الرئيسية

أزمة المَاء في المغرب.. سُوء تدبير لمحنة عَطش في الأفق

بينما يقترب فصل الصيف، يستعد المغاربة لسنة جفاف جديدة، وسط نقص حاد في الموارد المائية، إضافة إلى سوء تدبير القطاع من طرف الدولة. وفي الوقت الذي ترأس فيه الملك محمد السادس، يوم الثلاثاء 9 ماي الجاري، جلسة ثالثة للبحث في موضوع أزمة المياه بالمغرب، والتي أعلن فيها تخصيص 143 مليار درهم لتسريع البرنامج الوطني للتزود بالماء الصالح للشرب ومياه السقي 2020-2027، تقدم هوامش تشخيصا مخيفا للوضعية المائية في المغرب.

عماد استيتو

أوصت لجنة النموذج التنموي المعينة من طرف الملك، في تقريرها النهائي، الصادر في أبريل 2021، بالاستعمال الأمثل للموارد المائية من خلال توسيع المساحات المسقية لصالح الزراعات التي تساهم في ضمان الأمن الغذائي الوطني، وبالحرص على أن تضمن الزراعات التصديرية تثمين الماء، أخذا بعين الاعتبار كلفته المباشرة وغير المباشرة بالنسبة للدولة والمجتمع.

المخططات الفلاحية الكبرى .. الحفاظ على الماء آخر الاهتمامات

في توصية اللجنة، الصادرة قبل سنوات، اعتراف واضح بعدم تناسق الاستراتيجيات والمخططات الكبرى لوزارة الفلاحة مع حقيقة أزمة الماء في المغرب؛ بل إن هذه الخطط والاستثمارات الحكومية في قطاع الفلاحة ليست متجانسة على الإطلاق مع ما ينص عليه قانون الماء، ولا تأخذ بعين الاعتبار “شرط الضمان المستدام للمياه”، وفق تقرير صادر مؤخرا عن مجموعة من الخبراء.

وهو الرأي الذي سار عليه المجلس الوطني لحقوق الإنسان، في مذكرة صدرت مؤخرا، حيث شدد على ضرورة إقرار سياسات مائية مستدامة، تقوم على أولوية ضمان الحق في الغذاء لكل المغاربة وللأجيال القادمة، وبالتالي إعادة توجيه استراتيجي للفلاحة المغربية نحو الزراعات الحيوية الضرورية، لتحقيق الاكتفاء الذاتي من جهة، واستحداث زراعات موجهة للتصدير، قابلة للتكيف مع الإكراهات المتزايدة التي تفرضها الظواهر الناجمة عن التغير المناخي.

ساهمت الاستراتيجية الزراعية المعتمدة منذ سنة 2008، وعلى رأسها المخطط الأخضر، في توسيع المساحات المسقية لصالح الزراعات ذات قيمة مضافة أعلى، لكن الزراعات المطرية تبقى الغالبة من حيث المساحة المزروعة، وهي متأثرة بتقلبات سقوط الأمطار، وعلى رأسها زراعة الحبوب.

تعتبر الزراعات الموجهة للتصدير أكثر هدرا للماء، مقارنة بالاستغلاليات الصغرى للفلاحين الصغار التي توجه منتجاتها للأسواق الداخلية. “العائدات المالية لهذه المزروعات لا تعادل بأي حال من الأحوال القيمة الحقيقية لتكلفتها المائية”، يؤكد المجلس الوطني لحقوق الإنسان.

تستهلك الفلاحة أزيد من 80 % من الموارد المائية في المغرب، وعلى عكس الاعتقاد السائد فإن تعميم تقنيات الاقتصاد المائي، وإدخال تقنيات الري الحديثة، كما شجعت على ذلك الاستراتيجية الفلاحية، لم تساهم في تخفيف الضغط على الموارد المائية، وبحسب تقرير للبنك الدولي، صادر سنة 2022، فإن الرفع من إنتاجية الماء، وإن ساهم في الرفع من الإنتاج الزراعي، إلا أنه فشل في تحقيق الهدف الثاني، وهو الحفاظ على الموارد المائية النادرة في البلاد، حيث ساهم استعمال التقنيات الحديثة في الرفع من كمية المياه المستهلكة في القطاع الزراعي، عوض الخفض منها.

