هنّ/ هاجر الريسوني
نعى البشير بن بركة والدته غيثة بناني، التي توفيت الأربعاء الماضي، بالعاصمة الفرنسية باريس، وهي زوجة الزعيم اليساري المهدي بن بركة، الذي اختطف في العاصمة الفرنسية وتعرض للاغتيال من طرف نظام الحسن الثاني سنة 1965.
تزوجت الراحلة من الزعيم الاتحادي المختطف، سنة 1949، وأنجبت منه أربعة أبناء؛ ثلاثة ذكور، هم: البشير وسعد ومنصور، وبنت واحدة هي فوز. ومنذ 29 أكتوبر 1965، حين اختطف اثنان من رجال العصابات زوجها السياسي الأكثر عالمية في تاريخ المغرب المعاصر، في “براسيري ليب” بالعاصمة الفرنسية باريس، في واضحة النهار، لم تر الراحلة زوجها مرة أخرى.
ومنذ ذلك التاريخ، ظلت غيثة بناني، تطالب بالحقيقة والعدالة للزوج المغتال، والذي لم يُعثر على جثته، ولا يعرف له قبر تمكن زيارته. وقال البشير بن بركة، في بلاغ نعي باسم العائلة: “كانت غيثة عماد الأسرة، ومرجعًا لكل ما يتعلق بقيم الإنسانية والأخوة والتضامن”.
وأضاف أنها ماتت وهي “تمثل ركيزةً لجميع أفراد عائلتها، ونموذجًا في البساطة والطيبة، وملاذًا بقلبٍ كريم وأذنٍ صاغية دائمًا. كانت سيدة عظيمة، تمتاز بعزيمة لا مثيل لها، وشجاعتها وكرامتها كانتا مثاليتين، وسخاؤها كان بلا حدود”.
وأشار إلى أنها “كانت ترافق بن بركة في جميع محن حياته النضالية ضد الحماية الفرنسية ومن أجل بناء مغرب مستقل وديمقراطي، مشاركةً في أفراح وأحزان الحياة الأسرية”.”ومنذ عام 1960، تعرضت هي وزوجها لمضايقات الشرطة السياسية، مما اضطرها لمغادرة المغرب في عام 1964. ولم تعد إليه إلا في عام 1999 عندما قررت مع أبنائها إنهاء منفاهم بعد وفاة الحسن الثاني، الذي كانت تحمله مسؤولية اختطاف واختفاء زوجها”، يضيف البيان.
وختم البشير، بيان العائلة قائلا، “ترحل والدتي، المرأة التي كانت رمزًا لمقاومة الزوجات والأمهات الحاملات لشعلة النضال من أجل الحقيقة، ضد النسيان والإفلات من العقاب. رحلت بسلام، محاطة بأبنائها وأخيها علي، الذي كان تفانيه وإخلاصه ملحوظين خصوصًا خلال السنوات الأخيرة. سيظل أثرها محفورًا في ذاكرتنا إلى الأبد”.
رحلة التعلم
تنحدر غيثة بناني من أسرة علم، فوالدها هو القاضي الفقيه أحمد بناني، وعمها كان من الموالين لزعيم انتفاضة الريف عبد الكريم الخطابي، وهو أحد عناصر خلية نظم “نشيد الريف”، الذي اعتبر نشيدا وطنيا، وهو ما مكن غيثة من اكتساب ثقافة عامة عميقة وإلمام بالشأن الوطني.
وهي في سن السادسة عشرة من عمرها، تقدم لخطبتها المهدي بن بركة، الذي كان حديث الخروج من السجن، وشقيقه عبد القادر خطب أختها حبيبة، وتمت مراسيم الزواج سنة 1949، حيث عاشت معه في بيت العائلة في مدينة تمارة، وبعد مرور سنة فقط على زواجهما، رزقَا بابنهما البكر البشير.
شجعها بن بركة على تعلم القراءة والكتابة وتطوير مستواها الثقافي، وهكذا شاركت في حملات “حزب الاستقلال” من أجل التعليم، ورافقت “جمعية محاربة الأمية”، من أجل تعليم المغاربة إناثا وذكورا وفقا لما ذكره المؤرخ المغربي المعطي منجب.
ويقول منجب، أنه “مع الوقت تطور مستوى غيثة بناني الثقافي والسياسي، وأصبحت لديها معرفة بالوضع السياسي المغربي والدولي، وكانت لديها قدرة على تحليل الأحداث بشكل سلسل وعميق، وعلى المشاركة في النقاشات وتطويرها”.
