“هوامش”/ سعيد المرابط:
على طول الساحل الشمالي الممتد بين طنجة والسعيدية، تظهر الضفة الأخرى للمتوسط، مشهد يبدو للحالمين مكانًا تلوح منه المغامرة وتدعوهم بلون البحر لخوضها، تتراءى لهم أندلس الحلم المنشود وفردوس العيش المفقود، ولكن العبور بطريقة نظامية ليس متاحا إلا لزمرة من المحظوظين، إذ من الصعب، إن لم يكن مستحيلًا، الحصول على تأشيرة للسفر إلى أوروبا بالنسبة للسواد الأعظم من الشباب المغربي، الغارق في الفقر والبطالة واليأس.
طريق الحلم والحب
مريم وحسن من بين المغاربة الذين يشقون طريقهم نحو الإتحاد الأوروبي عبر دول البلقان؛ استطاعت “هوامش” التواصل معهما، أثناء تواجدهما في شمال صربيا، شابان ألقت بهما الصدفة والحلم في هذه الطريق الشاقة والطويلة، لكنهما يكتبان مشاقها ومتاعبها بحروف مختلفة.
مريم، 30 سنة، واحدة من النساء القلائل اللواتي تجرأن على ترك الوطن للقيام بهذه الرحلة إلى أوروبا عبر دول البلقان، تقول ابنة الدار البيضاء أنها تشعر بالفخر لأنها تجاوزت الخوف وقررت السعي خلف حلمها.
أما حسن، فهو ينحدر من مدينة الداخلة، ويبلغ من العمر 26 عامًا، حين تحدثنا إليه، كان قد بدأ رحلته قبل سبعة أشهر، فيما انطلقت مريم من المغرب في 4 غشت 2022، سافر كل منهما على حدة كسائحين من المغرب إلى اسطنبول بواسطة الطائرة، وفي غمرة الغربة والسعي إلى تحقيق الحلم “جمعتنا الصداقة ثم الحب”، تقول مريم، ليواصلا رحلتهما معًا، رحلة وحدتهما من تركيا حيث إلتقيا ولا تزال تمضي بهما في دروب الحلم.
المرحلة الأولى من الرحلة عبر الحدود مع بلغاريا، لم تكن صعبة، لكن بعد ذلك بدأت المتاعب “الشرطة أعادتني أربع مرات من بلغاريا إلى تركيا”، تقول مريم. أما حسن فقد حاول “سبع مرات وفي كل مرة كنت أقع بين يدي عناصر الشرطة الذين يسلبوني أموالي وهاتفي، وبعض المرات تعرضت للضرب على أيديهم”.
مدفوعان بالحلم والأمل، انطلقا معا من اسطنبول؛ مشيا جنبا لجنب لمدة ثمانية أيام؛ وفي الأراضي البلغارية “دفعنا 2000 يورو عن كل واحد منا بمعية مهاجرين آخرين ليتم نقلنا بالسيارة” ولكن قبل الوصول إلى صوفيا، ألقت الشرطة القبض عليهم واقتيدوا إلى مركز احتجاز للأجانب، كان المكان “أشبه بسجن عسكري”، وفق تعبير حسن.
سرقت أموال الجميع وهواتفهم وحتى بعض ملابسهم، في هذه الرحلة، “اعتدى علينا عناصر الشرطة بالضرب، ثم سجننا لمدة 30 يومًا” يؤكد حسن.
بعد عدة محاولات وصل حسن ومريم، سيرا على الأقدام إلى صربيا، حيث هما الآن، ومن هناك حاولا الاستمرار في طريقهم، لكن دون جدوى حتى الآن. يقول حسن، “عبرنا الحدود، لكن الشرطة أوقفتنا وأعادتنا إلى صربيا، لحسن الحظ تمكنا من إنقاذ هاتف مريم، لأنها كانت تخفيه، ولم تخضع للتفتيش”.
في شهادته لـ”هوامش”، يتحدث حسن، عن مافيا، تساعد المهاجرين مقابل المال، على عبور الحدود، تتشكل من أفغان وسوريين. قبل شهر ونصف، أرسلت له عائلته مبلغا ماليا ودفعا “1500 يورو عن كل واحد منا للمافيا السورية للذهاب إلى كرواتيا، ولكن تم خداعنا وسرقة أموالنا”.
بشكل عام، وفق تجربة مريم وحسن، “قد يكلف السفر عبر طريق البلقان إلى الاتحاد الأوروبي ما بين 5000 و7000 يورو بالنسبة لمن قرر أن يستفيد من خدمات المافيا “، لكن “هناك أناس هنا يستغلون وضع المهاجرين للنصب عليهم وسلب أموالهم” يؤكد حسن ومريم.