وكنتيجة مباشرة لهذا الوضع، لوحظ ارتفاع الاستغلال المفرط للمياه الجوفية، وهي نتيجة جد مقلقة بالنظر إلى الدور الكبير والتقليدي التي تلعبه المياه الجوفية في امتصاص الصدمات المناخية.

هذا النموذج القائم على مركزية الفلاحة في الخطط الاقتصادية للدولة يحتاج إلى مراجعة، بحسب ما توصل إليه المجلس الوطني لحقوق الإنسان، خصوصا أن التغيرات المناخية “أصبحت تؤثر بشكل واضح على بعض المنتوجات الفلاحية الوطنية، ويتجلى ذلك في التراجع المستمر للتساقطات في المناطق الصالحة للزراعة (سهل سايس، سوس والشاوية)، ففي سوس مثلا لوحظ الاستعمال المفرط للمياه الجوفية للسقي الزراعي بسبب توالي سنوات الجفاف”.

لذلك، يوصي المجلس بتقييم الكلفة المائية للنموذج التنموي القائم على الفلاحة كقطاع تصديري وتشغيلي، والعمل على تنويع النشاط الاقتصادي، عبر دعم القطاعات الأقل استهلاكا للماء.

أرقام ووضعية مخيفة

تقدر الاحتياطات المائية في المغرب، حسب الأرقام الحكومية الرسمية، بحوالي 22 مليار متر مكعب (47 مليار مكعب سنة 1961)، من بينها 4 مليارات متر مكعب من المياه الجوفية، و 18 مليار متر مكعب من المياه السطحية. غير أن خبراء يعتبرون أن الأرقام الرسمية المعلنة لم تحيّن منذ مدة طويلة ولا تمثل حقيقة الوضع المتسم بتراجع هذه الموارد. ويقدر خبراء أن متوسط حجم الموارد المائية السطحية، في العقد الأخير، لم يتجاوز 15 مليار متر مكعب في أفضل الحالات، عوض 18 مليار المقدرة.

ويتميز توزيع الاحتياطي المائي بنوع من عدم العدالة مجاليا، حيث تتركز 51 % من هذه الاحتياطات المائية في 7 بالمئة فقط من مساحة البلاد (النصف الشمالي)، وتحديدا في منطقتي اللوكوس وحوض سبو.

ويتوفر المغرب على 149 سدا، تبلغ قدرتها التخزينية 19 مليار متر مكعب سنويا، وتطمح الحكومة إلى رفع هذه القدرة إلى 24 مليار متر مكعب سنويا، بإضافة 20 سدا جديدا، تم بالفعل الشروع في بناء البعض منها.

وبلغ حجم الواردات  المائية بمجموع سدود المملكة، إلى حدود الأسبوع الأول من شهر فبراير من سنة 2023، حوالي 2.15 مليار متر مكعب، حسب إفادة لنزار بركة وزير التجهيز والماء، في جلسة رسمية للأسئلة الشفهية عقدها البرلمان المغربي، وكان حجم هذه الواردات إلى حدود نونبر من السنة الماضية -قبيل تحسن وضع التساقطات- لا يتجاوز 1.98 مليار متر مكعب، وهو أقل رقم للواردات المائية خلال القرن الأخير.

ووصلت نسبة الملء الإجمالي للسدود حسب أرقام حكومية إلى 33.3 %، إلى غاية 27 أبريل من السنة الحالية، مقابل 34.3 % خلال الفترة نفسها من السنة الماضية، وكانت نسبة الملء الإجمالي لا تتجاوز 31.4 % عند نهاية سنة 2022.

