هوامش – إعداد سعيد المرابط وهاجر الريسوني
ولد الكاتب الفرنسي الشهير “جاك بيروليس”، (جيل بيرو) في 9 مارس 1931 في باريس وتوفي في 3 غشت 2023. ودرس في معهد الدراسات السياسية في باريس وعمل لعدة سنوات محاميًا قبل أن يصبح صحفيًا، حيث غطى أحداثًا مثل أولمبياد طوكيو ومشاكل السكان السود في الولايات المتحدة، ثم كرس حياته ككاتب وروائي، تحت اسم مستعار “جيل بيرو” الذي اشتهر به إلى أن وافاه الأجل.
وبين عامي 1956 و2020، كتب العشرات من المؤلفات من بينها كتابه المعنون بـ”صديقنا الملك”، الذي ساهم في إثارة الجدل حول معتقلي “تزمامارت” في المغرب، وأخرج واقعهم من ظلام زنازين الحسن الثاني؛ ليتصدروا الرأي العام الدولي.
صدر الكتاب عام 1990، فنال سخط الحسن الثاني، واستحسان النقاد والحقوقيين، إذ سلط الضوء على 30 عامًا من حكم الملك الراحل الحسن الثاني للمغرب، والذي وصف فيه الديكتاتورية والتعذيب والاختفاء في البلد، يقول الكاتب والمعتقل السابق في سجن “تزمامارت”، أحمد المرزوقي، أن كتابه ذلك كان بمثابة “القشة التي قسمت ظهر بعير التعتيم والخوف”.
في مؤلفه “صديقنا الملك”، يصف جيل بيرو العاهل المغربي الراحل الحسن الثاني بأنه “كان سيد الجميع، يعالج الداء بالداء، فما أن يبرز رأس حتى يلويه الردع”.
وحول كتابه هذا يقول جيل بيرو، في مقابلة مع قناة “الجزيرة”، “عندما صدر الكتاب نفى الملك وجود تزمامرت، هذا المكان الحقير حيث يتم وضع السجناء في زنزانات لا يدخلها الضوء ولا يخرجون منها إلا أمواتا.. ذلك مريع وفظيع”.
ويضيف بيرو “نفى الملك وجود تزمامرت، وقال إنه غير موجود وأنه مجرد اختلاقات، لكن ذلك غير صحيح، فبعد ذلك وجد نفسه مجبرا على الاعتراف بوجود تزمامرت وعلى تحرير الناجين القلائل من هذا السجن”.
بقلم معطي منجب
تعرفت على جيل بيرو شخصيا حين زار مونبولييه، أواخر الثمانينيات، ليحاضر بأحد المدرجات الكبرى بجامعتها. كان المكان غاصا بمئات الأشخاص من كل الجنسيات، كان الموضوع هو قمع وتعذيب مغرب الحسن الثاني لمعارضيه وإطلاق الرصاص على المتظاهرين. جزء كبير من الحاضرين من المغاربة، رجالا ونساء، حجوا لمونبولييه من كل الجنوب الشرقي لفرنسا. لاحظتُ أن بعضهم يضع قماشا على وجهه كي لا تُعرف هويته إذ كان نظام الحسن الثاني يثير الرعب بين المهاجرين المغاربة عمالا وطلبة.
بعد نهاية محاضرته وكان الوقت ليلا تقدمتُ للسلام عليه. كان الرجل في غاية التواضع، استمع إلي باهتمام حول مستجدات القمع بالمغرب إذ كنت قد ساهمتُ إلى جانب بعض المغاربة والفرنسيين التقدميين (منهم من أصبح معروفا بعد ذلك، كالبرلماني جان لوي روميغاس والزعيم اليساري الجهوي باتريك طوليدانو الذي كانت جدته مغربية)، قلت ساهمت في تأسيس جمعية ستشتهر باسم غاريم GAREM، وكانت تتابع يوما بيوم أحداث القمع بالمغرب. هنأني على عملنا الجهوي ثم سألني عن عملي فقلت له إني طالب. وهل أنت لاجئ؟ سألني. قلت له لا ولكني لا شك في الطريق إلى ذلك. ولماذا؟ أجبته بأني في طور نشر أطروحتي في التاريخ السياسي المغربي وأنها تدرس وتصف في فصول منها جرائم الحسن الثاني السياسية، وقمعه للمعارضة، وتبعيته الذليلة لفرنسا اليمينية الاستعمارية إلى حين اغتيال الزعيم المهدي بن بركة.
