عادل آيت واعزيز
كشفت الفنانة الأمازيغية، فاطمة بانو، المعروفة بلقب “تيحيحيت”، عن تلقيها عرضا لإقامة حفل غنائي في إسرائيل، مقابل المبلغ الذي تريد، لكنها رفضت مؤكدة أنها لن تتقبل هذا الأمر، وأضافت في حوار مع قناة شذى تيفي، منتصف دجنبر السنة الماضية: ”شتيهم أش كيديروا دبا نيت، واخا يعطيوك مال الدنيا!”، في إحالة على جرائم الإبادة التي يرتكبها جيش الاحتلال الإسرائيلي منذ 11 شهرا في غزة.
موقف تيحيحيت يتناقض مع مواقف بعض نشطاء الحركة الثقافية الأمازيغية، الذين يسعون لربط نشاطهم بالحركة الصهيونية، أو استعراض ما يزعمون أنه مشترك بين الأمازيغية والصهيونية، لكن في نفس الوقت يتوافق وينسجم مع التراث الشعري والغنائي للمبعدين الأمازيغ، الذين لم يتركوا أي عنصر طبيعي أو بشري أو حيواني أو سياسي أو ديني، أو تيمة إلا ونظموا فيها شعرا.
ورغم أن شعرهم لا يندرج ضمن إنتاجات اليسار أو اليمين، ولا ضمن أدبيات الحركات الإسلامية، إلا أن تبنيهم للقضايا العادلة والإنسانية، كالقضية الفلسطينية، ينبع من إيمان قوي يستمدونه من أمازيغيتهم، التي تعني في نهاية المطاف: الحرية.
لا يمكن لأي شاعر أو مجموعة موسيقية أمازيغية، وهم يتباهون بهويتهم، إلا أن يجعلوا بين قصائدهم وأبياتهم الشعرية مسكنا للآخر، يحتفون به، ومن خلالها يطلقون العنان لرصاص كلماتهم على المعتدي، كي يعرّفوا بالمضطهَد ويقدّموه للشريحة الواسعة من الأمازيغ الذين لا يعرفون القراءة والكتابة، كطبق من التضامن والمعرفة.
منذ بداياته لعب الشعر الأمازيغي هذا الدور، في تبني الإنسان وقضاياه، وهو بمثابة شاشة بشرية، ينهل منها المنصت المعرفة وكل ما يدور في محيطه ووطنه والعالم. وأمثال هؤلاء: الحاج بلعيد، الحاج محمد الدمسيري، الحاج محمد بن يحيى وتزناخت، وابنه الحسين بن يحيي وتزناخت، والحاج احمد أمنتاگ، والرايس بلا إد عمر، ومبارك أيسار، ومولاي إيدر المزوضي، وعمر واهروش، والرايس بيزماون، وآخرون.
الرايس الحسين بن يحيى تازناخت
” Itout Yan Igiyg ” هي أغنية قديمة للرايس الحسين، وتعني مجازا “إحدى ضربات الرعد”، حيث يتضمن العنوان استغرابا وتعجبا، وتبدأ الأغنية بلحن من إيقاع آلة الرباب، يتردد في لازمة موسيقية يصاحبه صوت نسائي، ويأتي ليقدم جوابا على استغرابه وتعجبه، متغنيا: ”اليهود من يضرب المسلمين”، ويغني للضحايا من الرجال والنساء، والكم الهائل من الشباب الذي يذبح من طرف الصهاينة، ثم يليه تحسره على الأمر، معلنا عن عدم تحمل قلبه لمشاهد القتل.
ثم يعود الرايس الحسين ليثمن مقاومة الفلسطينيين، بالرغم من تمزق حال المسلمين بسبب الحسد في نظره، ويدعو في أغنيته إلى العزم والوحدة والتضامن مع المقاومة الباسلة، كما يصفها. وتبلغ مدة الأغنية تسع دقائق، وكل أبياتها حديث عن الرابط المتين بين المسلمين خاصة، كما لم ينس الحسين في أغنيته، نظم أبيات عن جمال القدس، والتاريخ الفلسطيني الذي جعل منه بوصلة للعالم والأديان.
أخذ الرايس الحسين عن والده موهبته الشعرية وفطنته، فبعد وفاته ورث الحسين الابن صنعة نظم الشعر منه، وأصبح عمودا من أعمدة الشعر الامازيغي، وألف آلاف القصائد، وهو القادم من هامش الجنوب الشرقي للمغرب، وبالضبط من ضواحي مدينة تازناخت، يستلهم من أمكنتها وشخوصها أنوار شعره، فأبى إلا أن يجعل لفلسطين والفلسطينيين مكانا بين كلماته.