وبلغ مخزون المياه بحقينة السدود المغربية، في التاريخ نفسه (27/4/2023)، 5.36 مليار متر مكعب، مقابل 5.53 مليار متر مكعب خلال الفترة نفسها من السنة الماضية.

التقدم الطفيف الذي عرفته الأرقام، خلال الأشهر الماضية، يفسره تحسن التساقطات المطرية في المغرب خلال هذه الفترة، حيث قدرت نسبة التحسن بحوالي 96 % في الفترة الممتدة بين شتنبر وفبراير، وبلغ مجموع المعدل الوطني 75,9 ملم عوض 38,8 ملم في الفترة ذاتها من السنة المنصرمة، أي بفائض نسبته 95,6 في المائة.

غير أن هذا التقدم الطفيف سرعان ما تراجع بتوقف التساقطات، مما يعزز المخاوف بخصوص الأزمة المائية الخانقة التي تهدد المغرب، حيث يتوقع أن يفقد المغرب حوالي 30 % من الواردات المائية بحلول سنة 2030، ويتوقع أن يبلغ العجز حوالي 5 مليارات متر مكعب، خلال نفس الفترة (يبلغ حاليا 2 مليار متر مكعب)، على أن يبلغ عتبة 7 مليارات متر مكعب سنة 2050، بحسب تقديرات  “الكتاب الأبيض حول الماء”، والذي أنجزه ثلة من الخبراء في المدرسة الوطنية للبيطرة والزراعة.

وتعاني جل السدود من ظاهرة التوحل، بسبب الجفاف والفيضانات، والضغط على المجال الغابوي والنباتي. وتُفقد هذه الظاهرة السدود المغربية 70 مليون متر مكعب من سعتها كل سنة، وسجلت هذه الظاهرة الطبيعية بشكل رئيسي في سدود محمد الخامس، ومشرع حمادي، ومحمد بن عبد الكريم الخطابي، وللا تكركوست والنخلة، حيث يمنع التوحل استفادة السدود من مياه التساقطات المطرية والثلجية، رغم اكتمال امتلائها.

وعاش المغرب خلال الفترة الممتدة من سنة 2018 إلى 2022 أشد الفترات جفافا على الإطلاق، وكانت سنة 2022، حسب الوزير نزار بركة، أكثر السنوات جفافا منذ سنة 1945، وسجل خلال هذه الفترة أدنى إجمالي واردات خلال سنوات، حيث لم يتجاوز 17 مليار متر مكعب.

كما أن الوضع المائي في المغرب يعاني من توزيع بنيوي غير متوازن بين الأحواض المائية، من حيث الإمدادات السنوية بالمياه. واعتبر تقرير للمجلس الأعلى للحسابات، صدر سنة 2022، أن “المخطط الوطني لتهيئة الأحواض المائية لم يتمكن من وقف سوى 50 في المائة من عملية التوحل، في الفترة الممتدة من 1996 إلى 2016”.

علاوة على ذلك، تشير المعطيات المتوفرة إلى تراجع مخيف للمياه الجوفية، خلال السنوات الأخيرة، نتيجة الاستغلال المفرط لها في السقي أو للتزود بماء الشرب، حيث سجل انخفاض مستوى الماء في الآبار إلى ما بين ثلاثة وسبعة أمتار، حسب أرقام وزارة التجهيز والماء.

ورغم أن المشرع منح لشرطة الماء صلاحية منع الاستغلال العشوائي للموارد المائية، وتحرير محاضر مخالفات، وسن عقوبات ضد المخالفين إداريا (سحب التراخيص)، وقضائيا ( السجن، الغرامة)، لكن تطبيقها لا يزال متعثرا، حيث يستمر حفر واستغلال الآبار بشكل غير قانوني.

وكان وزير التجهيز والماء قد أقر سابقا أن نسبة الآبار غير المرخصة تشكل 91 % من مجموع الآبار، مشيرا إلى أن حوض أم الربيع، على سبيل المثال، يعاني من سرقة أكثر من مليون متر مكعب في اليوم.