لا يمكنني أن أصف فرحتي عندما تلقيت نصه التقديمي. نبهني بعض الأصدقاء صادقين إلى خطورة ما أقدمتُ عليه حسب رأيهم وهو أن يظهر إسمي إلى جانب إسم جيل بيرو العدو الأول للحسن الثاني بفرنسا. جيل بيرو الذي وبفضل كتابه أصبح رجال اليمين بفرنسا يتهربون من الدفاع عن الحسن الثاني صديقهم الوفي. ومن هؤلاء المتهربين شارل باسكوا، الزعيم اليميني القوي ووزير الداخلية السابق، الذي قال ما معناه- وهو المقرب من الحسن الثاني- أنه يفضل والده محمد الخامس. طبعا كان اليمينيون البارزون من أصدقاء النظام المغربي يخافون من كارثة انتخابية في دوائرهم، إذا لم يظهروا مسافة كافية من جرائم الحسن الثاني، خصوصا ضد الأطفال كأبناء أوفقير، وضد المثقفين الذين مات بعضهم تحت التعذيب كعبد اللطيف زروال وأمين التهاني، أو من جراء الإضراب عن الطعام كالشاعرة سعيد المنبهي.
في لحظة ما تجلت لي إنسانيته في أبهى صورها، حين سألني ضاحكا، وأنا الشاب المغمور المتلعثم في كلامي معه من شدة حضوره الروحي وكاريزميته: ألا يمكنني أن أكون أول قارئ من خارج لجنة المناقشة لأطروحتك؟ قلت بلى، وأنا أبادله ضحكا بضحك: ولكن بشرط واحد وهو أن تكتب لي تقديما إن أعجبك محتواها. ناديته أياما بعد ذلك على الهاتف لأعطيه عنواني البريدي ولأسأله ما رأيه حول الأطروحة. أجابتني زوجته وحين شرحت لها موضوع مكالمتي قالت لي مشتكية بصوت أمومي: إن جيل لا يكاد يقضي بالمنزل إلا يوما أو يومين في الأسبوع يا ولدي، إنه دائم الغياب. ولكنه يحترم كل ما يعد به المناضلين الشباب الذين يريدون أن يفعلوا مثله بقول الحقيقة حول مآسي هذا العالم لإنقاذ من يمكن إنقاذهم. تبادلت مع بيرو بعض الرسائل ثم توصلت ذات يوم بعدة ورقات كتبها بنفسه على “آلة الداكتيلو” مع بعض التصحيحات بالقلم الأزرق.
والحاصل أن جيل بيرو بكتابه “صديقنا الملك” جعل من حقوق الإنسان بالمغرب قضية فرنسية بامتياز، حتى أن الرئيس الاشتراكي فرانسوا ميتيران قال يوما إن هذا الملك يتميز بقساوة غير مفيدة، أي زائدة عن الحد، إذ لا يرى الإنسان فيها ما فائدتها السياسية. جيل بيرو نفسه سيقول يوما في فيلم لرضوان البارودي إن الملك الحسن كان ولا شك يتلذذ بالتعذيب الذي يذيقه لمعارضيه. لكن كيف يمكن أن يكون طفل، عمره ثلاث سنوات كعبد اللطيف أوفقير، معارضا ليقضي ما يقرب من عشرين سنة، في مراكز للاختفاء القسري الشديدة القسوة، بعد اختطافه وأمه وكل إخوانه بل وحتى الخادمة من منزلهم بالرباط.
لقد مثل جيل بيرو فعلا ذلك الإنسان الصادع بالحق مهما كان، المثقف الأمين الذي لا يفاوض حول قول الحقيقة مهما كانت المغريات. هكذا رفض عرضا ماليا سريا وسورياليا لوزير داخلية الحسن الثاني، إدريس البصري، بملايين الفرنكات الفرنسية مباشرة قبيل صدور الكتاب، هذا رغم أن الناشر كان ينتظر على الأكثر بيع إثنتي عشرة ألف نسخة. في الحقيقة سيوزع من الكتاب وبأكثر من لغة ما يزيد على المليون نسخة خلال السنوات الأولى لصدوره. إن النجاح الذي لقيه هذا المؤلَف يشكل مفارقة حقيقية. فالكتب السياسية المتعلقة بقضايا خارجية لا يمكن أن تتجاوز في أحسن الظروف عدة آلاف من النسخ، وخصوصا أن الضجيج حولها لا يتجاوز أسبوعا أو أسبوعين.
