محمد تغروت
تعود قضية مصفاة لا سامير، رمز صناعة تكرير النفط في المغرب، إلى الواجهة من جديد، بعد إصدار المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار (cirdi) قراراً يلزم المغرب بدفع 150 مليون دولار (ما يناهز 150 مليار سنتيم) لشركة Corral Petroleum Holdings، الشركة السعودية التي كانت تملك حصة أغلبية في سامير قبل إفلاسها عام 2015.
في ذات السياق قررت المحكمة التجارية بالدار البيضاء، يوم الخميس 25 يوليوز 2024، في الملف 2024/8319/155، الإذن باستمرار النشاط بشركة سامير في طور التصفية القضائية، وهو النحو الذي سارت عليه المحكمة منذ النطق بالتصفية القضائية في 21 مارس 2016.
القراران يعيدان إثارة قضايا هامة تتشابك فيها خيوطٌ اقتصادية وسياسية وقانونية واجتماعية، مُلقيًا بظلاله على مستقبل الطاقة في المغرب ومستقبل العمال الذين فقدوا وظائفهم.
في سياق النزاع بين شركة Corral Petroleum Holdings، المملوكة لرجل الأعمال السعودي من أصل إثيوبي محمد العمودي، قام الأخير، منذ سنة 2018، باللجوء إلى المركز الدولي لتسوية نزاعات الاستثمار (CIRDI)، لحل النزاع المتعلق بمصفاة لاسامير، حيث طالب بتعويض قدره 2.7 مليار دولار، متحججا على ذلك بأن المغرب قد استولى على مصفاة سامير، في إخلال بالتزاماته بموجب الاتفاقيات الثنائية لحماية المستثمرين التي تم توقيعها في عام 1990 بين المغرب والسويد “بشأن إنعاش وحماية الاستثمارات على وجه التبادل”، ونشرت في الجريدة الرسمية 19 عاما بعد ذلك، أي في سنة 2009، نظرا لأن المقر الاجتماعي للشركة الأم يتواجد في السويد.
تتضمن هذه الاتفاقية، المكونة من ثلاث صفحات، مجموعة من البنود التي تضمن حماية الاستثمارات الأجنبية المباشرة لكلا الطرفين. وتعتبر المادة الثانية من أهم هذه البنود وأكثرها استغلالاً من قبل المدعي، إذ تنص في فقرتها الأولى، على أنه “يؤَمِّن كل طرف من الأطراف المتعاقدة باستمرار معاملة عادلة ومنصفة لاستثمارات رعايا وشركات الطرف المتعاقد، ويمتنع عن اتخاذ أي إجراء لا مبرر له، من شأنه أن يعرقل تدبيرها وصيانتها واستعمالها والانتفاع بها، وبيعها أو تصفيتها…”، وفي الفقرة الثالثة من نفس المادة تنص الاتفاقية على أنه “تتمتع الاستثمارات المنجزة طبقا لقوانين وأنظمة أحد الطرفين المتعاقدين، فوق تراب الطرف المتعاقد الآخر، بحماية تامة وكاملة بمقتضى هذا الاتفاق.”
وتنص المادة الثامنة من ذات الاتفاقية على أنه “(1) إذا وقع خلاف ذو طابع قانوني مرتبط باستثمار ما بين طرف متعاقد والطرف المتعاقد الآخر فيتم تسويته، قدر الإمكان، بالتراضي بين الأطراف المتنازعة. (2) إذا تعذرت تسوية الخلاف بالتراضي خلال أجل أربعة أشهر ابتداء من تاريخ قيام أحد الأطراف المتنازعة بإشعار، يوافق كل من الطرفين على عرض الخلاف من أجل التحكيم أمام المركز الدولي لتسوية المنازعات المتعلقة بالاستثمارات في إطار معاهدة واشنطن ل18 مارس 1965 الخاصة بتسوية المنازعات المتعلقة بالاستثمارات بين الدول ورعايا دول أخرى”
على هذا الأساس لجأ العمودي إلى المركز الدولي لتسوية المنازعات المتعلقة بالاستثمارات، متهما الحكومة المغربية بإلحاق الضرر باستثماراته في شركة سامير والتسبب في خسارة أصولها.
