شادي بخاري
بين حوالي ألفي شخص، من المهاجرين واللاجئين الذين كانوا في ذلك اليوم الدامي، كانت هناك سيدتان، هما السودانية حواء 47 سنة، والتشادية مريم 20 سنة.
تمثل قصة حواء فصلاً من فصول مآسي النساء المهاجرات، والهاربات من أتون الحرب والصراعات التي تعصف بالدول الإفريقية، فهذه المرأة رأت الموت مرتين، مرة في دارفور، ومرة عند سياج مليلية.
أفرغ الجنجويد رصاصهم في زوجها وابنيها، وتركوا لها واحدًا، نجا معها من الموت بأعجوبة، “حملت طفلي، احتضنته بقوة وهو ينزف دما، وأنا أصرخ أنتم لا تخافون الله، فأخذوا مني طفلي ورموه على الأرض، وهم يقولون نحن لا نخاف الله سنريك كيف لا نخاف الله”، تضيف حواء.
“أمسكوني وكبلوني، حتى ما عدت أقوى على الحركة، أزالوا ملابسي، أخذوا قطعة حديد ووضعوها بالنار حتى اشتدت حرارتها وحرقوني في كتفي ورجلي ومناطق أخرى من جسدي”، تشرح الناجية من مأساة مليلية، بصوت مرتعش.
نفذ “الجنجويد” جريمتهم، سرقوا كل شيء كانت تمتلكه عائلة حواء المغتالة، دمروا كل شيء، وتركوا لها الألم والذكريات، حتى الوداع الأخير لم تستطع أن تحضره “الناس بالمنطقة دفنوا زوجي وولدي، أنا لم أحضر يوم الدفن”.
حملت حواء ابنها الناجي، وقررت أن ترحل عن وطنها، والمغادرة مع فلذة كبدها المتبقية، وصلت معه إلى ليبيا بعد عبور تشاد بمعاناة مريرة، وما إن وصلوا ليبيا حتى قبض على إبنها أحمد، والذي كان يبلغ من العمر حينها سبع عشرة سنة، “أوقفوا ابني وأدخلوه إلى السجن، طلبوا مني 5000 دينار غرامة لكي يطلقوا سراحه، لم يكن بحوزتي دينار واحد، حكيت لهم أنني فقدت زوجي وطفلين لكنهم لم يعيروني أي اهتمام… خرج ابني من السجن بعد ذلك بشهرين تقريبا”.
لم تدم فرحة خروج الابن من السجن، فأثناء بحثها وقعت ضحية خديعة رجل ليبي، أوهمها أنه وجد لها عملًا، وأثناء ذهابها معه، اختطفها وسلمها أو باعها؛ لقاعدة عسكرية في غدامس، الواقعة في مثلث الحدود بين ليبيا، تونس والجزائر؛ كي تشتغل في بيوتهم.
رفضت حواء ذلك ولكنهم أرغموها على العمل، وتم منعها من العودة، بقيت عندهم قسرًا؛ تقوم بأعمال التنظيف والغسيل طيلة اليوم دون أي مقابل مادي، فقط بعضٌ من بقايا طعامهم، “تمكنت بصعوبة من الهروب، ذهبت نحو السوق فوجدت مهاجرين، كانوا كثيرين هناك، ولحسن حظي التقيت سودانيين ضمنهم”.
عرفت حواء أن من قابلتهم ينوون الدخول إلى الجزائر ثم إلى المغرب فرافقتهم، وتمكنت من الدخول إلى الجزائر، وبعد ليال من المشي والمخاطرة، أقلتها سيارة بالمجان نحو شمال الجزائر قرب العاصمة، ثم توجهت إلى الحدود مع المغرب، ولأن اجتياز الحاجز الحدودي يكون مقابل 200 دولار تقريبا، وهو ما لا تملكه، قررت ومن معها المشي لمسافات طويلة، ليل نهار، بعد أن انفصلوا عن باقي المجموعة، “خمسة أيام من الطريق بدون طعام، فقط قليل من الماء، كنا ننام في العراء، ننهض ونكمل المسير، تمكنا من العبور إلى المغرب لم يكن هناك حاجز سلكي، فقط حفرة كبيرة تفصلنا عن الجانب المغربي”.
بعد وصولها إلى المغرب، مكثت حواء حوالي أسبوعين بمدينة وجدة عند امرأة مغربية استضافتها بمنزلها بعد أن علمت أنها لا تملك مالا ولا مأوى للنوم، وعند تلك المرأة، تنفست الصعداء، واستراحت من تعب الطريق والمشقة والجوع والعطش.
منذ مغادرتها للوطن، لا هدف أمامها سوى الوصول إلى أوروبا، وهكذا اتجهت نحو مدينة الناظور للمرة الأولى، حين علمت أن هناك منطقة تسمى “بني نصار”، على الحدود مع مليلية، يمكن لها أن تعبر منها.