تكشف لنا مريم بأنها كانت “خائفة لأني امرأة وأسافر وحدي من المغرب، لكني لم أعتقد عندما بدأتُ الرحلة أنها ستكون صعبة بهذا الشكل، الناس في المغرب يعتقدون أن الأمر سهل جدًا”.
“لو كنا نعلم عن هذا الوضع في البداية لما سلكنا هذه الطريق”، يعلق حسن مقاطعًا مريم، ويوضح أنه كان من الممكن أن أهاجر “في قارب عن طريق البحر إلى جزر الكناري… فعلى الأقل هناك احتمالان واضحان، إما أن تموت أو تصل”.
لا تعلم عائلة حسن في مدينة الداخلة، المشاكل التي يواجهها، “لا يمكنني إخبار عائلتي بمشاكلي لأنهم سيقلقون عليّ”، يقول حسن. ومن جهتها تقول مريم، أنها غادرت المغرب بحثًا عن حياة أفضل في أوروبا “و لأتمكن أيضا من مساعدة أسرتي”.
وتأسف أنها غادرت بسبب الفقر، من بلد كالمغرب “لديه ثروة كبيرة، لكن هناك الكثير من عدم المساواة والفقر والبطالة”.
لا يزال هذان الحبيبان مصران على عبور الحدود، رغم أنهما لا يعرفان متى سيكونان قادرين على القيام بذلك “فالوضع أصبح صعبًا للغاية”، حسب تعبير حسن، لكنهما يؤكدان أنهما قادران على الوصول إلى أوروبا والعيش حياة أفضل هناك.
إنهما عازمان على الوصول إلى إيطاليا أو إسبانيا أو فرنسا، أو أي بلد أوروبي، لا يهمها سوى بلد يجدان فيه حياة كريمة، وبقدر هذا العزم يؤكدان لهوامش ارتباطهما وأنهما لن ينفصلا “لقد عشنا الكثير من الأوقات الجيدة والسيئة معًا، ولا يمكن أن نفترق أبدً” يؤكد حسن.
البلقان: حين تتمطط الجغرافيا
تتمطط هذه الطريق بالسياسة وهواجس الأمن، بحيث تصبح الـ14 كيلومترًا الفاصلة بين الضفتين آلافا، وتتحول ساعات القوارب إلى شهور، أو إلى أكثر من عام في العبور، ورغم أن خطر الموت يتوارى قليلا، إلا أنه لا يختفي.
في فبراير من العام 2019، وبحسب منظمات غير حكومية في المنطقة، استشارتها “هوامش”؛ “لقي مواطنان مغربيان حتفهما غرقا في النهر أثناء عملية عبور الحدود في البلقان”، ولكن لا توجد مصادر رسمية تؤكد ذلك.
بالمقابل تقول المفوضية السامية لشؤون اللاجئين إنها “لا تبلغ عن الوفيات في هذه المنطقة كما تفعل في مناطق أخرى”، لذلك تقتصر الأرقام المتوفرة على تبليغات الناجين للمنظمات الناشطة في مجال الهجرة، “أصدقاء المتوفين هم من أبلغونا بالمأساة”، تقول لـ”هوامش”، الناشطة في شؤون الهجرة، سيلفيا ماراوني.
ووفق تقرير المنظمة الدولية للهجرة، الذي رصد وفيات الهجرة عبر العالم، فإنه منذ سنة 2014، وهو العام الذي بدأ فيه توثيق الوفيات، إلى دجنبر 2022، “توفي 702 من المغاربة في طريق الهجرة”، وبهذا يحل المغرب في الرتبة السادسة عالميا ضمن أكثر البلدان التي توفي مواطنوها في محاولة للهجرة.
ولتجنب هذه المخاطر، هناك بديل آخر للهجرة غير النظامية؛ بالسفر من المغرب إلى تركيا، وهو أمر سهل نسبيًا بالطائرة، ومن الأراضي التركية إلى جزيرة ليسبوس، وهي واحدة من أكثر الطرق شهرة للوصول إلى أوروبا في السنوات الأخيرة، لكنها بدورها تسجل العديد من حالات الغرق.
يقول برونو ألفاريز، المؤسس والمتطوع في المنظمة غير الحكومية “No Name Kitchen”، إنه في السنوات الأخيرة كان يقدم خدمات للاجئين والمهاجرين المحاصرين في البلقان أمام الحدود الأوروبية المغلقة، وقد لاحظ أن عدد الأشخاص “القادمين من الجزائر والمغرب في تصاعد”.
وأوضحت وكالة حماية الحدود الأوروبية “فرونتكس” في تقرير لها، صدر السنة الماضية، حول رصد طرق الهجرة إلى دول الاتحاد ونسب المهاجرين الذين يعبرون كل منها، أن طريق غرب البلقان “استحوذت على الزيادة الأكبر في نسب المهاجرين العابرين في 2022”.