ولئن كانت السياسة المائية في المغرب تعتمد على الحفاظ على المياه الجوفية وعدم استعمالها، إلا في حالة التراجع الكبير للمياه السطحية، فإن استمرار استنزافها يزيد من استفحال حالة الإجهاد المائي.

وبينما كان نصيب الفرد من الماء في المغرب يتجاوز 2500 متر مكعب سنويا بعد استقلال البلاد، لم يعد يتجاوز اليوم 600 متر مكعب سنويا، أي أقل من الحد الأدنى للسلامة المائية المقدرة ب 1000 متر مكعب سنويا، الذي تحدده الأمم المتحدة، لكن هذه الحصة تشهد هي الأخرى تباينا صارخا بين المناطق، إذ يمكن أن تتجاوز الألف متر مكعب سنويا في بعض المناطق، بينما تقف في مناطق أخرى عند عتبة 100 متر مكعب سنويا للفرد.

ولا تعاني الموارد المائية في المغرب من الاستنزاف فحسب، بل إنها تتعرض للتلوث أيضا؛ حيث تشير التقديرات إلى أن 80% من الفرشة المائية ملوث، ويتوزع هذا التلوث بين ما يسببه الأفراد والنفايات المنزلية، وما تتسبب فيه الأنشطة الاقتصادية والصناعية المختلفة، ويقدر الخبراء، وفق تقدير المجلس الوطني لحقوق الإنسان، كلفة هذا التلوث ب 1.5% من الناتج الداخلي الخام المغربي سنويا.

ولا يتوفر المغرب سوى على 158 محطة لمعالجة المياه العادمة، وهو رقم ضعيف جدا، أخذا بعين الاعتبار ما يسببه النشاط البشري أو الاقتصادي من تلوث.

ويشكل ضعف الربط بشبكة الصرف الصحي عاملا آخر يعمق الإجهاد المائي، حيث تؤكد الأرقام الرسمية الصادرة عن المندوبية السامية للتخطيط هذا المعطى، وهو ما يهدد المياه الجوفية، وتبقى بالتالي مهددة بالتلوث بشكل مستمر.

وفيما يخص وضعية التزود بالماء الصالح للشرب، فقد اضطرت مدن كبرى مثل مراكش (جنوب) ووجدة (شرق) للجوء إلى المياه الجوفية لتلبية الحاجيات اليومية خلال السنة الماضية، وهي الحالة التي سبق وأن عاشتها مدينة أكادير قبل تشييد محطة لتحلية المياه.

وتشكل المياه السطحية 67% من الإنتاج الوطني من الماء الصالح للشرب، وتمثل الموارد الجوفية 30%، بينما لا تمثل مياه البحر المُحلّاة سوى 3%.

وأنتج المكتب الوطني للكهرباء والماء الصالح للشرب مليارين و35 مليون متر مكعب من الماء سنة 2022، وتتوقع المصادر الرسمية  ارتفاع الطلب على الماء بشكل لافت خلال السنوات القادمة، حيث يتوقع أن ينتقل من 1.7 مليار متر مكعب إلى 2.5 مليار متر مكعب سنة 2050.

وتقدر القدرة الانتاجية اليومية للمنشآت التابعة للمكتب الوطني الصالح للشرب، بأزيد من 6.7 مليون متر مكعب في اليوم، غير أن نسبة المياه المهدورة في قنوات التوزيع تناهز 30%، ويبلغ طول قنوات المياه في المغرب 90 ألف كيلومتر، حيث يمكن أن تصل المردودية بالنسبة إلى التوزيع إلى 76 بالمئة.

ولمواجهة هشاشة منظومة التزود بالماء، رفعت الحكومة من الغلاف المائي المخصص للبرنامج الوطني للتزويد بالماء الشروب ومياه السقي 2020-2027، من 115.4 مليار درهم إلى 150 مليار درهم، بعد إخضاعه لعملية مراجعة.