”أين ذهبت كل الخيول؟” وبالأمازيغية: ” ماني س كولو دان ئيسان”، قصيدة غنائية لمجموعة أرشاش، صدرت سنة 2001، تنطلق من تصوير ما يقع في الشرق الأوسط من حروب، وتحمل صورا شعرية، تثير إعادة التفكير في بيت القصيد. وتخبرنا أرشاش في هذه الأغنية التي تمتد لثماني دقائق، عن هذه الحرب التي لا يكاد يطفئها أي شيء، مصورا المجازر التي تطال الأطفال الفلسطينيين وشبابهم ونسائهم، لما يرتكب في حقهم من جرائم، أمام تقاعس العالم وصمته، معتبرا ذلك وصمة عار سنظل نحملها دوما على رؤوسنا، ليقدم علي شوهاد استعارات في أبيات شاعرية، تيسر الفهم بدون تعقيد.
حينما يغني مرددا: “الأموال”. فإننا نفهم مباشرة، تلك الأموال التي يتم تكديسها من أجل مراكمة الثروة، ويذهب في نظمه للقصيدة، بالتزام صلب، يبرز فيه الصهيوني سببا لكل ما يجري حيث أنه “لا يفرق بين روح الذبابة وروح الطفل الفلسطيني”، مستنكرا موازين القوى غير المتكافئة، بين الصهاينة والفلسطينيين، بين الصواريخ والأحجار. ويستمر علي شوهاد في استعاراته الأمازيغية، مشبها أطفال فلسطين بالغزلان، أما الصيادين فأعارهم اسم “موشي”، إحالة على أحد الأسماء العبرية.
نحن أمام محاولة ناجحة، من أجل تقعيد الأمازيغية، وجعل قضيتها مركزا في الثقافة المغربية، في منعطف أصبح فيه الوعي بهذه القضية يتصاعد أكثر، وإن كان فيما قبل وعيا جمعويا، صرنا نرى إلحاق القصيدة الأمازيغية بالكتابة، وظهورها في عدد واسع من الدواوين الشعرية. حدث هذا خلال الستينات من القرن الماضي، مع ظهور المجموعات الأمازيغية.
وفي الثمانينات انطلقت مجموعة أرشاش التي تعني باللغة العربية ”الزخات المطرية”، بزخات تنقل تصورات حول الأرض والإنسان وعلاقاته الأنطولوجية مع ذاته وغيره، واستطاع كاتب المجموعة وأبرز وجه فيها مولاي علي شوهاد، مع رفاقه: محمد أكرام، مولاي الحسين وخاش، اسكران مولاي براهيم، عبد العزيز الهراس، أن يربطوا التراث الموسيقي الأمازيغي السوسي بكل ما هو عصري.
تتمتع القصيدة لدى أرشاش بإمكانات رمزية قابلة للتحقق، وذلك عبر الآلات التقليدية والعصرية مثل: «البانجو»، «الطام طام»، «ألون»، «القراقش» و«السنتير»، مع التوظيف الصارم لآلة «كنكا». وأتاح كل هذا لأرشاش أن يصدروا ما يزيد عن الثلاثين ألبوما متنوعا.
إذا أرادت آلة البانجو، أن تخاطب العالم، فإنها لن تقول غير أن الأمازيغ من يعرفون قيمته، خاصة مجموعة إزنزارن، التي أرادته إلى جانب الآلات الأخرى: البندير، الدربوكة، الهجهوج وآلة الكمان أحيانا. قد يختلف قليلا توجه إزنزارن مع مجموعة أرشاش، لكنهما يلتقيان في الالتزام بقضايا الشعوب، حيث لا تحتاج القصيدة مع هذه المجموعة لجواز سفر، وكانت بدايتها خلال سنوات الجمر والرصاص في السبعينيات من القرن الماضي، تحت قيادة عبد الهادي إكوت، إلى جانب: عبد الله اوبلعيد، مولاي إبراهيم الطالبي، محمد حنفي، حسن بيري ثم مصطفى الشاطر.
صارت إزنزارن، والتي تعني “أشعة الشمس” توجز ألف أطروحة عن العدالة والإنسانية، فطالت قصائدها: الهوية، والأرض، والفَقر، والديكتاتورية، والإنسان. وهكذا ستسلط إزنزارن أشعتها على ما يعانيه منه الفلسطينيون من طغيان الصهيونية.