بعد خوصصة “لاسامير”، لم تلتزم مجموعة العمودي بالتزاماتها التعاقدية، وبدأت الشركة تواجه مشاكل مالية كبيرة نتيجة سوء الإدارة والتخطيط غير الفعال، وفي سنة 2013 قامت الشركة باقتراض 200 مليون دولار من الأسواق الدولية، مما زاد من أعباء الديون عليها، لتعلن في 2014 عن خسائر بقيمة 3.4 مليار درهم، مما أشار إلى وجود مشاكل حادة في الإدارة المالية.، تراكم هذه الإشكالات أدى إلى توقف لاسامير عن الإنتاج، في غشت من سنة 2015، بسبب تراكم الديون، والتي بلغت حوالي 40 مليار درهم. كان الجزء الأكبر من هذه الديون مستحقًا لإدارة الجمارك المغربية، بالإضافة إلى ديون أخرى للبنوك المغربية، وهو المبرر الذي استغلته الحكومة المغربية لبدء مسار التصفية إذ قررت المحكمة التجارية بالدار البيضاء، في 21 مارس 2016 وضع الشركة تحت التصفية القضائية بعد فشلها في تقديم خطة لإعادة الهيكلة وسداد ديونها.
في المقابل يؤكد المغرب أنه لطالما دعم مصفاة لا سامير، حيث أن السلطات المغربية قامت بتعبئة كل الموارد الضرورية قصد الحفاظ على نشاط المصفاة، رغم الصعوبات المالية. ونفت الحكومة المغربية أي استيلاء على المصفاة، مبررة ما قامت به بكونه يهدف إلى حماية المصالح الاقتصادية والاستراتيجية للبلاد، وذلك في إشارة إلى خطوط ائتمان مدعومة برسوم جمركية، وتمويلات من مؤسسات بنكية. لجأت إليها بهدف ضمان استمرارية المصفاة.
وبعد مرور ست سنوات من بدء النزاع، أصدرت الهيئة الدولية أخيرًا حكمها، يوم الاثنين 15 يوليوز الجاري، حيث رفضت المحكمة أغلب مطالب المجموعة، التي كانت تُقدَّر في البداية بنحو 2.7 مليار دولار، ومنحتها تعويضًا قدره 150 مليون دولار فقط، أي أقل من 6% من المبلغ المطلوب، وعلى الرغم من ذلك يُعدّ القرار انتصاراً جزئياً لشركة Corral، بينما أعرب المغرب عن خيبة أمله من القرار وأعلن أنه سينظر في إمكانية استئنافه.
إعلان الحكم في واشنطن حضرته وزيرة الاقتصاد والمالية المغربية، نادية فتاح العلوي، وأشارت إلى أن موقف الرباط لا يزال كما هو، وأن الحكومة تفكر في جميع السبل، بما في ذلك اللجوء إلى الاستئناف، وأضافت الوزيرة في تصريح لوكالة المغرب العربي للأنباء “لا نزال مقتنعين بأن المغرب اتخذ دائمًا موقفًا عادلاً تجاه مجموعة Corral”، وأضافت نادية فتاح العلوي: “المغرب، الذي اعتبر المصفاة دائمًا أصلًا استراتيجيًا، حشد جميع الموارد اللازمة لتشغيلها وتطويرها بشكل جيد”.
جدير بالذكر أن تسجيل طلب لبدء إجراءات التحكيم في هذه القضية، بدأ منذ 14 مارس من سنة 2018، أعقب ذلك تعيين المحكمين، وأعضاء المحكمة، قبل أن تنطلق أولى الجلسات عن طريق تقنية التواصل عن بعد (فيديو كونفرنس) بتاريخ 29 نونبر من سنة 2018، وقدم المدعي والجهة المدعى عليها مذكراتهما.
تعيش مصفاة سامير منذ ما يناهز التسع سنوات وضعا صعبا، أثر بشكل كبير على إمدادات السوق الوطنية بالوقود، وساهم بدوره في الارتفاع المهول الذي تعرفه أسعار المحروقات. لفهم كيف وصلنا إلى هذا الوضع؟ لابد من العودة إلى تاريخ شركة، طالما اعتبرت مرآة للمغرب المستقل، وأحد أبرز إنجازات حكومة عبد الله إبراهيم، في إطار تصفية تركة الاستعمار المباشر، وبناء أسس اقتصاد وطني.
غداة الاستقلال، فتح المغرب أوراشًا كبيرة لبناء الدولة الحديثة، وبرزت فكرة إنشاء مصفاة بترول لتلبية احتياجات البلاد من المحروقات. تحقق هذا الهدف عام 1959 في عهد حكومة عبد الله إبراهيم، ونائبه آنذاك، عبد الرحيم بوعبيد الذي كان في نفس الوقت وزيرا للاقتصاد الوطني والمالية، بتأسيس شركة سامير، وهي اختصار للإسم بالفرنسية “الشركة مجهولة الاسم المغربية الإيطالية لتكرير النفط” «SAMIR».