وفي الحقيقة إن الحسن الثاني برد فعله السلطوي المتهور عن صدور الكتاب الناتج عن عدم متابعته لتطور الرأي العام بفرنسا (بعد وصول التحالف الاشتراكي الشيوعي للحكم بباريس) وبالغرب عموما بعد نهاية الحرب الباردة في سياق وصول غورباتشيف إلى سدة السلطة بالاتحاد السوفياتي، أقول رد فعله السلطوي، المتمثل في تنظيم حملة كبرى بالمغرب لإرغام الناس على إرسال تيليغرامات إلى قصر الإليزي للاحتجاج على نشر الكتاب، قد قدم خدمة اشهارية كبرى وحاسمة للمؤلَّف والمؤلِّف. هكذا تجاوز عدد التيليغرامات المليون، نفس عدد نسخ الكتاب الموزعة. غريب أمر الديكتاتور.. المفارقة الأخرى لا تقل غرابة: إن تحقيق جيل بيرو المنشور في بلد أجنبي وبلغة أجنبية كان الكتاب الأكثر تأثيرا في التاريخ السياسي للمغرب المستقل، إذ أن الحسن الثاني أطلق سراح كل من ذكرهم الكتاب خلال السنة التالية. كما ساهمت الحملة الإعلامية العالمية التي أطلقها الكتاب في بداية التفاوض بين المعارضة الديمقراطية والملك، وهي المفاوضات التي ستؤدي في الأخير إلى انفتاح سياسي جدي سيستمر حوالي عقد كامل.
وقبل أن أختم يبدو لي أنه من المفيد والعادل الإشارة إلى دور كرستين دور زوجة أبراهام السرفاتي، ومناضلي “لا سدوم Asdoh” ، ولجان مناهضة القمع في المغرب CLCRM في تجميع الوثائق والشهادات. وهكذا فإن المفكر اليساري عبد الله البارودي الحداوي المقيم ببروكسيل هو الذي ألح على صديقه جيل بيرو ليفصّل في التعريف بمأساة تازممارت وفعلا خصص الكاتب صفحات رائعة ورهيبة عن معتقل الموت هذا. كانت هذه الصفحات هي الأكثر تأثيرا في القراء إلى جانب تراجيديا آل أوفقير.
وداعا جيل، أيها الإنسان.
أول مرة أتعرف عليه فيها، كانت من خلال الراديو، حيث استمعت إلى ندوة صحفية له، تحدث فيها عن معتقلي تازمامارت وعن الجحيم الذي يعيشون فيه، كانت كلماته تلك بالنسبة لنا نحن الذين كنا ننتظر الموت، كأنها فتحت لنا أبواب القبور.
بعد خروجي من المعتقل راسلته مباشرةً، بعثت له رسالة مليئة بكل ما لدى البشرية من عبارات الشكر والامتنان، عبرت له عن شعورنا حين وصلنا صدى كشفه لحقيقة المعتقلات السرية بالمغرب، عن فرحتنا ونحن في قبورنا، بعدما فتحها ليدخلها الأكسجين، وقد تأثر كثيرًا لكلامي.
بقي الحال هكذا على المراسلات، حتى سافرت إلى فرنسا، بعد وفاة الملك الحسن الثاني؛ وذهبت لزيارته في قريته رفقة الكاتب والصحفي الفرنسي إنياس دال.
عندما وصلنا تلك القرية تفاجأت بخلوها من الناس، المكان شبه خالٍ، حتى صادفنا سيدةً أمام كنيسة هي من دلتنا على بيته، بفرح وفخر كبيرين.
كان ينتظرنا في بيته، وجدناه محطم النفسية، إثر وفاة ابنه في حادثة سير.
استقبلنا برحابة صدر، محاولا إخفاء آلامه، ظللنا معه طول اليوم، ومن غرابة الصدف، أننا حين كنا جالسين في حديقة منزله رأينا كلبًا نحيلًا أبيض اللون، يبدو كلبًا مغربيًا لا فرنسيًا، سألته عنه، فقال أنه رقَّ لحاله وأصبح يعتني به، فقلت له ممازحًا: يقينًا هذا كلب مغربي مهاجر بطريقة غير شرعية.
كان لقاؤنا الأول حميميًا بالنسبة لي، إذ استقبلني بالأحضان والعناق، كما كان غرائبيًا بالنسبة له؛ لم يكن يصدق أن أحد الناجين من جحيم تازمامارت أتى للقائه، اختلط عليه الواقع بالخيال كما قال.
في ذلك اللقاء قال لي، أعتقد أني كنت قاسيًا في كتابي على الحسن الثاني، أخبرته أنه لم يكن كذلك، بل إن الواقع كان أشد قسوة، فلو أنه تم تصوير ما كان يجري ورأى العالم الحقيقة الهمجية وحالتنا كالجيف النتنة؛ لخرجت البشرية منددة بذلك الجحيم.
بقينا في النقاشات ذلك المساء، حول الموضوع والحقائق، فهو لم يكن يعرف منها إلا ما روت له زوجة السرفاتي، التي زودته بالمعلومات وطلبت منه الكتابة عن القضية، أولا لأنه كاتب مشهور، وثانيًا لأنها لو كتبت هي لقيل أنها تبالغ في الأمر وتدافع عن زوجها، والحقيقة أنها لعبت دورًا جوهريًا في تسليط الضوء على وضعنا في ذلك المعتقل.