الوكالة الأوروبية قالت إنه خلال الأشهر الستة الأولى من العام الماضي، عبر أكثر من 55 ألفا تلك الطريق، أي ما يعادل زيادة بنسبة ثلاثة أضعاف مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي.
وأفادت الوكالة، منتصف غشت من السنة الماضية، أن هذه الطريق “حاليا هي أكثر طرق الهجرة إلى الاتحاد الأوروبي نشاطا”.
عنصرية ورفض: “المغاربة.. لم لا يبقون في بلادهم؟”
حقيقة أن المهاجرين من المغرب، لا يأتون من بلد في حالة حرب؛ تشكل أحد عوامل الرفض من طرف سكان مناطق البلقان. يتذكر أحد المهاجرين المغاربة الذين تحدثوا إلينا حين صاحت في وجهه سيدة بصوت عالٍ في سوبر ماركت بمدينة فيليكا كلادوسا على الحدود البوسنية “السوريون والعراقيون، أفهم لم هم هنا، لكن المغاربة لماذا لا يبقون في بلادهم”.
هذه المدينة الحدودية، شهدت منذ فبراير 2018 مرور آلاف الأشخاص؛ خلال سعيهم لعبور الحدود إلى إحدى الدول الأوروبية حيث يمكنهم طلب اللجوء أو بدء حياة جديدة.
نبيل، شاب مغربي، يبلغ من العمر 29 عامًا، درس الهندسة ويتحدث الفرنسية بطلاقة، يحلم بالوصول إلى باريس، مدينة الأنوار؛ ليتمكن من تطوير مسيرته المهنية هناك، “لو وجدت في بلادي حياة كريمة لأغنتني عن سماع هذا الكلام، وعن تكبد هذا العناء”.
تحدثنا أيضًا إلى علي، شاب مغربي يبلغ من العمر 22 عامًا؛ يتحدث ثلاث لغات أوروبية، تعلمها من خلال مشاهدة الأفلام والاستماع إلى الموسيقى، لم يكن يفوت المظاهرات التي شهدتها مدينة الدار البيضاء، منذ أن كان مراهقًا.
سئم الشاب من واقع “البطالة ومضايقات الشرطة التي تكررت زياراتها لمنزل الأسرة”، حسب قوله، “خفت من أن ينتهي بي المطاف في السجن بسبب نشاطي وأفكاري، فقد صار من السهل أن يسجن النشطاء بالمغرب، لذلك غادرت”.
فكر الشاب، ثم قرر الهجرة إلى فرنسا، “للعمل في أي شيء مهما كان، حتى أتمكن من توفير المال لدفع تكاليف حياتي ومساعدة عائلتي” يقول علي.
ويضيف محدثنا “أنا متعلق بعائلتي للغاية، خصوصًا أمي”، لذلك يقضي ساعات طويلة من اليوم في التحدث إلى والديه وإخوته، أو متابعة الوضع في بلاده عبر وسائل التواصل الاجتماعي أو المواقع الإخبارية.
يعيش علي الآن في مصنع مهجور، تحول إلى مخيم للمهاجرين، على بعد بضعة كيلومترات من الاتحاد الأوروبي، تحديدًا في حدود سلوفينيا.
وفي محاولته الأخيرة للوصول إلى وجهته، يقول، “تعرضت للضرب على أيدي الشرطة الكرواتية، اعتداءات لا تزال ندوبها على جسدي”.
في تلك المحاولة التي أقدم عليها من سلوفينيا، غرق أحد شباب المجموعة التي كان يسافر ضمنها، “فقد حياته في أحد الأنهار” يقول علي.
بعد الإبلاغ عن الحادث، يضيف المتحدث لـ”هوامش” ؛ “تم ترحيل بقية المجموعة بشكل غير قانوني إلى كرواتيا، ومن هناك إلى البوسنة”، وتلك ممارسة شائعة تندد بها العديد من المنظمات التي تبلغ عن هذه الحالات.
سالم، صحراوي من مدينة العيون، يبلغ من العمر 24 عامًا، أحرق العلم المغربي سنة 2017، وقام أصدقاؤه بتصويره “انتشر الفيديو على نطاق واسع”، فاضطر وفق قوله “إلى الهروب بعدما علمت أن الشرطة كانت تبحث عني”.
أما سعيد، وهو أيضًا شاب درس الهندسة ويحلم بفرنسا، يشرح عبر الهاتف لـ”هوامش” لماذا يختار آلاف الشباب مثله رحلة البلقان من أجل الوصول إلى الاتحاد الأوروبي؛ “في البحر هناك احتمالان؛ إما الموت غرقا، أو الوصول إلى أوروبا”.