سوء إدارة للطلب

بصرف النظر عن حقيقة عدم توفر بيانات موثوقة ودقيقة لوضعية الماء في المغرب، بما يسمح بإجراء تشخيص شامل، نخلص من كل ما تقدم إلى أن الوضع العام للماء في المغرب متسم بنقص حاد في الموارد المائية، ما فتئ يتزايد خلال العقود الأخيرة، بسبب عوامل متعددة، على رأسها انخفاض الإمدادات والاستغلال المفرط للموارد غير المتجددة؛ لكن المشكل الرئيسي يبقى في الإدارة، ويمثله العجز الكبير في الحكامة، وعدم توافق السياسات والبرامج القطاعية مع التوافر الفعلي للمياه.

أمام هذا الوضع، يوصي البنك الدولي بضرورة دمج “الحلول الهندسية” والسياسات الفعالة لإدارة الطلب على المياه. فإذا كان المغرب قد اعتمد دائما على على استثمارات ضخمة في تخزين المياه والري، للتعامل مع أنماط هطول الأمطار الشديدة التباين، فإن تطوير البنية التحتية وحده ليس كافيا لمواجهة إشكالية ندرة المياه.

ويتفق رأي “الكتاب الأبيض حول الماء”، مع ما توصل إليه البنك الدولي، وخلص المشاركون في إنجازه إلى غياب شبه كامل لإدارة الطلب على المياه، بصرف النظر عن بعض الإجراءات الخجولة التي يتم اتخاذها في فترات ندرة المياه.

وتهدف الاستراتيجيات الوطنية لسد العجز الكلي، في أفق سنة 2050، إلى زيادة العرض من خلال تعبئة حجم إضافي يقدر بـ 3 مليارات متر مكعب في السنة من السدود، بالإضافة إلى 1.5 مليار متر مكعب من المياه غير التقليدية، مع تقليل الطلب بمقدار 2.5 مليار متر مكعب في السنة، لكن هذه الخطط ليست واقعية.

“في الواقع، وبصرف النظر عن السدود البديلة للسدود القديمة والمليئة بالوحل، والسدود المخطط لها في الأحواض ذات الرصيد المائي الزائد في الشمال، يمكن التساؤل عن الأحجام الإضافية التي يمكن أن تجلبها السدود الجديدة المخطط لها في أحواض الوسط والجنوب، علما أن الموارد المائية السطحية في هذه الأحواض هي في الواقع معبأة إلى حد كبير، فضلا عن تناقص الموارد المائية بسبب تغير المناخ، ومن ثم خطر انخفاض الملء الذي لوحظ بالفعل على مدى السنوات العشر الماضية. ولقد تم استغلال أفضل مواقع السدود بالفعل، ومن ثم فإن التكلفة ستكون عالية جدا، وقد تساوي أو تفوق في بعض الأحيان تكلفة تحلية مياه البحر”، يؤكد خبراء الكتاب الأبيض.

ولمواجهة الطلب المتزايد على الماء، فإن المصدرين الوحيدين اللذين يمكنهما تحقيق وفرة حقيقية في الماء، وتخفيف العجز على مستوى الأحواض المائية، هما الحد من عمليات السحب عن طريق الري الخاص، وتقليل الفاقد في أنظمة المياه الصالحة للشرب والصرف الصحي.

إن التوجهات الاستراتيجية وممارسات القطاعات المستخدمة للمياه لا تتوافق بشكل عام مع خطة المياه الوطنية، فبرامج ومشاريع الاستثمارات القطاعية لا تأخذ بعين الاعتبار، في الغالب، التوافر المستدام لموارد المياه وتأثيراتها على بقية المستخدمين، كما أن الأنشطة التي تؤثر على جودة المياه وتدفقها السطحي، من قبيل الصناعة والتعدين والزراعة، لا تقترن عموما بالتدابير اللازمة للحفاظ على الموارد وحمايتها.