وبعد صدور كتابه، قامت الدولة المغربية باعتراض شحنة النسخ التي كانت ستوزع في المغرب، كما أرغمت عائلتي وكل من يمت لي بصلة على كتابة بيانات استنكار وتنديد ضد جيل بيرو، وأن ما كتبه كذب وافتراء لتشويه صورة البلاد الديموقراطية.
جيل بيرو، بالنسبة لي هو منقذ، رجل حمل فأسه وحفر عميقًا في قبرٍ دُفنتُ فيه حيًا، وقال لي أخرج إلى الحياة… تعوزني الكلمات في وصفه، فقد كان كتابه القشة التي قسمت ظهر بعير التعتيم والخوف، تعتيم وخوف أرغما عائلتي على دفن صوري تحت زليج المنزل.
ناهيك عن أن البرلمانيين والنخبة المغربية كلها تواطأت مع النظام للتنديد بكتاب جيل بيرو، وأنكرت وجود شيء اسمه معتقل تازمامارت، وكان من بين هؤلاء الطاهر بن جلون، الذي كان له موقف جبان.
الراحل جيل بيرو، له فضل علينا، لعب دورًا جوهريًا في قضيتنا، وهو نفسه لم يكن يتوقع أن يكون لكتابه ذلك الصدى، بنفسه أخبرني أنه اندهش من الأمر، وقال “لم أكن أتوقع إطلاقًا أن يحدث كتابي تلك الضجة في المغرب، ولكن المغرب كان في أمس الحاجة إلى ما يثقب بالونة التعتيم ليتنفس”.
ألان كريش: جيل بيرو، وفاة رجلٍ فريدٍ
بقلم ألان كريش. ترجمة هوامش بتصرف
توفي جيل بيرو في ليلة الثاني من غشت إلى الثالث منه. عاش منذ عقود في قرية “سانت ماري دو مون”، القريبة من شواطئ إقليم نورماندي، ما سمح له بتلبية شغفه بتلك الفعالية التاريخية، وكان قد فضل الابتعاد كثيرا عن العاصمة الفرنسية باريس. آخر مرة التقينا فيها كانت أثناء افتتاح لوحة تكريمية لـلمصري اليهودي “هنري كورييل”، وهو ناشط أممي اغتيل في باريس في الرابع من مايو عام 1978.
التقيت جيل بيرو لأول مرة تزامنا مع اشتغاله على تحقيق لإصدار كتابه المتعلق بتاريخ “كورييل”، “رجلٌ فريدٌ”، والتقينا للمرة الأولى، ربما عام 1981. وقتها طلب مني جيل بيرو الإذن، للإشارة بأنني “نجل كورييل” في كتابه. لقد حقق الكتاب نجاحًا هائلاً، ساهم في التعريف بشخصية كورييل في فرنسا وخارجها، وفي الحفاظ على ذكراه ولا سيما نضالاته.من الصدف الغريبة، أنني قبل وفاة جيل بيرو بليلة واحدة، كنت قد غمرت نفسي في هذا الكتاب، لا زالت مندهشًا من كيفية تمكن هذا الفرنسي الذي لا تربطه أي علاقة بمصر، من سرد تاريخ هذا البلد في الأربعينيات والخمسينيات بطريقة حية جدًا، بل أفضل حتى من العديد من الخبراء. اتصل بي جيل قبل بضعة أسابيع ليخبرني بسعادة كبيرة أن منتجًا قد اشترى حقوق كتاب “رجلٌ فريد”. ناقشنا الأمر واقترح علي أن ألعب دور كورييل، لكنه نسي أنني في سن الخامسة والسبعين، بل وسأكون ممثلًا فاشلا على أي حال.
في زمن كانت الأمور الشائعة فيه هي تشويه جميع النشطاء الذين ناضلوا من أجل “غدٍ أفضل”، خلال النصف الثاني من القرن العشرين، لم يكن جيل بيرو يخفي تعاطفه مع المقاومة. ولم يخفِ أبدًا تلك المشاعر، رغم أنه كان صغيرًا جدًا للمشاركة في المقاومة، إلا أنه كان يؤمن بالكفاح من أجل التحرر الذي ميز عصره. إن إرث جيل بيرو عظيم، تمامًا كنجاحاته. من “الأوركسترا الحمراء” إلى كتبه حول إنزال السادس من يونيو عام 1944، مرورًا بسلسلته عن خدمات المخابرات في عهد لويس الخامس عشر، “سر الملك”، ورواياته العديدة، بعضها تم تحويلها إلى أفلام في الشاشة الكبيرة. دون أن ننسى “صديقنا الملك”، القنبلة التي هزت الملك الحسن الثاني وعلاقاته مع فرنسا، والتي تطرق إليها بتفصيل في مقابلة مع “أورينت 21”