبة الشرطة.
كما تمكن المحققون أيضًا من التحقق من أنهما فعلا الشيء نفسه في مناسبة أخرى، حيث تمكنا، بفضل استخدام جواز سفر ابنهما، من المرور، مع قاصر مجهول الهوية، وكانت برفقتهما ابنتهما أيضًا.
وأضاف المصدر، أنه وبعد أيام قليلة، تمكن زوج هذه المرأة، وبنفس المنهجية، من “الإفلات من مراقبة الشرطة في ميناء مليلية، والمرور السري مع هذا القاصر إلى مدينة مالقة”.
وفي وقت لاحق، وبعد جهود التحقيق، تمكنت الشرطة من التعرف بشكل كامل على هذا الصبي، وهو “قاصر مغربي يبلغ من العمر 15 عاما”.
وأفاد المصدر المذكور أيضًا أنه في شهر أكتوبر، علمت الشرطة الوطنية أن الأسرة “انتقلت مباشرة من المغرب إلى مدريد”، حيث طلبت فرقة الهجرة المحلية والحدود، في مليلية تعاون الشرطة الوطنية ، التي قامت باعتقال الزوجين، وكلاهما يحملان الجنسية المغربية ويحملان تصاريح إقامة طويلة الأمد في إسبانيا.
من ناحية أخرى، يحمل طفلاهما الصغيران الجنسية الإسبانية، ويشتبه في أن جوازي سفرهما قد تم استخدامهما في ارتكاب جرائم تزوير المستندات (الاستخدام الزائف) لتهريب مواطنين أجانب. وقد تمت إحالة القضية إلى المحكمة الابتدائية رقم أربعة بمليلية، والتي ستكون مسؤولة عن إجراء التحقيق.
ما عاينته منصة “هوامش” في محطة الحافلات بمالقة، يتقاطع مع شكوك الشرطة الإسبانية، حيث يظهر أن “الدافع وراء الوصول المستمر للقاصرين الأجانب غير المصحوبين، بالإضافة إلى أزمة الهجرة التي تعيشها جزر الكناري، هو ظهور عصابات منظمة لجلب الأطفال من أجزاء أخرى من إسبانيا”.
ويرى مستشار رئاسة سبتة أنجيل غايتان، أنه من الواضح أن “هناك نسبة من القاصرين الذين يتم تهريبهم، فقبل بضع سنوات، على سبيل المثال، حقق مكتب المدعي العام في آلابا (شمال إسبانيا) في أمر مافيا جلبت قاصرين من باكستان”.
وبطريقة أو بأخرى – سواء كانوا في أسفل شاحنة، أو بمفردهم، أو بمساعدة مافيات وعصابات منظمة – فإن العديد من القاصرين غير المصحوبين بذويهم، الذين يصلون إلى إسبانيا، يريدون الوصول إلى إقليم الباسك كهدف رئيسي لرحلتهم، فمنه يمكنهم دخول الأراضي الفرنسية، والانطلاق نحو حياة أفضل، وهذا ما يقوله مهاجرون عبروا ذات الطريق، تواصلت معهم “هوامش”.
جدير بالذكر، أنه إلى حدود يونيو 2024، وصل عدد القاصرين المغاربة في إسبانيا إلى 10 آلاف و123 قاصرا، وفق الأرقام الرسمية الصادرة عن إحصائيات الأمن الإسباني.
وتظل قضية المهاجرين القاصرين غير المصحوبين بذويهم، بين المد والجزر، حيث يؤكد النشطاء الحقوقيون على عدم قانونية إعادتهم لبلادهم، ويعتبرون أنها عودة قسرية.
وكان المغرب دائما ما يرفض ذلك، إلا لمامًا، ولكن في أكتوبر الماضي، كشفت المملكة على لسان وزير الخارجية، ناصر بوريطة، عن “توجيهات واضحة للسلطات المغربية للعمل مع فرنسا وإسبانيا لإعادة القاصرين الذين لا يرافقهم أهلهم.