وإذا كانت سياسة السدود قد أثبتت بالفعل نجاعتها، منذ اعتمادها في ستينيات القرن الماضي، حيث نجحت إلى حد معقول في تأمين إمدادات الشرب للمدن، وتطوير أحواض زراعية مروية كبيرة، فإن سياسة الزيادة في الإمدادات المائية لم تعد فعالة، وقد بدأت تصل اليوم إلى حدودها، حيث أن بناء سدود جديدة في الأحواض المغلقة، حيث لا يحصل تدفق إلى البحر والصحراء، لن يكون له تأثير ظاهر على أحجام المياه المستعملة.

لكن السياسات الرسمية وهي تفكر أساسا في زيادة العرض، فإنها تتجاهل بشكل فظيع إدارة الطلب على الماء. ونعني بإدارة الطلب على المياه تشجيع الاستخدام الأفضل لإمدادات المياه المتاحة من خلال إدارة اقتصادية وفعالة، قبل أي تفكير في زيادة العرض.

ومن أوضح مظاهر القصور الذي يعتري تنظيم احتياطيات الماء، الفوضى الكبيرة السائدة في الاستخراج غير القانوني وتوسع المساحات المروية، انطلاقا من الفرشة المائية، نظرا لاستمرار الدولة في دعم الري الموضعي والمحاصيل الزراعية.

وعلى الرغم من استفادة قطاع المياه من دعم مالي هام، يظل استخدام هذه الموارد متميزا بنوع من انعدام الشفافية فيما يتعلق بالأولويات، حيث تتجه معظم المخصصات المالية لبناء السدود، كما أن الإعانات المالية لا تتوافق عادة مع إدارة ندرة المياه، خصوصا في قطاع الري، ويتم تسجيل ذلك، بشكل كبير، من خلال مخطط المغرب الأخضر وبرنامج التوسع في الري.

ويبقى العبء المالي الأكبر ملقى على كاهل الدولة، فرغم أن القانون ينص بشكل واضح على مساهمة مستخدمي المياه في تمويل وتعبئة المياه والري، فإنها تظل جد منخفضة.

مشهد مؤسساتي عبثي

يتميز المشهد المؤسساتي، المتدخل في قطاع الماء، بطغيان وهيمنة عدد كبير من المؤسسات، التي تتداخل وتتضارب اختصاصاتها في كثير من الأحيان.

“من تجليات ضعف حكامة قطاع الماء عدم استقرار القطاع الحكومي المشرف على تدبيره، وضعف الالتقائية بين المتدخلين، مما يجعل الرؤى تتعدد بتعدد الفاعلين وتتغير بتغير الأشخاص. وتؤدي هذه العوامل مجتمعة إلى غياب رؤية واضحة وبعيدة المدى لتدبير القطاع، بالرغم من وجود مخطط وطني للماء، والذي يعرف تنفيذه عدة تعثرات، في غياب تقييم موضوعي للوقوف على العراقيل التي تعوق تحقيق الأهداف المتوخاة منه”.

أما على مستوى الإطار القانوني، فإن قانون الماء 36-15 يواجه خلل عدم التطبيق الجزئي أو الكلي، فعلى سبيل الذكر ، مبدأ “المستخدم يدفع” بالنسبة للمياه الجوفية، والضوابط المتعلقة بحفر الآبار غير القانونية، التي لا زال يكتنفها الغموض، علاوة على القانون حول الدراسات بخصوص الأثر على البيئة، حيث تصبح هذه الدراسات في نهاية المطاف مجرد شكليات إدارية؛ كما أن عددا من النصوص التنظيمية لا تزال بطيئة، ما يضعنا في حالة فراغ قانوني إزاء بعض الحالات التي تكون موضع نزاع (نموذج: مبدأ الملوث عليه أن يدفع” ).