ويضيف أن الطريق إلى البلقان “طويل ومتعب، ولا تعرف متى ستصل، إننا نخاطر بأنفسنا بالتعرض للضرب، ولكن خطر الموت هنا أقل منه على متن القوارب”.
المقامرة البلقانية
في اليونان، يتم احتجاز المهاجرين المغاربة فيما يسمى بـ”مراكز المراقبة”، وهو تلطيف لما هو في الواقع سجن، حسب توصيف المنظمات غير الحكومية الناشطة في مجال الهجرة.
ومن فرنسا، يوضح لـ”هوامش” حسين، الذي عاش أسوأ لحظات حياته خلال فترة سجنه التي استمرت ستة أشهر في جزيرة ليسبوس اليونانية عام 2019، “نحن لسنا قادمين من بلد يشهد حربا، لذلك عندما كنا في اليونان بدون وثائق، تم اعتقالنا”.
وبعد أشهر من مغادرته المغرب، انتقل من بلاده يحمل شهادةً جامعية في القانون إلى “السجن”، حسب وصفه هو لـ”مركز المراقبة” الذي أقام فيه.
كان حسين، الشاب الريفي المنحدر من الحسيمة؛ واحدًا من آلاف الريفيين الذين شاركوا في المظاهرات الشهيرة، عقب مقتل بائع السمك “محسن فكري”، إبان ما عرف بـ”حراك الريف”، لكنه خشية “الاعتقال غادرت البلاد على غرار عدد كبير من أبناء الريف” حسب تعبيره.
من تركيا اتجه حسين إلى اليونان، حيث قضى ستة أشهر في ليسبوس، وتربص عدة أسابيع أمام ميناء هذه الجزيرة في انتظار الفرصة، تسلل بعدها إلى شاحنة كانت متوقفة على متن عبارة نقلته من تلك الجزيرة إلى البر الرئيسي.
غادر الشاب اليونان في تلك الشاحنة إلى ألبانيا ومنها إلى الجبل الأسود، تقريبًا سيرًا على الأقدام، وعندما وصل إلى البوسنة في ربيع عام 2019، كان في ذات الوقت مئات من اللاجئين يتوافدون على البلد المجاور للاتحاد الأوروبي، حينها اتجه حسين إلى فيليكا كلادوسا، وهي بلدة معروفة بمحاولات المهاجرين التي لا حصر لها لعبور الحدود إلى إيطاليا.
“لم تكن المحاولات تمر بسلام، أذكر أحد صباحات يوليوز 2019، بينما كنت مع العديد من الأصدقاء في وسط الغابة لعبور آخر الحدود مع الاتحاد الأوروبي، عدت بكدمات عديدة”، كانت تلك الكدمات آثارًا لـ”وحشية شرطة الحدود” كما ينعتها.
هذه المغامرة وصفها لنا حسين بأنها مقامرة، “عليك المشي متخفيا بين الجبال لمدة أسبوعين، في رحلة محفوفة بالخطر أثناء عبور الغابات، المشي في الليل والاختباء في النهار، للوصول إلى إيطاليا، بحيث عليك عبور كرواتيا وسلوفينيا كي تتفادى العودة القسرية”، يوضح الشاب.
يتذكر الشاب أثناء حديثه إلينا حين أوقفهم رجال الشرطة الكرواتية، “قبل ترحيلنا إلى البوسنة، ضربونا ضربا مبرحا وموجعا”.
هؤلاء المهاجرون، المغامرون بأنفسهم والمقامرون بأرواحهم، يصل الكثير منهم إلى هذه الحدود الأخيرة، بين البلقان وأوروبا؛ بعد استنفاذ الموارد القانونية للهجرة أو طلبات الحصول على اللجوء.
وعلى عكس مهاجري دول أخرى كسوريا وأفغانستان؛ الذين يعبرون بوابات البلقان نحو الاتحاد الأوروبي، نادرًا ما يستطيع المواطنون المغاربة الحصول على الحماية الدولية واللجوء، حتى لو كانوا “فارين من الاضطهاد” حسب قولهم، لأن بلادهم ليست في حالة حرب. لذلك، كما هو حال حسن، عندما يصلون إلى أوروبا، يعملون بشكل غير نظامي ويعيشون في خوف دائم من الترحيل.
وسجل عدد طلبات اللجوء المقدمة من طرف المغاربة في دول الإتحاد الأوروبي ارتفاعا قياسيا خلال العام الماضي، حيث “بلغ أزيد من 21 ألف طلب”، بحسب معطيات وكالة اللجوء الأوروبية.