ولأن شعرهم له معاني ودلالات متعددة، فإنهم بدأوا أغنيتهم ”تـوزالت” أي الخنجر، التي صدرت سنة 1981، بـ: ”صهيون يُوسِين تُوزّالْتْ ءُوكَان ءارْ ءيقْرْسِ”، وتعني ”الصهيون حمل الخنجر.. وفينا أوغل نحرا”، في إشارة للصهيوني الحامل للخنجر والذي لا يعرف شيئا غير الذبح، لكن الشيء الوحيد الذي يقضي عليه مهما بلغ من بطش هو الاتحاد، كاشفا عن تجاوزاته اللاإنسانية، واصفا إياه بالسفاح، وتذهب لتعبر القصيدة التي كتبها محمد الحنفي، لتعالج واقعا سياسيا مغربيا في فترة سنوات الجمر والرصاص.
وبالرغم من أن المجموعة، لم توظف كلمة ”صهيون” إلا أثناء التسجيل داخل الأستوديو، لتفادي الملاحقات، جراء الغناء في واقع مغربي سياسي حساس، إلا أن إزنزارن عبرت عما يخالج صدور المغاربة عموما، سواء المتحدثون منهم باللغة العربية أو باللغة الأمازيغية، من استنكار وتنديد بما يجري في فلسطين، فقد أطلقت وصف ”الصهيون” على جميع الحكام المستبدين، والجزارين الذين يتفننون في ذبح واستعباد شعوبهم، هذه الشعوب التي لم تنسَ إزنزارن أن تصورها في حالة نفسية مذعورة، أشبه بخروف يذبحه كل من أتى بخنجره: “تاودا تسكر كينغ إيزمارن، كولماد إسمسدن أر قرسن“/ وتعني ”الخوف حولنا إلى خراف… كل من حد شفرته يمعن ذبحا وإسرافا”.
في هذه الاغنية، نجد هرم السلطوية، الذي يبدأ من الحاكم المستبد، إلى الراعي أي القادة السياسيون، وهم الذين يتعاطفون أحيانا مع الخراف، وتارة يستنكرون ظلم الحاكم، وفي الأخير وجهت المجموعة نداء لعامة الشعب من أجل الوحدة واللحمة.
ويعتبر الشعر الشفهي، أو شعر أسايس، أكثر أصناف الشعر الأمازيغي اهتماما بتفاصيل العالم، كما يؤكد الباحث في الشعر الأمازيغي محمد أخراز، في تصريح لمنصة هوامش، وهذا راجع لكون قاعدة الحوار الأساسية تنبني على ازدواجية السؤال والجواب.
ويوضح أخراز، في حديثه لمنصة هوامش، أن «شعراء أسايس، لم يتركوا بأشعارهم الارتجالية والتلقائية قناة إلا وسَلكوها بأَلحانهم اللامتناهية، وأوزانهم المتعددة المتنوعة، فكلما سألت شيخا ضاربا في السن عن هذا الفن يجيبك قائلا “ؤر فيلن روايس مافور ساويلن“». بمعنى: لم يترك الشعراء شيئا إلا وتكلموا فيه.
ويضيف محمد أخراز «بالرغم من انكفاء أغلبهم في أعماق البوادي والقرى، بين الجبال والوديان والمسالك الوعرة، إلا أن مخيلاتهم جالت العالم وخرجت عن الكرة الأرضية، لتتحدث عن أحداث عالمية، بل كونية، ليس من السهل الحديث عنها في زمن انعدام وسائل الإعلام والتكنولوجيا التي توصل المعلومة إلى الأصقاع البعيدة».
ولأن لهذا الشعر أدوارا يلعبها، في السياسة والتعليم والترفيه والإعلام، يشير الباحث في تصريحه إلى «عدد كبير من الشعراء ذاقوا مرارة الاعتقال بسبب بيت شعر أو قصيدة. وإلى جانب كل هذا، فإن أسايس تتداوى فيه الناس من آلامها، وتجتمع فيه القبائل لمعالجة أوجاعها ومواساة العالم في فواجعه؛ فكان الشاعر يحزن لحزن الإنسان، ويفرح لفرحه! هو شعر إنساني، يتحد مع الإنسانية ويأبى ويكره الظلم والعدوان».
وفيما يخص القضية الفلسطينية، فإن جوهرها، يؤكد أخراز في حديثه لهوامش، قائم دوما في القصيدة الأمازيغية «غالبا ما يتم استحضار القضية الفلسطينية في الشعر الأمازيغي، التي كثيرا ما ناقشها الشعراء بينهم في حوارات طويلة، تعبيرا عن تضامنهم المطلق مع الإنسان الفلسطيني الذي يتعرض للإبادة أمام صمت العالم» يضيف المتحدث.