من رغد العيش إلى المنفى
حين تزوجت غيثة بناني من المهدي بن بركة، لم تكن تعتقد أنها ستستبدل رغد العيش في بيت والدها، بالملاحقات البوليسية والاعتقالات والنفي، فقد قرر المهدي مغادرة المغرب سنة 1963، بعد ذلك صدر حكم غيابي بالإعدام في حقه، بتهمة المشاركة فيما سمي بـ”مؤامرة ومحاولة اغتيال الملك”، عاشت غيثة بناني فترة صعبة بسبب المضايقات التي تعرضت لها من طرف نظام الحسن الثاني، مما دفعها للالتحاق بزوجها في القاهرة والاستقرار هناك لسنوات.
وفي الوقت الذي اعتقدت فيه غيثة أن حياتها استقرت ولو قليلا، سينزل عليها خبر اختطاف المهدي بنبركة سنة 1965 كالصاعقة، لتبدأ معه مسلسلا آخر من المعاناة والنضال، من أجل كشف الحقيقة في قضية اختطاف زوجها.
وعد شارل دوغول
بعد انتشار خبر الاختطاف، يوضح المعطي منجب “اتصل بها الجنرال ديغول ليبرئ فرنسا من مشاركتها في الجريمة، ووعدها بأن القضاء سيكشف الحقيقة، غير أن هذا الوعد لم يتحقق، لذلك سترسل غيثة بناني إلى وزير العدل رينيه بليفين في حكومة جورج بومبيدو سنة 1970 رسالة تذكره فيها بتنفيذ وعد شارل دوغول”.
في رسالتها تلك، تقول غيثة “هل يجب أن أذكركم، سيدي الوزير، أن الجنرال دوغول، الذي كرمه العالم أجمع بمناسبة وفاته، كان قد حرص على طمأنة والدة المهدي بن بركة بأن العدالة ستتخذ إجراءاتها بأقصى قدر من الصرامة والدقة. ألا تعتقدون، أنه رغم كل خيبات الأمل التي جلبتها إدارة هذه القضية لعائلة المهدي بن بركة، فإن هذه العائلة لها الحق في المطالبة بالوفاء بهذا الوعد؟، ويبدو لي أنه يجب إصدار جميع التدابير اللازمة لإعادة فحص الظروف والمسؤوليات المتعلقة بالجريمة”.
وعلى الرغم من أن غيثة بناني عاشت معظم حياتها خارج المغرب؛ جزء في مصر وجزء آخر فرنسا؛ إلا أنها كانت حريصة على أن يتحدث أبناؤها بالدارجة المغربية، وأن يحافظوا على هويتهم وثقافتهم المغربية، ويؤكد منجب، أنها “كانت امرأة قوية، حضنت أطفالها بعد اختطاف والدهم، وربتهم على القيم، وحرصت على أن يكملوا تعليمهم الجامعي وهو ما حدث فعلا”.
“بعد اختطاف الزعيم بن بركة، عاشت غيثة بناني وأطفالها ظروفا مادية صعبة، لم يكن لديها مدخول قار، لكنها صمدت، وكانت ذات أنفة وكرامة. لقد واجهت كل الظروف الصعبة ولم تنكسر يوما”، يوضح المؤرخ المغربي.
ناضلت غيثة بناني رفقة ابنها البشير، لعقود من أجل كشف الحقيقة في ملف زوجها، و”كل ما كانت تريده هو أن تظهر جثة المهدي ليدفن أبناؤها والدهم ويعيشوا حدادهم وحزنهم مثل الجميع، كانت تخاف أن تغادر الحياة دون أن تعيش هذه اللحظة، لقد كانت أحد أكبر مخاوفها” يؤكد منجب.
ويضيف أنه “بعد مجيء الملك محمد السادس انبعث الأمل من جديد في كشف الحقيقة، لكن تلك الآمال تبخرت مع الوقت، لقد أصيبت بخيبة أمل من النتائج النهائية لهيئة الإنصاف والمصالحة، وأيضا أصيبت بخيبة أمل من رفاق المهدي القدامى”.
من جهته، يقول البشير بن بركة، في بيان نعي والدته، إنه “أثناء اختطاف والدي، كانت في المنفى بالقاهرة، وبمساعدة أخيها عثمان بناني، كرست حياتها لتربية أبنائها الأربعة وطفلي أختها المتوفاة الذين كانوا يعيشون معنا”.
وأكد على أنه “بفضل خصالها الإنسانية العالية، تمكنت من نقل القيم التي تمثّلها المهدي بن بركة لأبنائها. وعلى مدار ما يقرب من ستين عامًا، كرست حياتها، بجانب أبنائها ومع أقاربها، للبحث عن الحقيقة بشأن مصير زوجها لكي تتمكن من الحداد وزيارة قبره”.
ينشر بالشراكة مع موقع هنّ