ومن إجمالي الطلبات البالغ عددها 21 ألفا و166، مُنح 500 مغربي “صفة لاجئ” و52 آخر صفة “حماية فرعية”، وهو شكل آخر من أشكال الحماية الدولية تمنح للأشخاص الذين لا يمكنهم العودة إلى بلدانهم، فيما تم “رفض قبول طلبات أزيد من 10 آلاف شخص”، ولم تصدر أية قرارات بعد بشأن ملفات باقي المتقدمين، حسب ذات الوكالة.
الاستحمام القاتل
في عز جائحة كوفيد-19، وتحديدًا يوم 13 ماي 2020، بمدينة فليكا كلادوشا الواقعة في أقصى الشمال الغربي من البوسنة والهرسك، بالقرب من الحدود مع كرواتيا؛ أراد الشاب أحمد، مغربي كان يبلغ حينها من العمر 28 عامًا، دخول مخيم اللاجئين الرسمي للاستحمام، دون التوفر على بطاقة للدخول.
تحكي لـ “هوامش” آلبا دييث، متطوعة إسبانية في منظمة “No Name Kitchen”، ما حدث “كانت كل الأماكن مغلقة بما في ذلك مخيمات اللاجئين، ومنع دخول وخروج الناس، وكان هو يعيش خارج المخيم وليس لديه ماء للاستحمام، حاول أحمد عبور سياج المخيم، فتوفي اختناقا بين قضيبين في محاولته تلك”.
تتذكر آلبا الشاب المغربي أحمد، وتعبر عن حزنها للمصير الذي قاده إلى فيليكا كلادوشا، في رحلة الوصول إلى أحلامه، “لقد أخذه الموت بعيدًا عن فيليكا كلادوشا، بعيدا عن البؤس الذي كان يعيش فيه منذ عدة أشهر”، تقول المتطوعة.
“عرفناه عن قرب، كان لطيفا جدا، لقد أمضينا ساعات نناقش حياتنا خارج فيليكا كلادوشا، وتحدثنا عن مشاعرنا وأفكارنا وأحلامنا في الحياة، لن أنسى القوة والأمل الذين كان يتمتع بهما”، تضيف آلبا كما لو أنها ترسم بورتريه لأحمد.
في شهادتها عن هذه الوفاة المأساوية، وكيف يمكن أن يدفع المرء روحه ثمنا للاستحمام، تنتقد الناشطة وضع المهاجرين في تلك المنطقة، “كم عدد الوفيات التي سيستغرقها الأمر لإحداث تغيير؟، نريد تغيير الوضع وإيقاظ الضمائر، فوفاة أحمد كانت ثمنًا للبحث عن الكرامة، والبحث عن العيش كإنسان… لقد أراد فقط الاستحمام، ولكن العدل لا مكان له في هذه المنطقة”.
العودة السريعة: نفاق أوروبا
الترحيل من دول الإتحاد الأوروبي، والعودة السريعة من حدوده، أشياء تقض مضاجع المهاجرين، “وتظهر الوجه الحقيقي لدول طالما تغنت بحقوق الإنسان، ولكنها تغض الطرف عنها حين يكون هذا الإنسان غير مرحبٍ به” حسب رأي يجمع عليه حقوقيون استشارتهم “هوامش” أثناء إعداد هذا التحقيق.
فعندما اندلعت الحرب الروسية الأوكرانية ودارت رحاها قاذفةً بمواطنين أوكرانين قسرًا إلى اللجوء والمنفى، وافقت العديد من دول الاتحاد الأوروبي على استقبال العديد منهم، فتحت أبوابها لهم على مصراعيها، بينما بالتوازي واصلت سياسة الرفض والإغلاق في وجه المهاجرين غير الأوروبيين، خصوصًا العرب والأفارقة، و”أولائك الذين لا عيون زرقاء لهم، وبشرتهم ليست صهباءً أو بيضاء” وفق تعبير الخبيرة في الهجرة هيلينا مالينو.
وثق تقرير صادر عن اليسار في البرلمان الأوروبي، في نهاية العام الماضي؛ إعادة 25 ألف مهاجر بطرق قسرية وعنيفة من عند حدود الاتحاد الأوروبي.
وأصدرت المجموعة البرلمانية اليسارية، منتصف دجنبر 2022، تقريرا يتكون من أكثر من 3000 صفحة، توزعت على أربعة مجلدات، تحت عنوان “كتاب العودة الأسود”، يسجل “العنف المنهجي الذي يحدث على حدود أوروبا”.
التقرير الذي اطلعت عليه “هوامش” أعده؛ حزب اليسار الإسباني “بوديموس” والحزب اليساري “فرنسا الأبية”، والحزب اليساري الألماني “دي لينكه”، وتحالف اليسار الراديكالي “سيريزا” اليوناني؛ ويضم أكثر من ألف شهادة لأشخاص عابرين تم جمعها من قبل خبراء مستقلين من شبكة مراقبة العنف على الحدود (BVMN).