تقول حواء، “صعدت الجبل على قدمي، وأنا متجهة نحو المجهول، لم أكن أعرف المنطقة جيدا، بقيت هناك حوالي أربعة أيام تائهة وحدي، أبحث وأملي الوحيد هو العبور إلى مليلية”.
نزلت حواء من الجبال، وعادت أدراجها، ولسوء حظها تم اعتقالها بالناظور، ورحلت قسرًا نحو مدينة الدار البيضاء، وبعد أيام من ذلك الترحيل اتجهت حواء رفقة مجموعة من السودانيين والتشاديين نحو منطقة “جبل موسى” القريبة من مدينة سبتة، “كنا كثيرين، حوالي ثلاثمائة شخص، قبضت علينا الشرطة، احتجزونا لساعات بالمخفر ثم رحّلونا بواسطة الحافلة إلى الدار البيضاء”.
في طريقها بين سياج سبتة والدار البيضاء، وبين الدار البيضاء والناظور، تعرفت حواء على رفيقة درب الهجرة، التشادية مريم، التي انطلقت معها من مدينة الرباط إلى جبل “سلوان” بالناظور، “سمعنا أن هناك مهاجرين وعددهم كبير جدا بالغابات المجاورة للناظور، كنت أنا ومريم ومعنا حوالي تسعة شباب من أصول سودانية، انطلقنا من الرباط نحو سلوان في الحافلة، وحين وصلنا ذهبنا مع إخواننا إلى الغابة، هناك وجدنا مخيمات كثيرة، المهاجرون يتعاونون على أمور المأكل والمشرب، حيث يقومون بطبخ الطحين والعدس”.
تتذكر حواء صباح اليوم الموالي لوصولهم إلى الجبل، “قمنا بتحضير الفطور، وعندما كنا نأكل، تفاجأنا بهجوم السلطات، لقد اشتبكوا مع الشباب ودمروا كل شيء، أفسدوا كل طعامنا ورموا علينا القنابل المسيلة للدموع”.
كان ذلك صبيحة يوم الخميس، 23 يونيو 2022، وبعد ذلك الهجوم والحصار الذي ضربته السلطات على المهاجرين في الجبل، قرروا التوجه نحو السياج، إما العبور للضفة الأخرى، أو الترحيل أو الموت، لم تعد لهم فرصة أخرى؛ “توجهنا حوالي الساعة الثانية ليلا، نحو جبل بني نصار، وصلنا على الساعة السابعة، هاجمتنا السلطات من كل جانب، أنا ومريم كنا في المقدمة ومن ورائنا إخواننا، كنا قريبتين جدا من المعبر، قال لي أحد الحراس، أأنت من تقودين المجموعة؟”، تحكي حواء.
تدخلت السلطات المغربية بعنف شديد، وهاجمت المهاجرين وطالبي اللجوء بالغازات المسيلة للدموع والعصي، ونالت حواء حظها من ذلك التنكيل، “حاولت الابتعاد قليلا عن الحاجز لكي لا أسحق تحت أقدام المهاجرين، أمسكني أحد الحراس ودفعني باتجاه مجموعة أخرى من المهاجرين، سقطت أرضا، انهالوا علي بالركل والضرب، أصبت إصابة بليغة في يدي”.
في ذلك اليوم، اعتقلت السلطات المغربية مئات المهاجرين، رحلتهم إلى مدن بعيدة، كانت حواء ضمنهم، “أخدوا مني الهاتف وكل شيء، لقد سلبوا مني أغلى ما كنت أملك، قلادة ذهبية أخفيتها طيلة الرحلة، لم أفكر أبدا في بيعها، كنت أخاف عليها وأغير مكانها باستمرار، خلال محاولة العبور، أزلتها من عنقي ووضعتها بجيب في المحفظة التي أحملها معي… حين أخذوا القلادة أحسست بألم شديد فلها مكانة عظيمة عندي، لقد أهداها لي زوجي منذ وقت بعيد”.
رحلت حواء ومريم إلى مدينة بني ملال وسط المغرب، رفضوا نقلها إلى المستشفى بالرغم من إصابتها البليغة، بعد أيام عادت إلى الرباط، وعاشت في الشارع بحي “القامرة”، حتى تمكنت من الاستفادة من المساعدة الاجتماعية التي تقدمها مفوضية اللاجئين التابعة للأمم المتحدة.
أيقظت مشاهد الجمعة الدامي، كل مآسي حواء، حركت ما تحت رماد ذاكرتها من وجع، فللمرة الثانية تنجو من الموت، ولا زالت تعاني من آثار ما عاشته “لا أستطيع النوم بالليل، ينتابني خوف رهيب حين يحل الظلام، وبالرغم من التعب الشديد لا أستطيع النوم، كلما أويت إلى الفراش، يجتاحني التفكير في ابني وفي الرحلة، في ذلك اليوم والرعب… ورغم ذلك ما زلت أرغب وأحلم بالهجرة إلى أوروبا، علّي أجد مأوى آمنا”.
ينشر بالشراكة مع موقع هنّ