ويقدم لنا الباحث مجموعة أبيات لأحد الشعراء، الذين دافعوا عن فلسطين، متأسفا لوضع الفلسطينيين، قائلا:
فلسطين ئيلا ݣيسنت واطان
ماداك سول ئيسوݣر يان يوحلن
ماداك سول ئيسوݣر يان يالّان
فلسطين ئيلا ݣيسنت واطان
نضالب ئيربي أݣيس ئيسماقال
وتعني باللغة العربية:
فلسطين في حالة احتضار،
وما للحائرين من حيلة
و ما للباكين من حيلة
فلسطين في حالة احتضار،
نطلب من الله أن ينظر إليها
يستحيل حصر العدد الهائل من القصائد الأمازيغية التي جعلت من القضية الفلسطينية رمزا لمقاومة الظلم، أولا لتعدد أصنافها بين أنواع الفنون الأمازيغية الموسيقية، وثانيا لعدم تدوين أو تسجيل أغلبها، لوجودها في خانة التراث الشفهي، لكن هذه القصائد ما تفتأ تتحدث عن محاولات استئصال الإنسان، خصوصا ما ترتكبه الصهيونية في حق الإنسان الفلسطيني.
وتلتقي كل هذه القصائد الأمازيغية، رغم اختلاف أصنافها، بين فن أسايس – مكان أداء “أحواش”- والقصيدة الفردية أو المجموعات الغنائية، إلا أنهم جميعا يمنحونها حظوة ومكانة مركزية إلى جانب قضاياهم الشخصية، فنظم الشعر عن الفلسطينيين أو الآخر عموما، لا يجعلهم مستلبين، بل يدخل الأمازيغية والأمازيغ في كونية زمانية لاتعير اهتماما للحدود الجغرافية أو اللسانية.
مناصرة القضية الفلسطينية لها خلفيات أيديولوجية متعددة، فاليسار يعتبرها قضية مواجهة مع الإمبريالية، خلفيتها الصراع الطبقي، أما الإسلاميون فيرونها مواجهة مع الاستكبار العالمي، بخلفية دينية.
أما الفنان الأمازيغي مولاي ايدر المزوضي القادم من الهامش، فيتناولها ببعد إنساني أوسع، وله قصيدة بديعة بعنوان ‘‘فلسطين” يتحدث فيها عن جروح القضية الفلسطينية، دون أن يخفي تضامنه مع المقاومين، مبديا إعجابه بالمقاومة الفلسطينية.
هذا ما نجده لدى الفنان الأمازيغي ابن الأطلس المتوسط، محمد رويشة، والذي تناول هذا الموضوع في أغنية بعنوان “ماتا الزمان يتساكان“، حيث يتأسف مع آلة لوتار لاستمرار الآلام الفلسطينية، أمام أنظار الجميع، بينما يحاور تحت ثقل موسيقي، يمده بألوان محلية ووطنية، المغاربة والعالم، من أجل هذه الرقعة الجغرافية التي لازالت تقاوم رغم التنكيل الذي يطالها، ويتألم في مقطع لفلسطين التي تعاني وتدمر حيطانها، قائلا: ” فلِسطين إخُوباسْ .. أتّوينَاس إكّودار/ وياكّ لولْ إزْريَايش .. ايا عداو أمازير“.
ومن الأشعار التي تسود حول فلسطين في فضاء أسايس، ما نظمه كبير شعراء طاطا الحسين أگرام، الذي ما يفتأ ينظم أشعارا على حال فلسطين وحال العرب، حيث قال: “الدول العرب موتن// محال إيس كيسن واد يسولن //يوفا أوداي أزمز لي يرا// يسي يجنويين غيفاسن //فلسطين أغيضر ينايك”. وتعني: “الدول العربية ماتت/ ربما ليس بينهم من هو حي/ أدرك الصهيوني الزمن الذي يريد/ حاملا الخناجر بين يديه/ واضعا فلسطين نصب عينينه”.
الشاعر هنا في هذه الأبيات يصف موت العرب أمام مايقع في فلسطين، مشيرا للصهيوني الذي يبطش في زمان يناسبه، ويفعل فيه ما يشاء، ويواصل الحسين أكرام نظمه، بعد حسرته: “أداسن يفكر ربي تكاتنسن// أدسنتك أصلاب يقورن// الصاروخ د البارود ولا الرصاص”.
وإذ لا حيلة للشاعر غير الشعر، فإن أكرام يرفع تضرعه ودعاءه وأمانيه إلى الله أن يسلط على المستبد مصيبة تقضي عليه.