ويوثق التقرير كيف تعرض ما يقرب من 25 ألف شخص لـ”لضرب والركل والإهانة والاعتقال التعسفي قبل طردهم بشكل غير قانوني”، سواء على الحدود الخارجية للاتحاد الأوروبي أو من داخل أراضي الدول الأعضاء فيه.
التعذيب والإذلال
في المجموع، يتضمن “كتاب العودة الأسود” 1635 شهادة تتعلق بـ 24 ألفا و990 شخصا، عبروا من 15 دولة، هي النمسا، وإيطاليا، واليونان، وسلوفينيا، وكرواتيا، وبولندا، والمجر، ورومانيا، وصربيا، والبوسنة والهرسك، والجبل الأسود، وكوسوفو، وبلغاريا، ومقدونيا الشمالية، وألبانيا.
ويقول التقرير، إن “العدد الهائل من الرعب الموثق في هذه المجلدات لا يترك مجالًا للشك في الطبيعة المنهجية لعمليات الصّد على حدود أوروبا”. ويضيف التقرير أن “التعذيب والإذلال لا ينموان باطراد فحسب، بل تم التطبيع معهما أيضًا”.
وعلى الرغم من أن المفوضية الأوروبية تسعى للتوصل إلى اتفاق بشأن “ميثاق الهجرة واللجوء”، حتى بغض النظر عن انتهاكات الحقوق، فإنها “تفشل في أداء واجبها كوصي على المعاهدات”، يوضح التقرير.
وفي هذا السياق، يضيف التقرير، تظهر الأدلة “المتزايدة بوضوح أن القضية القانونية التي يتعين على اللجنة الأوروبية للهجرة، اتخاذ إجراء التعدي فيها، واضحة جدًا”.
“الإعادة القسرية غير قانونية بموجب القانون الدولي، لكن السلطات في الدول الأعضاء تجاهلت منذ فترة طويلة انتهاكات حقوق الإنسان التي تتعارض مع الالتزامات الدولية للاتحاد الأوروبي”، تؤكد مجموعة أحزاب اليسار الأوروبية.
وأشارت هذه الأحزاب إلى أن “الكتاب الأسود”، يحتوي فقط على الشهادات التي سجلت، وربما يكون العدد الحقيقي للأشخاص الذين تم إرجاعهم وتعرضوا للعنف على الحدود أعلى من ذلك بكثير”.
عنفٌ بشكل يومي وإفلات من العقاب
وقالت آنذاك، في تصريح صحفي، كورنيليا إرنست، عضوة البرلمان الأوروبي من اليسار الألماني (دي لينكه)، عن التقرير، أنه “يظهر بوضوح العنف الذي لا يزال يتعرض له بشكل يومي النساء والرجال والأطفال أثناء التنقل على الحدود الخارجية والداخلية للاتحاد الأوروبي”.
وأشارت إرنست إلى أن المفوضية الأوروبية “تظل غير نشطة ولا تفتح إجراءات انتهاك ضد الدول الأعضاء التي ترتكب عمليات صد للمهاجرين، وتحرمهم من حق اللجوء، بينما تواصل فرونتكس-الوكالة الأوروبية لحرس الحدود والسواحل- عملها في اليونان، على الرغم من أن تواطأها في انتهاكات حقوق الإنسان ليس سرًا”.
وأضافت إرنست “نرى أن حق اللجوء يتعرض لهجوم خطير، فالاتحاد الأوروبي يمول المزيد والمزيد من قوات الحدود، التي تقوم بارتكاب أعمال عنف، وتقوم دول أعضاء مثل بولندا وليتوانيا ولاتفيا بتبني قوانين تهدف إلى إضفاء الشرعية على عمليات العودة، وتشريعات تنتهك القانون الأوروبي والقانون الدولي”.
وأوضح هوب باركر، المؤلف المشارك في “كتاب العودة الأسود”، وكبير محللي السياسات في شبكة مراقبة العنف على الحدود، أنه “في عام 2020، نشرنا أول كتاب أسود، مع أكثر من 900 شهادة، ودعونا إلى وضع حد لثقافة الإفلات من العقاب المتعلقة بانتهاكات حقوق الإنسان في أوروبا”.
وأضاف باركر “بعد ذلك بعامين، استمرت عمليات الإعادة غير القانونية بلا هوادة، على الرغم من عدد الأدلة المتزايد، وتسجيل مقاطع فيديو لمرتكبي هذه الجرائم، ومئات الشهادات الأخرى”.