اقتراحات وتوصيات رسمية

تقترح لجنة النموذج التنموي، تعزيز الشفافية بشأن تكلفة الموارد المائية في كل مرحلة من مراحل تعبئتها، بدءا من تجميعها إلى غاية توزيعها، وترى أن مدخل ذلك يتأتى عبر إصلاح عميق للمكتب الوطني للكهرباء والماء الصالح للشرب، من خلال جعل الفرعين مستقلين ماليا، وكذا جعل الخدمات المقدمة من طرف البنيات التحتية (تخزين المياه، تخفيض صبيب الوديان خلال الفيضانات، الطاقة الكهرمائية) مؤدى عنها تدريجيا، لتوفير مداخيل تغطي مصاريف الصيانة والقيام بالاستثمارات اللازمة.

كما أوصت اللجنة بالرفع التدريجي لتعريفة الماء بالنسبة لكافة المستهلكين، من أجل ضمان أداء المقابل المالي لخدمة تعبئة هذه المياه، على أن تتحمل الدولة دعم أشطر الاستهلاك بالنسبة للأسر ذات الدخل المحدود.

ونصحت اللجنة بإحداث وكالة وطنية لتدبير الماء، لتعمل على التقائية السياسات العمومية والقطاعية، مع تنزيلها جهويا حسب كل حوض مائي. وأخيرا دعت اللجنة إلى ترشيد استعمال المياه الجوفية، من خلال اعتماد أنماط الاستغلال التي تأخذ بعين الاعتبار شرط القدرة على تجديد الفرشة المائية، واللجوء إلى تحلية مياه البحر، لتوفير مصدر مكمل ومضمون للتزود بالماء في المدن الساحلية، وتوفير موارد مائية للمساحات المسقية، وكذا معالجة وإعادة استعمال المياه العادمة بصفة منتظمة، لتلبية حاجيات المناطق المسقية وتخفيف الضغط عن السدود.

وقال المجلس الوطني لحقوق الإنسان، في مذكرة صادرة في أكتوبر 2022، إن تأثيرات الجفاف كانت واضحة على مستوى المدن الكبرى، كالدار البيضاء ومراكش، التي عرفت مشاكل كبيرة على مستوى التزود بالماء، وهو مؤشر خطير على حدة الإجهاد المائي الذي يعرفه المغرب.

ودعا المجلس في توصيته إلى ضرورة التعاطي مع الجفاف كمعطى بنيوي وليس ظرفي. ويتوقع المجلس أن يؤدي تفاقم الإجهاد المائي إلى فقدان حوالي 80 % من الموارد المائية، في غضون سنة 2025، ويتعين بالتالي، في تقدير المجلس، استثمار الأبحاث العلمية في مجال دراسة المناخ، لبناء نموذج افتراضي مستقبلي توقعي لتحولات المناخ خلال الـ 100 سنة القادمة.

وبدوره دعا إلى الانتقال في تدبير السياسات المائية من إدارة العرض، التي تفترض أن الماء متوفر لتغطية كل الحاجيات الاستهلاكية، سواء المنزلية أو الاقتصادية، إلى إدارة الطلب، حيث تكون الاستجابة على أساس ما تسمح به الوضعية المائية.

ووقف المجلس الوطني لحقوق الإنسان على انتشار بعض الزراعات الاستوائية المستهلكة للماء، كالبطيخ الأحمر والأفوكادو، في بعض المناطق الجافة، ما يهدد الاستقرار الاجتماعي في هذه المناطق.

وسجل المجلس أن التأخر في إيجاد حلول مستدامة، قائمة على التوازن الضروري بين أولوية توفير الماء الشروب من جهة، وتشجيع الأنشطة الزراعية من جهة ثانية، يمكن أن يؤدي على المديين القصير والمتوسط إلى موجات هجرة قروية كبيرة.

ونظرا لكونه موجها نحو العرض، يرى المجلس أن النموذج الخطي لتدبير المياه في المغرب يواجه وضعا صعبا يصعب التغلب عليه؛ لاسيما مع تحول مشاريع التوصيل، التي تهدف إلى ضمان توصيل الماء الصالح للشرب، وطرح كميات هائلة من المياه العادمة التي تؤثر على جميع البيئات المعيشية.

إقرأوا أيضاً:

من نفس المنطقة:

magnifiercrosschevron-down linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram