هوامش
(للتحميل أنقر هنا) أو (أنقر هنا)
في ليلة الثامن من شتنبر 2023 ضرب زلزال عنيف، هو الأكثر فتكا ودموية، مناطق جبلية معزولة في منطقة الحوز. لقد غير “زلزال الحوز” مشهد القرى وملامح المداشر وقلب حياة آلاف السكان، تهاوت منازلهم الهشة وانهارت جبالها الشامخة، خطف الموت ما يزيد عن 3 آلاف قتيل وأكثر من 6 آلاف جريح، كما شرد أكثر من 24 ألف أسرة.
لم تسلم المدارس والمراكز الصحية من الدمار، إذ خرجت 120 مدرسة عن الخدمة، وأصبح 140 ألف تلميذ دون حجرات دراسية، بينما واجه الفلاحون الدمار بعد انهيار الطرق والسواقي الفلاحية والحظائر، وموت المواشي.
لقد انقلبت حياة الساكنة رأسا على عقب، وتُرك آلاف السكان بدون مأوى أو مساعدات، يواجهون مصيرهم، منذ عام، وسط خيام بلاستيكية لم تقو على مواجهة صقيع الأطلس وحرارة صيفه.
أمام هذا الوضع، وطيلة العام الماضي، حاولنا تسليط الضوء على مشاهد “التشرد والإقصاء” بكل تفاصيلها، وتوثيق لحظات حاسمة في حياة السكان المحليين، الذين لا نخفي انحيازنا لمطالبهم في المأوى والعيش الكريم، خصوصا من يواجهون وضعا صعبا وسط الخيام، التي تهاوى معظمها أيضا مع أول أمطار يناير الماضي. تبعا لذلك، وطيلة عام كامل، قررنا في هوامش، تخصيص متابعة استثنائية لهذه الكارثة غير المسبوقة.
كنا هناك، ووثقنا عن قرب ظروف عيش السكان لحظة بلحظة، شاركناهم جزءا من يومياتهم ومعاناتهم في لحظة فارقة بالحوز، سجلنا وقائع وشهادات، وأخذنا صورا وأشرطة، يمكن أن تبقى إرثا للناجين والأجيال اللاحقة.
يأتي هذا الإصدار الخاص، بعد عام تقريبا من اجتماع لجنة برنامج إعادة البناء والتأهيل للمناطق المتضررة، والذي أعلنت الحكومة في إطاره أنها قررت أن تصرف إعانة مالية مباشرة للأسر المتضررة من الزلزال، بوصفها “مساعدات استعجالية للأسر التي انهارت منازلها جزئيًا أو كليًا جراء الزلزال”، موزعة على 6 أقاليم، تضم جماعات ودواوير، لجأ سكانها إلى الساحات، واحتموا تحت الأشجار هربا من الجدران المتصدعة.
ورغم تقديم التزامات على أعلى مستوى من الدولة، لتخصيص هذا الدعم العاجل للمنكوبين، فإن عملية توزيع المساعدات شابتها شبهات فساد وعدم وضوح للمعايير، وجد آلاف المواطنين أنفسهم خارج دائرة المستفيدين من المساعدة المالية الاستعجالية المحددة في 2500 درهم، بينما لم يستفد الآلاف من تعويضات صندوق إعادة الإعمار، ولم يجدوا بدائل للعمل أو السكن منذ الكارثة.
لقد ترك الأهالي للمجهول يواجهون مصيرهم، كما يوثق هذا العدد. وما زاد من حدة المعاناة هو «شعور بالتهميش والإهمال» كما عبر عن ذلك، قبل أشهر، الائتلاف المدني من أجل الجبل، في رسالته المفتوحة إلى رئيس الحكومة، عبد العزيز أخنوش، الذي لم يخرج ليخاطب المغاربة إلا أياما بعد هدوء العاصفة، حاملا بعض المستلزمات إلى أهالي جماعته.
وبينما ترك المنكوبون لوحدهم عدة أيام في بعض المناطق، دون تدخل أو أي عمليات إنقاذ، كان المغرب الرسمي يخوض حروبا أخرى، وسط الجدل الذي عرفه ملف المساعدات الإنسانية، وعمليات الإنقاذ التي عرضتها عدة دول، استقبل المغرب عروض أربع منها فقط. ولم يقتصر الزلزال على قلب الأرض على رؤوس ساكنيها، بل أحدث هزات على مستوى العلاقات الدولية والعلاقات الدبلوماسية للمغرب بشكل خاص، مما جعل من ملف “معاناة السكان” مادة للابتزاز السياسي من طرف بعض الدول للمغرب.
هوامش، ومن خلال تغطيتها الخاصة للزلزال وما بعده، سلطت الضوء على جزء من المأساة التي يعيشها الناجون، بين المرض والبرد والخوف وغياب التعويضات. في هذا الإطار، قمنا بزيارة أكثر من 15 دورا منكوبا، قطعنا الطرق الوعرة، ومررنا وسط الجبال المنهارة، في رحلات عاينّا خلالها حالات سكان فقدوا كل أفراد أسرهم، وفقدوا معهم أي أمل في النجاة من قسوة الظروف التي خلفتها الكارثة، على مدى أشهر، تغير روتين ساكنة تيكيوت، وتلاث ن نيعقوب، وأسني، وإيجوكاك، وشيشاوة، وباقي المداشر والقرى المتضررة.
“فجأة جاء الزلزال ليقلب الروتين رأسا على عقب، الخيام البلاستيكية لا تكاد تحمينا من برد هذه الجبال، نستعمل المواقد لفترة محدودة لعلها تخفف قساوة البرد، وفي الصباح نجد الماء مجمدا (..) كانت الحياة أشبه بوضع العراق أيام الحرب”، هكذا وصف منكوبون وضعهم لـ”هوامش” خلال الأيام الأولى بعد الزلزال.
في آزرو، التي زرناها أيضا، وهي إحدى قرى إقليم الحوز وتنتمي إداريا لجهة مراكش آسفي، عانى 300 شخصا، فقدوا منازلهم من البرد خلال فصل الشتاء، فلا مجال للصمود أمام قسوة الشتاء في جبال الحوز.
“لا شيء، لم يتلقوا أي زيارة من مسؤولي المنطقة، وبالكاد شاهد بعضهم أحد المقدمين يقول للسكان أنه لا حيلة لديهم سوى الإنتظار”، يقول لنا أحد السكان في قرية “إِمي نْ تَالَا”. لعل ما حدث لهذه القرية يعتبر من أفظع الأحداث المأساوية التي خلفها زلزال الحوز، إثر انهيار جزء من جرف كان ماثلا فوقها يزن عدة آلاف من الأطنان على المنازل، هوى الجرف وسوّى مع الأرض أغلب منازلها، وتسبب في وفاة 84 شخصا، أغلبهم من الأطفال والشيوخ. بعد مرور ما يزيد عن مائة يوم على الكارثة زار فريق “هوامش” المنطقة مرة أخرى، ووقف على ما بقي من القرية، ومآل من تبقى من ساكنتها.
مع حلول أول فصل شتاء بعد الكارثة، أصبح الوضع أكثر تفاقما، بسبب الخيام التي غمرتها سيول المياه في بعض المناطق، حيث يستمر الأطفال بالسعال طول الوقت، وكان “المطر ربما أكثر قسوة من الزلزال” يقول بعض من التقيناهم.
يعيد هذا العدد، بناء قصة زلزال الحوز، وتركيب أحداثها بين شتنبر 2023، وشتنبر 2024، وتحكي مواد العدد مأساة الحوز ومصير سكانها، بمختلف أعمارهم وانشغالاتهم، الأطفال والنساء والشيوخ، والحرفيون والعمال والفلاحون الصغار والتجار.
ويعد الفلاحون الصغار من أكثر الفئات تضررا من زلزال الحوز، فبين الحظائر والسواقي المدمرة، يعيش فلاح الحوز المحروم من الدعم واقعا مزريا: “الماء في النهر، لكن أين السواقي لقد دمرها الزلزال؟”، بهذا الجواب لخص آيت ناصر لـ فريقنا، حال فئة واسعة من المزارعين في إقليم الحوز، فئة تضررت زراعتها وأغراسها، وفئة أخرى فقدت ماشيتها، بينما من نجت بعض رؤوس ماشيتهم واجهوا مشاكل في إيوائها، في ظل انخفاض درجة الحرارة، وقلة الكلأ، وعدم توصلهم بالدعم.
“الفلاحون عاطلون في تيكيوت، لم يحرثوا الأرض، ولم يزرعوا الشعير الذي يوفر عادة علف سنة كاملة للمواشي والدجاج، ولم يتمكنوا من زراعة البطاطس والبصل (تزرع في أواخر أكتوبر-نونبر)؛ الأمر الذي كان يوفر جزءا من مصاريف الأسر”.
لم تكن أوضاع مهنيي السياحة أقل سوءا، فهم بدورهم تحدثوا إلينا حول الأيام العصيبة التي مر بها القطاع بعد إلغاء الحجوزات وانقطاع السياح.
أما تجار قرى الحوز، فقد نالوا نصيبهم من المعاناة، أمام محل رشيد، مثلا، كانت تقف “ثلاجة” سيّجتها خيوط العنكبوت، وما تزال قنينات المشروبات الغازية متراكمة داخلها، تماما كما تركها الزلزال. مشهد يحكي عن خسائر هذا التاجر ومن يشبهه، لم تشتغل هذه الثلاجة منذ ما يناهز أربعة أشهر (حين التقينا به)، وهو التاجر البسيط الذي لم يبق له سوى أن يحصي خسائره، كسائر المهنيين والتجار الصغار في المناطق المنكوبة.
بعد قرابة سبعة أشهر على الكارثة، كنا نعاين كل يوم آثار الزلزال السلبية وتداعياتها المستمرة، وذلك من خلال “حجم المعاناة والخصاص في الحاجيات والخدمات، وتلكؤ الدولة في وضع سياسة تعتمد على الأجرأة وسرعة التنفيذ (..) المساعدات لا تصل للجميع، ولا تخضع لأية معايير أو استمرارية، إذ ترسل لنا السلطات رمزًا مصرفيًا على الهاتف المحمول ثم علينا الذهاب إلى أمزميز أو مراكش للحصول على المبلغ” يقول أحد السكان لجريدة أجنبية.
بعد عام كامل، ما يزال الوضع على حاله في الكثير من القرى البعيدة، التي لم يصلها الإعلام العمومي، ولا حتى المساعدات.