وفي هذه النسخة الجديدة الموسعة والمحدثة من الكتاب الأسود “ننشر أكثر من 1600 شهادة، وهذا مجرد غيض من فيض، هناك مئات الآلاف من القصص التي لم نسمعها”، يوضح المحلل، مؤكدا أن شبكة مراقبة العنف على الحدود، “تطالب مرة أخرى بوضع حد لهذه الممارسة، ومحاسبة الجناة، واحترام حقوق الإنسان لجميع الناس”.
“حقوق الإنسان ليست للجميع”
من جانبها، قالت ميلينا زاجوفيتش، وهي أيضًا مؤلفة مشاركة في التقرير، بأن “المدافعين عن حقوق الإنسان والصحافيين وغيرهم ممن يعملون على توثيق عمليات العودة قد استُهدفوا بشكل متزايد من قبل حكومات اليونان وكرواتيا والمجر وإيطاليا، وهي البلدان التي تتصدر قائمة الجناة لدينا، حيث تأتي معظم التقارير عن العنف من حدودها”.
وأوضحت زاجوفيتش أنه ‘من بين 14 منظمة في شبكتنا، واجهت 8 منظمات على الأقل أشكالًا شديدة من الإساءة، وحملات التشهير، والمراقبة، والترهيب، وحتى الاعتداء على أفرادها، وكذلك وضع عقبات لعرقلة عملهم”.
وأشارت زاجوفيتش أنه خلال هذا العام، “اضطرت إحدى منظماتنا غير الحكومية إلى التوقف بسبب الضغوط على عملها في تركيا واليونان، واضطر بعض موظفينا، بمن فيهم مؤلفون لهذا الكتاب، إلى مغادرة بلدان إقامتهم لتجنب المزيد من الانتهاكات”.
“كل ما جاء في التقرير حقيقي، بل هناك ما هو أخطر من ذلك”، تؤكد لـ”هوامش” سارة كريتا، صحافية استقصائية إيطالية، متخصصة في قضايا الهجرة وانتهاكات حقوق الإنسان، وواحدة من الذين وثقوا خلال السنوات الأخيرة، الأوضاع على الأرض في حالات العودة القسرية وانتهاك حقوق الإنسان.
وتضيف كريتا في تصريحها “لقد قمت بتغطية انتهاكات حقوق الإنسان على طول حدود الاتحاد الأوروبي وأماكن أخرى لسنوات عديدة، وأستطيع القول أن ما وجدناه وصل إلى نقطةٍ جديدة من الانحدار الأوروبي”.
وتوضح كريتا لـ”هوامش”، “بعد هذه المرحلة التي وصلوا لها، لست متأكدةً مما يغضبني أكثر، هل هي قوات الحدود التي تمارس ذلك ضد الأبرياء، أم السياسيون المتمركزون في بروكسل، الذين ينظرون في الاتجاه الآخر، ويشجعون البلدان على التصرف بهذه الطريقة”.
وانتقدت المتحدثة الصمت والتواطؤ الأوروبي الذي “يرى أن الإنسان المهاجر عالة عليه، ومن الطبيعي أن يرفض أو يترك للموت على الحدود في النهاية، هذا يظهر أن حقوق الإنسان ليست للجميع، بل هي امتيازات للبعض”.
النفاق الأوروبي
في قراءة حقوقية للتقرير، يرى الخبير الدولي في حقوق الإنسان، عزيز إدامين، أنه يجب تسليط الضوء على “النفاق الأوروبيين تجاه المهاجرين، خاصة القادمين من إفريقيا وسوريا، حيث تتناقض شعاراتهم والتزاماتهم الدولية مع الممارسة الميدانية، وتجلى ذلك بوضوح بعد الحرب الروسية الأوكرانية، حيث لاحظ الجميع كيف تم استقبال الوافدين من أوكرانيا بنوع التعبئة العامة وتوفير كل الإمكانات القانونية واللوجيستيكية لهم، بل إن الإعلام أصبح يتحدث عن تفوق -الإنسان الأبيض- على باقي الأجناس البشرية الأخرى”.
وقال إدامين، في تصريح لـ “هوامش”، “إذا كان تعامل الغرب مع الأوكرانيين جيدا فيجب أن يعمم بنفس الطريقة وبنفس المقاربة على باقي المهاجرين، بغض النظر عن لونهم أو أصلهم أو دينهم أو مذهبهم”.
وأوضح المتحدث لـ”هوامش”، أن التقرير يؤكد “ظاهرة ترسخت بشكل كبير وتتعلق بانتهاكات حقوق المهاجرين وطالبي اللجوء، وإن كان التقرير شمل فقط 15 دولة، إلا أن هذه الظاهرة منتشرة في كل مناطق العالم التي تعرف بأنها مناطق عبور للمهاجرين أو مناطق استقبال”.