أدرك بوعبيد أن التصنيع يتطلب توفر الطاقة والمواد الخام كشرط أساسي، فكانت الأولوية لبناء مؤسسات وطنية متخصصة في تحويل المواد الخام وتطوير مصادر الطاقة. كانت الفكرة الطموحة تهدف إلى تحرير البلاد من الهيمنة الأجنبية، وضمان استقلال اقتصادي حقيقي من خلال تأمين الطاقة بأسعار منخفضة.
برزت هذه الاستراتيجية بوضوح في الخطاب الذي ألقاه بوعبيد في جرادة، في دجنبر سنة 1959، حيث قال: “لخلق الظروف اللازمة لظهور صناعة أساسية، بذلنا جهودًا خاصة للحصول على مواد خام طاقوية بكميات كافية وبأسعار مناسبة. وبهذه الطريقة، زادت إنتاجية الشركة الشريفة للبترول، كما تم اكتشاف حقل غاز في منطقة الصويرة”.
تأسست سامير بشراكة بين مكتب الدراسات والممتلكات الصناعية المغربي، والمكتب الإيطالي للهيدروكربونات، بالتعاون مع شركة النفط الإيطالية العامة «إيني»، لمؤسسها إنريكو ماتي، الذي عمل في الخمسينات من القرن الماضي على إقامة علاقات تعاون مع الدول الأفريقية، من خلال مساعدتها على تطوير مواردها الطبيعية وكسر هيمنة سبع شركات غربية كبرى للطاقة (الأخوات السبع) على قطاع النفط والغاز في العالم، وساهم أبراهام السرفاتي، المهندس الخبير في شؤون الطاقة، في الإشراف على وضع بنود العقد مع الشركاء الإيطاليين، وأسفر ذلك عن إطلاق “الشركة مجهولة الاسم المغربية الإيطالية للتكرير Société Anonyme Marocaine Italienne de Raffinage”، لتشكل لا سامير بذلك أول وحدة لتكرير النفط الخام تقع في مدينة المحمدية، بطاقة استيعابية تبلغ 1.25 مليون طن سنويًا.
آنذاك، كانت مدينة المحمدية تُعرف باسم فضالة، وقرر الملك محمد الخامس تغيير اسمها إلى المحمدية، خلال وضع حجر الأساس لبناء المصفاة في الخامس والعشرين من عام 1960. ومنذ ذلك الحين، شهدت المدينة تطورًا صناعيًا وعمرانيًا سريعًا.
بعد انطلاق أشغال المصفاة تبين أن بإمكانها تحقيق الأهداف التي رسمت لها، إذ على سبيل المثال، ورد في تقرير، رفعه إلى الملك، والي بنك المغرب حينها، امحمد الزغاري، حول السنة المالية 1962، ونشر في الجريدة الرسمية عدد 2649، الصادر بتاريخ 2 غشت 1963، “عالج معمل (سامير) لتكرير البترول، وهو الذي دشن في يناير 1962، 652.000 طن طيلة السنة كلها. وذلك من البترول الخام المستورد. وهذا في حين، عالج معمل تكرير سيدي قاسم من جهته البترول المستخرج من الأرض المغربية، ومقدارا يزيد قليلا عن 100.000 طن من البترول الأجنبي”. وأضاف ذات التقرير أنه “نقصت إلى حد كبير، الواردات من منتجات الطاقة وذلك أن منشآت سامير، التي بدأت نشاطها في سنة 1962، قد أتاحت في الواقع سد حاجة جانب مهم من الطلب الواقع في الداخل على المنتجات الوقودية المصفاة”.
بعد مرور عقد من الزمان على بدء نشاطها، وتزامنا مع الصدمة النفطية الأولى، قررت الدولة المغربية عام 1973 تأميم شركة سامير بشراء حصص الإيطاليين، وكان الواجب تغيير التسمية القانونية للشركة، غير أن الاختصار SAMIR ظل هو نفسه لأن الشركة تمت تسميتها بـ “بالشركة مجهولة الاسم المغربية لصناعة التكرير Société Anonyme Marocaine de l’Industrie du Raffinage”. وفي عام 1978، تم إنشاء مجمع جديد للمصفاة بقدرة إنتاجية تصل إلى 4 ملايين طن سنويًا، لترتفع الطاقة الإنتاجية الإجمالية للمصفاة إلى 6.25 ملايين طن.
وبعد رحيل الإيطاليين، كان المغرب يمتلك مصفاتين: الأولى في سيدي قاسم (الشركة الشريفة للبترول SCP، التي تم تأسيسها في 29 أبريل 1929، وورثها المغرب المستقل عن الاستعمار وأمَّمتها حكومة عبد الله ابراهيم)، و”سامير” في المحمدية، والتي تطورت واندمجت مع SCP. قبل أن يتم إغلاق مصفاة سيدي قاسم واتخاذ قرار خوصصة “سامير”.