وأكد إدامين أن “المنتظم الدولي سواء عبر الهيئات الحكومية كالأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي أو المنظمات غير الحكومية؛ نبهوا مرارا لسوء المعاملة والاعتقال التعسفي والطرد الجماعي والإعادة القسرية للمهاجرين، وكل هذه الانتهاكات محظورة بموجب القانون الدولي”.
الاتحاد صامت ويواصل إرسال الأموال للسيطرة على الحدود
اجتمع المجلس الأوروبي، يومي 23 و24 مارس 2023، لاتخاذ قرارات بشأن عدة قضايا، بما في ذلك الهجرة وإدارة حدود الاتحاد الأوروبي.
وفي هذا السياق تم تسريب رسالة مفادها أن رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، وجهتها إلى الدول الأعضاء، تعلن فيها عن خطة “إرسال 600 مليون يورو إضافية إلى الدول الحدودية”، من بينها بلغاريا وتركيا.
“هذه الأخبار محبطة”، تقول منظمة “No Name Kitchen”، في تقرير لها، حصلت “هوامش” على نسخة منه، مضيفةً أنها منذ عام 2017، عندما بدأت العمل في البلقان، “وآلاف المهاجرين يصفون مرورهم عبر بلغاريا بأنه مكان للإرهاب، بسبب الضرب الذي تعرضوا له من طرف الشرطة البلغارية لمنعهم من الدخول أو عبور البلاد، وحرمانهم من حقوقهم عندما يقررون طلب اللجوء”.
وأشار التقرير إلى أن “بلغاريا دولة عضو في الاتحاد الأوروبي منذ عام 2007، وما نشاركه هنا هو المعلومات التي ندينها علنًا منذ عام 2017، لذلك يعلم أعضاء البرلمان الأوروبي ودول الاتحاد الأوروبي أن هذا يحدث”.
وقالت المنظمة في تقريرها “إنهم ينظرون إلى الاتجاه الآخر فقط، والآن يعتزمون إرسال ملايين اليوروهات لإبعاد الناس عن الحدود، حتى لو كان ذلك يعني التعذيب والمخالفات والمعاناة”.
وبالإضافة إلى القصص التي يرويها مهاجرون للمنظمة تقول أنها تلتقي “بهم كل يوم في صربيا” (المهاجرون عندما يتمكنون من الخروج من بلغاريا يتوجهون إلى صربيا وجهتهم التالية)، زارت منظمة “No Name Kitchen” بلغاريا وتحدث إلى منظمات مختلفة وأشخاص يعرفون الوضع مباشرة.
وأكدت في تقريرها على أن “الظروف في المخيمات الرسمية لاستقبال المهاجرين رهيبة”، يشرح الأشخاص المطلعون على الوضع أنه لا توجد مساعدة طبية ويسلطون الضوء على نقص النظافة؛ الجرب شائع في الأسرة التي يتم إعدادها وينتقل من شخص إلى آخر”.
ويضيف التقرير نقلًا عن “الأشخاص الذين قابلناهم” هناك العديد من حالات الأشخاص “الذين أعيدوا إلى تركيا بشكل غير قانوني وتعسفي أثناء إقامتهم في مخيم رسمي بعد تقديم طلب اللجوء، وبموجب القانون، في الاتحاد الأوروبي، عندما يطلب شخص اللجوء، تكون معالجة هذا الطلب إلزامية، فمن غير القانوني إعادة الناس إلى بلدان ثالثة في حالة ساخنة”.
ويضيف التقرير، أن العديد من الشهادات التي تم جمعها من أشخاص يتحدثون عن عنف من قبل الشرطة البلغارية، وسرقة ملابسهم وأموالهم وهواتفهم “في الواقع، No Name Kitchen موجود في صربيا ودائمًا ما يخبرنا الناس أنه ليس لديهم هاتف لأن الشرطة سرقته في بلغاريا، وهي دولة قبل صربيا في الطريق”.
“في فبراير الماضي، تم العثور على شاحنة بداخلها جثث 18 شخصًا مختنقين، إذ يخاطر الناس بحياتهم لأنه لا توجد طرق آمنة لطلب اللجوء… وعندما يطلبون اللجوء في بلد أوروبي مثل بلغاريا، فإن هذا الحق يُحرمون منه؛ وفي دجنبر 2022 نُشر على الملأ مقطع فيديو يظهر ضابط شرطة من هذا البلد يطلق النار على شخص من سوريا”.
ولكن مع كل هذه الأدلة المطروحة على الطاولة، “فإن الاتحاد الأوروبي لا يزال صامتا ويواصل إرسال الأموال إلى حكومة صوفيا”، تؤكد المنظمة الحقوقية في نهاية تقريرها.
أعد هذا التحقيق بمساعدة متطوعين من منظمة “No Name Kitchen” غير الحكومية، العاملة في مجال الهجرة.